نص مسرحي: "التالي"/ تأليف: عمار نعمة جابر
نسمع وسط الظلام صوت ضربات بمطرقة .. تبدأ بصوت خافت ثم ترتفع .. تبدأ بطرقات متباعدة ثم تبدأ التسارع .. بعد ذلك تظهر بقعة ضوء .. فنشاهد الجد مستلقيا على سريره في عمق المسرح
الجد : لا ادري .. من أي مكان أبدأ ..
الأم : ( تلمس رأس الطفل ) حرارة الطفل مرتفعة جدا .. لا تريد أن تهبط .. ماذا أفعل ؟
الجد : في البدء .. احتاج إلى أن أعرف المقاسات ..
الأم: ( تتكلم مع الطفل ) لا تبكي يا صغيري ، سيصل الطبيب في أية لحظة ..
الجد: ( يبحث في المكان ) أين أجد مقياس الطول .. أين وضعته ؟
الأم: ( مع الطفل ) لقد أعطيتك كل العلاجات المتوفرة معي .. لكن ذلك لم يجدِ نفعا !
الجد: أنا متأكد أنني وضعته في مكان ما هنا ..
الأم : ماذا لو بقيت حرارته مرتفعة .. يا الهي .. ماذا سأفعل !
الجد: ( يقف متحيرا ) لم أجد مقياس الطول، كيف سيتسنى لي أن أعرف المقاسات الدقيقة؟ سوف تكون هناك أخطاء في المقاسات. أكيد ستكون هناك أخطاء. ربما سيكون أضيق، أو يكون أوسع. يا الهي ماذا سأفعل ! لن يكون في وسعي أن أصلح الأمر فيما بعد ..
الأم : ( تتكلم مع الجد ) هل تسمع الطفل يصرخ ؟
الجد: ألا ترين أنني أبحث ؟
الأم: ( تتحرك ) إن حرارته مرتفعة جدا .. ولا يرضى أن يسكت عن البكاء .
الجد: لن يتأخر الطبيب .. لا تخافي ..
الأم : أنا ..أخاف أن أفقد طفلي الوحيد ..
الجد: وأنا أحاول أن أكمل عملي بسرعة .. قبل أن يأتي السيّد ..
الأم : اراك غير مهتم بأمر الطفل ! أ ليس هو حفيدك الوحيد ..
الجد: لا استطيع أن أنسى ذلك .. لماذا تصرخين عندما تذكرينني بابني الوحيد .. ؟
الأم: لأنني أراك غير مهتم بأبني أنا ..
الجد: هو ابني أيضا .. ابن ابني .. هو ابني ..
الأم : انت لا تهتم بهذه الحرارة المرتفعة .. انها لا تريد أن تفارقه أبدا .. يا الهي ..
الجد: كل الاطفال يحدث لهم ذلك .. لا تخافي( يبحث ) أين وضعت المقياس ؟
الأم: كيف لا أخاف وهو طفلي الوحيد. ثم انك لا تعرف الكثير عن الاطفال. ليس لديك سوى ابنك الوحيد، زوجي ، وقد ولدته أمه وانت تقاتل في الحرب. لم تكن تراه الا ثلاث مرات فقط في العام .. كنت في الخطوط الامامية .. تتعلم أشياء أخرى لا علاقه لها بالأطفال ..
الجد: هذا ما اسمعه منك مرارا وتكرار. وكنت أسمعه سابقا من زوجتي ( يحاول أن يكمل الكلام، لكنه يتوقف و يذهب للبحث) لماذا لا أعرف مكان المقياس ..
الأم : الطفل يبكي ألا تسمع ( تحاول إسكات الطفل ) اسكت يا بني سيأتي الطبيب
الجد: ( يتحدث مع نفسه) هذا الاثاث سيكفي حتما. أنا أحتاج لقطع قليلة فقط . صحيح أنني بحاجة إلى طول مناسب، ولكن لن يكون الامر صعبا . سأجمع قطعتين أو ثلاث معا ..
الأم: أعرف أنك لازلت صغيرا على تحمل كل هذه الحرارة . كل هذا الالم ..
الجد: ( يتفحص خشب الاثاث ) خشب رث قديم. لقد مر عليه وقت طويل، تشعر حين تتحسسه كأنك تلمس السنوات البعيدة. سنوات عشناها معا في هذا البيت كنت احلم أن أحصل على خشب أفضل. ماذا عن خشب الصنوبر؟ كم كان سيكون الامر ذا قيمة أكبر، بهذا الخشب القديم سيكون كل شيء رطبا ومتآكلا كما الايام ..
الأم: ( مع الطفل ) قلبي يتفطر عليك. ماذا بوسعي أن أفعل سوى الانتظار؟ قال الطبيب انه لن يتأخر. أنا تحدثت اليه في الهاتف، قلت له أنه طفلي الوحيد ولا أملك طفلا آخر. ستبقى انفاسه الحارة تأكل روحي وتفتت قلبي، انه ابني.
الجد: ( ينظر في مرآة التسريحة ) هل؟ لا لن أبدأ بتحطيم التسريحة ..
الأم: سأصنع له كمادات أخرى (تخرج لإحضار الكمادات )
الجد: ( ينظر لنفسه في مرآة التسريحة) سوف أحتاجها في النظرة الأخيرة. أنا بحاجة الى أن أنظر ما بدت عليه الامور في آخر الامر. لقد وقفت أمامها لسنين طويلة، شاهدتني بكل مراحلي، فرجتني على أجمل وأقبح صوري. حفظت كل تفاصيل أيامي( يتحسس وجهه ) لم أنظر الى وجهي منذ وقت طويل. لقد اصبح وجهي قبيحا ! ربما أنني اراه اليوم بشكل مختلف. كنت اتمنى أن يكون ابني اليوم موجودا ( يذهب ويستلقي على السرير) بينما استلقي أنا على سرير الموت في ساعاتي الاخيرة، اجده على حافة سريري عيناه تغرورق بالدمع وهو يمسك يدي المجعدة بين يديه النظرتين، وشفتاي تبتسمان في عينيه كي اطمأنه أنني بخير. وان الرحيل لن يكون سيئا الى هذا الحد، وأن حزنه يؤلمني أنا واتمنى منه الصبر. فأنا رجل كبير السن وسأموت في كل الاحوال ..
الأم : (تتحدث مع الجد) هل جهزت كل شيء لمراسيم جنازتك الليلة ؟ لن تجد أحدا يقوم لك بذلك. أنا لن أفعل لك شيئا.
الجد: نعم .. اعرف انني لن أجد أحدا يقوم بمراسيم جنازتي. لذا اتصلت بدفان العائلة ليحجز لي مكانا لقبري، بالقرب من قبر زوجتي، واتصلت بالمُغسّل لأحجز لي دورا في مكان غسل الموتى هذه الليلة، واوصيته ان يعتني بي، واتصلت بمؤجر الجوادر والأواني من أجل تجهيز مستلزمات الفاتحة، والتي أوصيت جاري أن تكون أمام داري.. لم يتبق لي سوى التابوت ، وسأقوم بصنعه من أخشاب غرفة زواجي ..
الأم: ( تنادي ) ولكنها بالية .. !
الجد: لن يكون الأمر مهما .. سأكون ميتا .. لن أشعر بشيء ..
الأم: ولكن الجميع سيلاحظ ذلك !
الجد: أنا على فراش الموت. إنها ساعاتي الأخيرة ولا أملك الكثير من الوقت. وهذه الأخشاب آخر ما أمتلك.
الأم: سيكون الأمر بائسا ..
الجد: لا يهم ( يتحرك ) لا ينقصني الآن سوى حضور السيّد، لقراءة دعاء العديلة عند رأسي قبل أن أفقد السمع عند الموت. سأكمل التابوت قبل أن يصل، ولكن أين المقياس؟
الأم: (تصنع الكمادات للطفل) لا تضيع وقتك بالبحث عن المقياس. أنت موجود ..
الجد: (يتوقف) ماذا تقصدين ؟
الأم : قم بالقياس على حجم جسدك .. تمدد على الخشب ..
الجد: أنا اخاف أن لا يكفيني خشب الخزانة. وعندها سأكون في التابوت بأرجل معقوفة .
الأم : لن يكون ذلك مؤلما ..
الجد: لكنه سيكون مهينا (يبحث في الخزانة)
الأم : ماذا تظن نفسك فاعلا ؟
الجد: أحاول أن أفرغها من حاجيات زوجتي ( يخرج بدلة عرس بيضاء من الخزانة ) انظري انها بدلة زفافها، لازلت اذكر تلك الليلة. لقد تعبت كثيرا كي أحصل على رخصة من الخطوط الأمامية، كانت المعركة في أشدها، وكانت كل اذونات الاجازات متوقفة، فلم احصل على إجازة من وحدتي، خفت أن تبقى عروسي وحدها في ليلة الزفاف، كما حصل لأحد رفاقي، ولكن لحسن حظي، وربما لسوء حظه هو، مات احد شركائي في القصعة. مسكين كان يحب البصل، مات برصاصة قناص كأنها تعرفه، لقد حصلت بسبب موته على ثلاثة ايام اجازة. بموته هو، نمت أنا في سرير عروسي ( يشم في بدلة العرس) وشممت رائحتها بدلا من البارود ( يخرج من الخزانة البوم الصور. يجلس على حافة السرير ليقلب صفحاته )
الأم: المطر لا يريد أن يتوقف. ربما هو السبب الذي جعل الطبيب يتأخر. كيف سيصل إلى هنا؟ والمدينة اصبحت مكباً للنفايات.. والشوارع كلها مطبات. نحن نعيش في مدينة خربة .
الجد :( وهو يخرج ما في الخزانة) الافضل أن أجد بدلة نظيفة من بدلاتي التي كنت احبها، لكي ارتديها اليوم. نعم. يجب ان اكون بمظهر مناسب وانا في ساعاتي الاخيرة.. حسنا لن يطول الامر مع بدلتي، سيجردني المغسّل من كل ملابسي التي ارتديها . ثم يسرق بدلتي. حسنا اتمنى فقط ان يعتني بي ويغسّلني بصورة جيدة، ولا يبخل بالماء والصابون (يتوقف) كنت أخاف دائما من هذه اللحظة. حيث يمددونني عاريا على دكة المغيسل (يستلقي على السرير) وحدي بين أيدي المغسل. وحدي وعاريا ، يمرر يده على كل جسدي ثم يقلبني (لحظة) ماذا لو كان شاذا، ويطيل تحسس مؤخرتي بدعوى النظافة. أو بدعوى الدقة في العمل؟ يا الهي، ماذا سأفعل حينها ليس عندي ولد يدافع عن جسد أبيه (يقوم) كان من المفروض أن أموت، حين كان ابني موجودا، كان سيدافع عن جسدي. لقد تأخرت كثيرا..
( صمت ثم صوت طرقات بالمطرقة )
الجد: (مع الأم) هل تظنين انه اليوم المناسب للموت ؟
الأم: نعم .. أنا متأكدة من ذلك ..
الجد: (متعجبا) لماذا التأكيد .. هل تريدين التخلص مني ؟
الأم: قد تزداد الامور سوءا بالنسبة لك.. اذا أنت تأخرت اكثر. صدقني اليوم هو وقت مناسب، أي تأخير قد لا يكون لمصلحتك .
الجد: (وهو يحاول أن يرتدي بدلته) ربما أنت على حق (يتوسل) حسنا ارجوك، فقط اخبري السيّد أن يتأكد من موتي بصورة تامة. ولا يتعجل بنقل جثماني بسرعة، اخبريه ان هناك أشخاصا نعرفهم كانوا نصف موتى حين دفنوهم. لقد تعذبوا كثيرا حين استيقظوا وحدهم في القبر، شعور رهيب أن تجد نفسك في موقف كهذا .
الأم : (تنظر بمختلف الاتجاهات) لا أعرف ماذا سيحدث لصغيري اذا تأخر الطبيب. الكمادات لم تنفعه كثيرا، حرارته مرتفعة. اسمع انه يئن من الحرارة .
الجد : (وهو ينظر الى مظهره في المرآة) حاولي أن تنشري خبر موتي على كل قريباتي وجاراتي. أحب أن يكون نحيب النساء عليّ بصوت متداخل ومؤثر. لا أحب الموت بصمت. لست فارا من العسكرية، ولا محكوما بالإعدام كي تخاف النساء من الصراخ والنحيب. أوصي جميع النساء أن يصرخن، يصرخن بأعلى أصواتهن. لم أمت جبانا ولكنها نهاية الامر، المشهد الاخير، كما يحصل للجميع. ليس في موتي أي خزي ..
الأم : (تضع الكمادات .. تهز يدها مستهزئة بكلام الجد) الخزي هو تركك هذا الطفل يتألم، والذي قد يموت قبلك. وكل هذا بسببك أنت .
الجد : بل بسبب المطر. المطر هو الذي جعل الطبيب يتأخر، لست أنا . ( صـــــــمت )
الجد: (يسأل) عزرائيل هل يتأخر عن مواعيده؟ (يجيب) ابدا، لا يمكنه أن يتيه عن بيتي. ولا عن سريري . سيجدني حتما . وسينتزع روحي الليلة .
الأم: وماذا تظن سيفعل بها ؟
الجد: روحي.؟ لا أدري ..
الأم : وكيف عرفت بأن عزرائيل هو الذي سيحضر؟
الجد : أنا مؤمن أن هناك روح. وهناك جنة في مكان ما. حتما سيكون هناك مكان أفضل من هذا المكان(يتوقف برهة) يجب أن يكون هناك مكانا أفضل. وإلا ستبدو الحياة تافهة وسخيفة .
الأم : ولماذا لا تقول أي شيئ عن جهنم ؟
الجد :جهنم ! لقد عشت كل هذه الحياة في جهنم. رأيتها وعرفت ما هو الشعور حين تشتعل السماء من فوقك والارض من تحتك بلهيب الحديد والقنابل والصواريخ. لا أرغب أن تتكرر التجربة معي هناك ..
الأم : (تهز المهد) اريد أن يبقى طفلي معي هنا . لا أرغب أن يكون طيرا في الجنة، لقد امتلأت الجنة من طيور الحروب والمفخخات والاحزمة الناسفة. أريد أن يبقى طفلي في حضني.
الجد: (يجد الجد شيئا يبدأ بتحسسه) ساعتي السويسرية، ساعة أهداها لي آمر الفيلق. وفيها صورة الرئيس السابق. كانت تعني لي الكثير، كنت صديقا للرئيس حسب كتاب رسمي، رغم أنني لم أرَ صديقي العزيز في يوم ما ..
الأم : سيهبط الظلام سريعا ، كيف سيصل الطبيب الى بيتنا ؟
الجد: هذا آخر نهاراتي. ساعات وسينتهي كل شيء. يجب أن أكمل صنع التابوت، أين المطرقة؟ سأفكك الخزانة (يتحرك) ( يبدأ الجد بالضرب بالمطرقة على الخزانة .. ثم يسود الصمت )
الأم: كان يحمل جواز سفر اجنبي. كان يريد أن يتزوج بنتا من بلده الاصلي. كنت لا اعرف عنه سوى انه ابنك، وانه ترك البلد لإكمال دراسته ولم يرجع الى مدينته. طلب اللجوء، ثم حصل على الجنسية. كان يخاف أن يكون مصيره مثل مصير أبيه، ولكنه ولسبب ما، عاد ودخل مع الجيوش التي قتلت الرئيس السابق. وعدني بالكثير، جعلني أحلم بعيدا. رسم لي لوحة جديدة عن حياتي. وزرع ابنه في احشائي، ثم عاد مرة اخرى ليخرج مع الجيوش التي انسحبت، كأي غريب، وتركني. وترك طفله هذا بلا مصير.أين الطبيب؟ سيموت اذا لم يصل الطبيب، يا الهي.
الجد: (وهو يمد جسده على الخشب) سيكون هذا الطول مناسبا لجثتي، لا أريد أن أموت بساقين معقوفين..
الأم:(تحرك مهد الطفل) آه، كل شيء يقف ضد مهدك. كلهم يقفون بوجه طفلي .. ( يبدأ الجد بالضرب بالمطرقة على الخشب .. ويسود الصمت )
الجد: لقد تحدثت مع دفان العائلة وتوسلت اليه أن يرفق بعظامي، ولا يهشمها داخل حفرة صغيرة الحجم. وقلت له سأدفع لك مبلغا اضافيا ، لكي توسع في قبري .
الأم : دفان عائلتكم رجل بغيض جدا، تشعر أن لديه علاقة مع آفات القبور .
الجد: وهل سأخطب ابنته منه ليصبح نسيبي ! أنا سأكون ميتا بين يديه.. و أعرف تماما أنه ليس شاذا. لذا سأكون مطمئنا على مؤخرتي، ولا يهمني كثيرا شكل عينيه أو صوت زفير أنفاسه النتنه. حين يحتضن جثماني ليحشره في اللحد، حتما أنه لن يطبع قبلة حين يخرج خدي الايمن ليضعه على التراب. فقط سيلطم وجهي بحجره كبيرة ويقويها بالجص..
الأم : سيكون وجهه آخر وجه تراه ..
الجد : سيكون آخر وجه قبيح أراه .. (يبدأ الجد بالضرب بالمطرقة على الخشب .. ويسود الصمت )
الأم: الظلام التهم كل المدينة والطبيب لم يطرق بابي بعد ..
الجد: اخبريني عن ادوات مطبخك، هل وضعت قائمة بالآكلات التي ستقدمينها لضيوف الفاتحة التي ستقام بعد موتي ؟
الأم: أنت فقط قم بالموت.. وستراني أقوم بكل شيء على أكمل وجه ..
الجد : روحي تؤلمني ( صمت ثم يحدق في كفيه) لقد قتلت الكثير في الحروب التي شاركت فيها.وفي حفلات الإعدام، التي كنت مجبرا فيها على إطلاق النار. مسلسل حياتي مرعب، مظلم. كما هي ليلة الرحيل هذه. مشهدي الاخير . ( يطرق بالمطرقة على التابوت .. ثم صمت )
الأم : لقد قتل أبنك أضعاف ما قتلت انت. وآخر من سيقتله. هو طفلي هذا، لن أتركه يقتل طفلي (تصاب بهستريا تتحرك ) اين الطبيب؟ لا أريد أن يموت طفلي، لن اسمح لأحد أن يقتل طفلي(تحتضن المهد وتتحدث مع الطفل) ساراك حين تكبر بلا بندقية وبلا اعدامات. لن تتعلم من أحد كيف تحرز فرضة وشعيره. لن أسمح لهم أن يحولوك مسخا آخر لن ترث شيئا من معارك جدك وابيك. ( صمت .. ثم صوت طرقات على الباب )
الأم: (تتحرك بكل الاتجاهات) لقد وصل الطبيب. نعم وصل الطبيب، سأفتح له الباب انا قادمة انتظرني (تخرج)
الجد: حسنا .. السيّد هو الذي يطرق الباب، لا يهم . انا أصبحت مستعدا. هذا آخر مسمار في نعشي . ( يطرق المسمار .. ثم صمت )
الجد: آه .. لقد بدأت برودة الموت تصعد في قدمي ..
الأم : ( تدخل ) إنه السيّد لقد وصل. أما الطبيب فلم يصل بعد .
الجد: كنت أعرف، السيد هو الوحيد الذي لا ينفعه التأخر .. (يدخل السيّد رجل بلحية طويلة، وغطاء رأس. يذهب الى جنب سرير الجد)
السيّد: هل تريد أن تموت هذه الليلة أيها الهرم ؟
الجد: لست أنا من يريد.. ولكن الموت يريد أن يأخذني .
السيّد: ولكنك تبدو بصحة جيدة ! من قال لك أنك ستموت هذه الليلة؟
الجد : كل شيء. الاحداث والعلامات والرؤى . وحتى كلام الناس وتصرفاتهم، آخرهم كان طبيبي الخاص الذي حدد لي ليلة موتي(صمت) لقد انتهى زمني. ودخل هذا البيت بعصر آخر، عليّ الرحيل .
الأم : لماذا الطبيب غير مهتم به. الحرارة لا تغادر طفلي ..
السيّد :(مع الام) هل هذا الطفل يشكو الحرارة العالية ؟
الأم: نعم، ولقد تأخر الطبيب. هل رأيته في طريقك ؟
السيّد: لا ، لم اصادفه ولكن يمكنني أن أقرأ عليه بعض الكلمات لتنخفض حرارته. ما رأيك ؟
الأم: الكلمات لا شكرا . الكلمات لن تنفع طفلي، انها تنفع ذاك الرجل الذي يموت فقط ..
السيّد: طيب .. أتركيني أصنع له عوذة تضعينها في رقبته؟
الأم : لا .. لا أريد .. أنا لا أصدق بالخطوط والحروف التي ترسمونها على ورقة، انها لا تصنع المعجزات ..
السيّد: طيب، هل أعطيك هذا الحجر الكريم ليخفض حرارته ؟
الأم: حجر ! لا أريد .. الاحجار الصماء لا تملك أن تفعل أي شيء ..
السيّد: حسنا .. لم يتبق سوى أن أدعو له؟ ( يرفع يديه )
الأم: ادعو لجده فقط .. هو الذي سيدفع لك ..
السيّد: حسنا ، كما تشائين. ولكن، لا تتركي دعائك له ..
الجد: لا تتعب نفسك معها. لن ترى الابواب المفتوحة بين السماء والارض، فقدت ثقتها بأشياء كثيرة، والسماء في مقدمة تلك الاشياء ..
السيّد: حسنا .. بدلتك جميلة ..
الجد: اذا انا مت ، يمكنك أن تأخذها ..
السيد: (يبحث في كتاب في يده) دعاء العديلة سينفعك كثيرا، لن تهتز قيمك ولا اعتقاداتك، ولن تقوم بالعدول الى عقيدة أخرى .. لذا سمي دعاء العديلة ..
الجد: ما الذي يجعلك تظن أنني سأخرج عن معتقدي؟
السيد: صدمة الاكتشاف يا سيدي ..
الجد: هل الأمور سيئة إلى هذه الدرجة؟
السيد: لا أحد يعرف تفاصيل الأشياء هناك .. لم يرجع أحد من قبره ليخبرنا ..
الجد : ودعواتك هذه .. في أي شيء ستنفع؟
السيد: اظنها تنفع القلوب المرتجفة ..
الجد : أعرف كيف أصف ما جرى في حياتي .. حين يسألني الملكين .
السيد: لا، هم يعرفان ما جرى. ولكن يريدان أن يعرفان فقط، ما هو ثابت فيك، يهزانك من الداخل. فتهرب من بين شفتيك كل الكلمات، سوى تلك الراسخة ..
الجد: هل ستكون معركة ، أكثر وقعا من حروبي التي عشتها في الخطوط الامامية ؟
السيد: المواجهة هناك تختلف (يفتح كتابه) حسنا أريدك أن تسبل يديك ورجليك ، وتغمض عينيك .
الجد: هل يمكنني أن اسمع الدعاء وأنا جالس؟.
السيد: جالس ! حسنا قد لا يضر ..
الجد: ماذا لو كنت واقفا ؟
السيد: لماذا .. هل تريد أن تموت واقفا ، مثل الاشجار ..؟
الجد: لم أكن أرغب أن أموت مثل العجائز ..
السيد: المهم أن تسمع العديلة قبل موتك .. هذا هو المهم ..
الجد: حسنا ..
السيد: حاول أن تسترخي .. لا تشد أعصابك .. لن تتألم كثيرا ..
الجد: لست قلقا .. أنا في أفضل حالاتي ..
السيد: حاول أن تفكر في شيء واحد ..
الجد : ما هو ؟
السيد: حاول أن تجعل حياتك ، تمر أمام عينيك كشريط سينمائي ..
الجد: حسنا ( يغمض عينيه )
السيد: فلتبدأ .. منذ ساعة طلق أمك فيك .. ( لحظة صمت )
الجد: مسكينة أمي .. كانت لا تزال طفلة صغيرة حين ولدتني .. ( لحظة صمت )
السيد: انت الآن في مهد من الخوص، يهزك ابوك، بشاربيه الكبيرين ..
الجد : رجل بسيط. دخل الدنيا وخرج. وهو لم يدرك أكثر مما تدركه قدماه ، حين تخطوان .. نحو المزرعة .. ( لحظة صمت )
السيد: طفل في السابعة، تودع اباك ميتا وهو محمول على أكتاف أقاربه ..
الجد: لم أرى أمي ترتدي ثوبا غير الاسود. ولم أسمعها تشدو سوى النواعي، بعد هذا اليوم .. ( لحظة صمت )
السيد: طفل في الثانية عشر، اليوم الاول لك في العمل، الاستعباد عند فيتر السيارات ..
الجد: كم تعبت من أجل أن أحافظ على شرفي .. على عذريتي .. كلهم راودوني .. ( لحظة صمت )
السيد: وانت تسير بملابسك العسكرية .. وحدك .. نحو ارض المعارك .. التي لا تنتهي ..
الجد: حتى يوم زوجتني أمي من ابنة الجيران لم اخترها تماما مثل عشرات المعارك التي خضتها لخمسة وثلاثين عاما من عمري. لم اختر زمانها ولا مكانها . كانت تأتي وحسب، ويجب أن أقاتل ..
الأم:(تصرخ) طفلي، طفلي لا يتنفس. آه طفلي، قلبه توقف . يا الهي لا تمت يا صغيري، سيصل الطبيب يا الهي أصبح طفلي باردا، آه أصبح يابسا مثل الخشبة .. يا الهي ..
الجد: (يتحدث مع السيد) مات الطفل يا سيد. مات ابني الوحيد ..
السيد : لا أعتقد أنه يحتاج لدعاء العديلة. فهو لا زال صغيرا سيصبح طيرا من طيور الجنة ..
الجد: أما أنا فلم أمت. أنا لازلت حيا . مات الطفل فقط ..
السيد : لقد منحك الله عمرا آخر، مات هو فقط وستعيش ..
الأم :(تتحسس جسد الطفل) طفلي المسكين .. يا الهي ..
السيد :(مع الام) كلنا سنموت. لا تلمسي جسده سيتوجب عليك أن تغتسلي غسل مس الميت ..
الجد: إنه ابنها الوحيد. لقد مات للتو الا ترى ذلك ؟
السيد: من قال لك أنه سيكون طفلها الوحيد؟
الأم: (تتحدث مع السيد) ماذا تقصد؟ انه(تتحسس بطنها) يا الهي اشعر بحركة في بطني، انه .. انه .. هناك طفل في احشائي .. أنا .. أنا ..
السيد:(يتحدث مع الام) طفلك التالي سيبقى، سيعيش طويلا وسيحتاج للعديلة لا محالة كي يبقى ثابتا و لا يعدل ..
الأم: (تتقدم نحو المهد تهزه على مهل) حاول أن تنام يا صغيري حتى يصل الطبيب ..
السيد (يدعو بصوت رخيم) ” شَهِدَ اللهُ اَنَّهُ لا اِلـهَ اِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَاُولُوا الْعِلْمِ ، قآئِماً بِالْقِسْطِ ، لا اِلـهَ اِلاّ هُوَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ”
الأم ( تهز المهد وهي تغني بصوت منخفض ، مع بقاء السيد يرتل دعاء العديلة)[list icon=”enotype-icon-music” icon_color=”#ed8b36″ ]”قلبى خلص والروح .. مَلّت بالوعود .. ياهو الأنشده عليك .. يقلى ما يعود,ما ضل صدق بالناس .. ما ضل وفا اليوم .. يحجى بوجه وياك .. و خلافك يلوم..,ما لك يا ولفى اليوم مُغضِب عَلىَّ.. خَلْ ونتى وياك.. و الـــهم إلىَّ ..,قلبى خلص والروح .. مَلّت بالوعود .. ياهو الأنشده عليك .. يقلى ما يعود “[/list]
السيد: ( يرتل بصوت متداخل مع غناء الام ) “وَاَنَا الْعَبْدُ الضَّعيفٌ الْمُذْنِبُ الْعاصِىُ الْمحْتاجُ الْحَقيرُ، اَشْهَدُ لِمُنْعِمى وَخالِقى وَرازِقى وَمُكْرِمى كَما شَهِدَ لِذاتِهِ وَشَهِدَتْ لَهُ الْمَلائِكَةُ .. وَاَشْهَدُ اَنَّ الْمَوْتَ حَقٌّ .. وَمُسآءَلَةَ الْقَبْرِ حَقٌّ .. وَالْبَعْثَ حَقٌّ .. وَالنُّشُورَ حَقٌّ .. وَالصِّراطِ حَقٌّ.. وَالْميزانَ حَقٌّ .. وَالْحِسابَ حَقٌّ.. وَالْكِتابَ حَقٌّ .. وَالْجَنَّةَ حَقٌّ .. وَالنّارَ حَقٌّ .. وَاَنَّ السّاعَةَ اتِيَةٌ لا رَيْبَ فيها، وَاَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِى الْقُبُورِ ..” ( صمت .. ثم صوت مطر غزير .. )