الورقة التعقيبية للدكتور حسن عطية حول ندوة "المسرح وتفاعل الفرجات"/ متابعة: بشرى عمور
المحطـة الرابعة من المؤتمر الفكري للدورة 7 لمهرجان المسرح العربي
* مقدمـة:
“المسرح وتفاعل الفرجات” موضوع الندوة الرابعة من سلسلة المؤتمر الفكري للدورة السابعة لمهرجان المسرح العربي الذي نٌظم بالرباط (10 ـ 16 يناير 2015). الندوة كانت
من تنسيق الدكتور عبد الرحمان بنزيدان و مشاركة كل من: المخرج المغربي مسعود بوحسين الذي حدد آليات الفصل والإدماج في مفهوم الفرجة معتمدا على تقسيم حديث للفنون (فنون بسيطة، فنون مركبة و المسرح الراقص)، الشيء الذي ساعد على فتح إمكانيات الدمج بينها. أما الباحث د. حسن بحراوي فلقد اختار الحديث عن تلاقح الفرجة وتجربة الرائد المسرحي المغربي الطيب الصديقي التي استمدها من مواضيع و أشكال التراث المغربي. على نفس المنوال عرض الباحث عبد المجيد فنيش بحثا معنونا: “تفاعل الفرجات في مسرح الصديقي: الخام التراثي و رهان المسرح الشامل”. وفي مقاربة بين المسرح والأدب قدم الدكتور محمد أبو العلا ورقة بعنوان:”خميائي كويلو/ كمياء مسرح بروك السرد والفرجة (التقاطع و الإمتدادات)” طرح من خلالها أسئلة تتمحور حول علاقة الثقافة العربية مع الآخر/ الغرب. ومن خلال مشروعه المسرحي وسيرته الذاتية قربنا المسرحي الجزائري هارون كيلاني إلى تجربته المسرحية “مسرح الأغواطّ” من خلال ورقته:” فرجة بين عطر البخور و دخان المطاط”. بينما حدثنا الباحث التونسي محمد عبازة عن أهم التجارب المسرحية التونسية التي تفاعلت مع العديد من فنون الفرجة وكانت البداية مع فن القصّ الذي أغنى المكتبة العربية. كما سلط الضوء على بعض التجارب التي تفاعلت مع فنون الفرجوية كتلك التي تعلقت بالتراث التونسي لمحمد رجاء فرحات وأيضا التي ارتكنت على فن الرقص للفاضل الجزيري مع الموسيقار سمير العقربي ورجاء بن عمار و المنصف الصايم. كما وقف على تجربة الحبيب شبيل حول فرجة الفنون التشكلية.
وفي نهاية الندوة قام الباحث الأكاديمي و الناقد المصري الدكتور حسن عطية بتقديم ملخص عن كل هذه التدخلات والتي جاء كالتالي:
** الكونية وتناسج الثقافات/ أ.د. حسن عطية:
تحمل ندوة (المسرح وتفاعل الفرجات) عنوانا ذا دلالة يضع (المسرح) في تواز مع (تفاعل الفرجات)، سواء اعتبرنا الواو الفاصلة بين الكيانين واو عطف أو واو المعية، وفعل التفاعل بهذه الصيغة يلتصق بالفرجات، ويتعين وجودها بها ، بينما المقصود منه تفاعل الفرجات مع المسرح أو في المسرح حين دخولها لعالمه المقنن سلفا، أو تفاعل المسرح بفنون الفرجة حين اقتحامه لعالمها متعدد الأساليب، وفى الحالتين نحن أمام كيانين يتفاعل أحدهما مع الآخر لينتجا صيغة جديدة كمركب SYNTHÈSE ، غير تلك التي كان عليها المسرح قبل دخول هذه الفنون عليه، والعكس صحيح، مما يطرح سؤالا أوليا أليس المسرح، الذي مُنح لقب أبا الفنون، هو فن قائم على تفاعل داخله فنون فرجوية مع أخرى سابقة عليه، من رقص وغناء وبانتومايم وفن عمارة وفن تشكيلي، في صيغة مرئية سمعية مواجهية متفاعلة بدورها مع الجمهور الحاضر في بنية العرض المسرحي، وفى صالته متجاوبا أو مشاغبا أو رافضا للعرض المسرحي؟، وقد كان المسرح تاريخيا كذلك وحتى مع تعدد مدارسه وصياغاته في الزمن الراهن، فوصل إلى ما أسماه “ريتشارد فاجنر” ب (المسرح الشامل) وسمح (المسرح الوثائقي) باستخدام كافة أشكال الفرجة في صياغته المرئية سمعية .
هذا الحضور للمسرح بمفهومه كفن رابع يستخدم فنونا أخرى كلامية وغير كلامية منذ أيام اليونان حتى اليوم، وجه المداخلات المتميزة المقدمة في هذه الندوة إلى قراءة العنوان على النحو التالي : المسرح كفن غربي الصياغة وافد علينا من أوربا، والفرجات باعتبارها فنونا عربية تراثية الحضور وشعبية الممارسة، كالحكاواتية والفداوية والسامرية قابلة أو خاضعة للتمسرح، جنبا إلى جنب السير والملاحم والحكايات الشعبية، كموضوعات قابلة أو موظفة في الصياغة الدرامية، قادرة على التعبير عن مجتمعها بصياغات جمالية مستحدثة، بعد استنباتها في حقل الإبداع العربي، مثلها في ذلك مثل السينما والتليفزيون والنت، والتي لا ينشغل أحدا معها بطرح موضوعات حول الهوية والأصالة والمعاصرة وتوظيف الفنون الشعبية في بنيتها الجمالية الخاصة .
تنطلق مداخلات هذه الندوة بالطبع من أرضية فلسفية واجتماعية وثيقة الصلة بالمجتمع المعبرة عنه والمتوجهة إليه، مقدمة مقاربات جمالية ونقدية مغاربية، تفوز فيها المملكة المغربية بنصيب الأسد بأربعة مداخلات، بالإضافة لمداخلتين جزائرية وتونسية، وفى البدء نتوقف عند الرصد المعرفي لما قدمته هذه المداخلات، بصورة مكثفة، في محاولة لالتقاط المشترك والمختلف بين هذه المداخلات، والمشاركة بالحوار مع ما تم طرحه من مقاربات، حيث نجد أن ثمة مشتركات تجمع بين هذه المقاربات تكشف عن انطلاقها من هم مجتمعي جمالي راهن وهى :
(1) الميل في مجمل المداخلات للتطرق لفنون الفرجة التراثية والاجتماعية في البلدان المغاربية، استعادة لموضوع الحديث عن استنبات وتأصيل المسرح الغربي في التربة العربية، والكشف عن أسس التفاعل بين المسرحين الغربي الوافد والعربي المستنبت من ناحية، وهذا المسرح العربي في كليته بفنون شعبه التراثية من ناحية أخري، دون أن تصد هذه المداخلات نفسها عن التطور الحادث في المسرح الغربي، فالروح الإنساني هو المهيمن على هذه المداخلات دون نظرة عنصرية أو شوفونية، ورغم رفض ضمني من الغالبية لأنماط المسرح غربي الصياغة، نجد بصورة خاصة أفكار الفرنسي “انتونا أرتو” والبولندى “جروتوفسكي” قابعة في عمق الدراسة الراصدة لحركة المسرح في المغرب العربي، والداعية لتحرير الجسد والكشف عن الجانب الإنساني فيه وجعله محور الفرجة المسرحية المرجوة .
(2) وجود رغبة مضمرة في عدم الربط بين القضايا المطروحة في المداخلات بشبيهتها المطروحة في مسرح المشرق العربي، ويتجلى هذا في غياب أي ذكر لأية تجربة أو إشارة لهذا المسرح المشرقي المرتبط لغة وتاريخا وحياة مع المسرح المغربي، وإشارتنا هنا ليست حكما قيميا، بقدر ما هي ملاحظة موضوعية لما جاء في هذه المداخلات الممتازة.
(3) تهيمن على مجمل هذه المداخلات رؤية سوسيوثقافية ذات بعد انثروبولوجي يفتح المجال لرصد المسرح في علاقته بمجتمعه (هنا) و(الآن) من زواياه التاريخية والجغرافية من جهة، وفى علاقته التفاعلية مع مجتمعه وهوية شعبه من جهة أخري، وهو أمر محمود ومتفق مع طبيعة الموضوع المطروح للمناقشة، ولذا فالمجتمع حاضر في غالبية المداخلات المطروحة، والنظر للمسرح وتطوره وتفاعله مع فنون الفرجة يمر عبر هذا المجتمع المستهدف .
(4) إن مداخلات ثلاث من المداخلات المغربية الأربع دارت بصورة أساسية حول تجربة المخرج المغربي الكبير “الطيب الصديقي” أو مشيرة إليه، مما يعنى امتلاك هذا المسرحي القدح المعلى في المسرح المغربي عامة، وفى نطاق موضوع الندوة الدائر حول علاقة المسرح الغربي بفنون الفرجة التراثية والشعبية، دونا عن بقية المسرحيين والاتجاهات المغربية ذات العلاقة بالموضوع، كما يبدو من المداخلات .
(5) تغلب على كتابة المداخلات سمة البوح المستدعى لذكريات الأمس الخاصة والقراءات الشخصية، والصياغة الأسلوبية رقيقة الحاشية، واللغة الإيحائية التي تكاد تقترب من جماليات اللغة الشعرية، المعبرة عن حس فني راق ينأى عن المنهجية العلمية الجافة وقواعدها الأكاديمية .
وإذا ما توقفنا بشيء من التفصيل عند المداخلات المشاركة، بداية مع مداخلة الباحث التونسي د. “محمد عبازة” التي تدور وفقا لعنوانها حول (المسرح التونسي وفنون الفرجة) والمنطلقة من رصد علاقة المسرح كفن جماعي وافد علينا في منتصف القرن التاسع عشر بالفنون الفرجوية الأخرى، متوقفا عند ثلاث تجليات من هذه العلاقة بين (المسرح) كفن غربي استقرت أشكال صياغاته على نحو معين و(فنون الفرجة) متعددة الصياغات، يتمحور تجليان منهما حول فنون الفرجة التراثية، وهما : (فن القص) العربي، ونموذجه الدال عرض (الجازية) المستلهم من السيرة الهلالية، والذي قام فيه كاتبه ومخرجه “محمد رجاء فرحات” بتونسة شخصيتها المختارة “الجازية” لغة ورداء وهودجا، مدفوعا بغيرة على الثقافة الوطنية، ورغبة منه ورهط من المثقفين معه في عدم إهمالها، وتشبثا بعشق أبطالها، وشغفا بإحيائها وإعطائها روحا جديدة مع العرض المسرحي. والثاني هو (فن الرقص) المقدس منه، والمرتبط بالرقص الصوفي والإنشاد المصاحب له، في تجربة (الحضرة) للفاضل الجزيري، أو غير المقدس في تجارب مسرح (فو) ل”رجاء بن عمار” و”المنصف الصايم” وتأثرهما بأفكار “أنتونا أرتو” الرافضة لمسرح الكلمة، وتجربة المسرح الراقص عند “بينا باوش”، ومستفيدا من تراث الرقص الشرقي وتوظيفه جماليا في هذا المسرح. أما التجلي الثالث والذي يعده تجليا لفن جديد “لا ينتمي إلى الذاكرة الفنية التونسيّة ومرجعياتها التاريخية”، فهو المتعلق ب (الفنون التشكيلية) سواء بنقل الاهتمام بالصورة للمسرح، وهو أمر لا يختص المسرح العربي به فقط، أو بجذب المتلقي إلى ساحة الفن التشكيلي المنفلت من فضاء اللوحة لفضاء المعرض، وهو أمر ليس بجديد فقد عرفته معارض الفن التشكيلي في العالم، غير أن أهم ما تراه المداخلة في علاقة الفن التشكيلي بالمسرح، ليس مجرد صياغة فضاء المسرح سينوجرافيا، بل ابتداعه صيغة جديدة هي (performance) التي تنشغل المداخلة بالحديث عنها، باعتبارها تجلى لعلاقة الفن التشكيلي بفن المسرح، وصيغة ما بعد حداثية، ترفض “الخرافة (ترجمة لكلمة mythose والمعروفة اليوم بالحبكة) والملفوظ والخيال في المسرح التقليدي، ويصبح معها الفنان التشكيلي مُؤَدّيا وليس ممثلا لأنه لا يتقمص شخصية وإنما يظهر أمام المشاهد باسمه الحقيقي الواقعي”، وهو في الحقيقة ما يخرج هذا الفنان التشكيلي من عالم المسرح المؤسس على فكرة (التمثيل) والقائمة على تجسيد الممثل لشخصية “هاملت” أو “أورست” أو دياب أبن غانم” دون أن يكون هو تلك الشخصية مهما تماهي فيها لحظة تقديمها، أما أن يحتفظ الفنان التشكيلي باسمه وشخصيته ويظل مؤديا لا ممثلا، فسوف يبقى في دائرة فرجة التشكيلي دون قدرة على الولوج لعالم المسرح الإيهامي، ومن ثم فأن النماذج التي قدمتها المداخلة لعروض الأستاذ بالمعهد العالي للفنون التشكيلية بسوسة “حافظ جديدي” مع طلبته في الخروج للشوارع وتقديم عروض طقسية تعتمد على حركة الجسد وأصوات الآلات الموسيقية المصاحبة دون نص أو تفاعل مع الجمهور، فستبدو عروضا فرجوية لم تحقق تناسجا مع فن المسرح.
من الجزائر يأتي صوت المخرج “هارون كيلاني” عبر مداخلته الموسومة ب (فرجة بين عطر البخور ودخان المطاط)، والمصاغة في مونولوج شاعري اللغة، يتتبع عبره حركته الإبداعية كسيرة ذاتية ونموذج دال على موضوع علاقة المسرح بالفنون الفرجوية، وذلك منذ طفولته حتى شبابه وتكوينه لفرقته الشعبية (مسرح الأغواط) بخصوصيتها القائمة على الطقسية التي تمتلك عبق بخورها الفواح من مدينته (اغواط) الصوفية، وتستند دعائمها على أفكار الفرنسي “انتونا ارتو” أيضا ونظريته عن مسرح القسوة والدور الفاعل للجسد في فنون الفرجة المسرحية، وكذلك أفكار “جروتوفسكي” ومسرحه الفقير، وتؤسس وجودها وسط دخان المطاط المحترق في الشوارع العربية المضطربة، منطلقة نحو الساحات والأودية والقصور القديمة ومنازل الجن والسحر في الجنوب الجزائري، مستهدفة في النهاية تقديم نص شعائري له وقع قراءة القرآن على أفئدة المتلقين، فيذوب المتلقي مع الجماعة في الذكر الذي صار طقسا مسرحيا، لا تعود الجماعة الذاكرة لحالها إلا عند ختم رئيس الجلسة الذكر بالدعاء والتوسل ثم تقديم الشاي و الحلوى، إنه السير في طريق إعادة تقديم الطقوس الشعبية المغاربية بكل القسوة والرعب التي تقدمها في حلقات الجدبة على سبيل المثال، والتي تشبه الزار في المشرق العربي، وأن كانت أكثر عنفا، ويراها السيد “هارون كيلانى” أنها ” أشد قسوة واشد خوفا وأكثر عمقا وروحا” من مسرح قسوة “أرتو” ومسرح رعب “أرابال”، واللذين يعتبرهما ليس أكثر من مبتدأين مقارنة بها .
تدور المداخلتان الأوليتين من المداخلات الثلاث المغربية حول مكانة المسرحي الكبير “الطيب الصديقي” في المسرح المغربي، فيراه الباحث “حسن بحراوي” “المسرحي العربي الأول في هذا النطاق (مسرحة الفرجات الشعبية) والأكثر استلهاما للميراث الفرجوي الشعبي وتوظيفا لمظاهره وجمالياته” ، ويري الباحث “عبد المجيد فنيش” أن تجربة الصديقي “شكلت فعلا أهم نزوع مسرحي عربي نحو فهم جديد لتفاعل الفرجات المتعددة داخل العرض المسرحي” , وتتخذ المداخلتان مسارا متقاربا في رصد تجربة “الصديقى” المسرحية، وانتقاله من الأوربي الكلاسيكي الذي عرفه وخبره في فرنسا ونقله معه لأرض وطنه ، إلى المغربي الشعبي الذي عايشه وسط أسرته وأهله في الساحات الشعبية، فيقدم الباحث المغربي “حسن بحراوى” تجربة “الطيب الصديقي” كتجربة رائدة في استلهام التراث الفرجوي المغربي في المسرح المعاصر، وذلك على طريق “ترسيخ هوية مسرح عربي يبحث عن أصالته المفتقدة وربطه بتطورات المسرح العالمي”، منهيا مداخلته المتتبعة لحياة “الصديقي” الفنية بمجموعة من التساؤلات شديدة الأهمية حول تحول “الصديقى” من الدراسة الأكاديمية التي تلقاها في فرنسا وعاد بمنجزاتها الأوربية إلى المغرب، وقدم ألوانا منها اقتباسا عن نصوص كلاسيكية أو تقديما لعوالم مسرح العبث، ثم سعيه فيما بعد لإنجاز مسرح شعبي ينهل من فنون التراث العربي الأدبية والفرجوية ، وموليا وجهه نحو الأشكال الماقبل مسرحية الفطرية، عابرا بها “من الشكل الكلاسيكي للمسرح الموروث عن الغرب إلى مظاهر الفرجة الفطرية المترسخة في الوجدان الشعبي والعربي”، ومتسائلا هل كان ذلك انتصارا منه للفطري والمعيش على النظامي المقنن؟، أو تشبّثا بالتلقائي والأصيل على حساب النخبوي والمستنسخ؟، أم إلغاءً للقطائع القائمة بين عالمين متنابذين وتحديا لشرط تاريخي حان الوقت لتجاوزه؟ .
أسئلة دفعتنا لإعادة قراءة مداخلته مرة أخرى، كشفا لهذا الوعي من المداخلة لعالم “الصديقي”، إدراكا منها أن توجه “الصديقي” في البداية للاقتباس عن الربرتوار الأوربي، لم يكن توجها أصيلا منه، بقدر ما هو مسايرة لواقع لم ينضج داخله بعد الفن المسرحي، لذا كانت النصوص المعدة عن الغرب تشبه عند “الصديقي” “المادة الخام لتجريب طاقته في المعالجة الدرامية، وتقريب الذخيرة المسرحية الإنسانية من المشاهد المغربي”، ثم سرعان ما ينخرط في تجارب تستمد من التراث المغربي موضوعها وأشكالها، وتنتج ما عرف بمسرح الحلقة الفرجوى، ثم مسرح البساط الساخر، متمكنا “من تجسير الهوة التي ظلت تفصل بين الثقافة العربية والفن المسرحي الحديث”، وعليه فالتفاعل بين الفرجات الشعبية والتراثية في مسرح “الصديقى” حقق بهذه الرؤية مسرحا حديثا غير منفصل عن الثقافة العربية .
وعلى حين يشيد الباحث “عبد المجيد فنيش” بتجربة “الصديقي”، كما ذكرنا سابقا، فأنه لا يكتفي في نهاية بحثه الجاد بهذه الإشادة، بل يستطرد قائلا “أن هذه التجربة صنعت تميزها و فعاليتها لكونها كانت واضحة الأدوات وظلت وفية لها في منحى تصاعدي إلى أن يمكن القول إنها اكتملت ثم استنفذت مهامها“، محللا من منظور أنثربولوجي تتابعي لأبرز عروض الصديقي في مرحلتيه الكلاسيكية التقليدية الدائرة في فلك الربريتوار الأوربي، ثم التراثية الشعبية الفرجوية التي تمحورت حول (مسرح الحلقة) ونماذجه المتعددة، منتهيا إلى استنفاد تجربة “الصديقي” هذه لمهامها بعد أن اكتملت، وأغلقت الستار على إبداعها، بعرض (الإمتاع والموانسة) عام 1984 ، وفيه “تخلى الصديقي عن مقومات المسرح الشعبي من “حلقة” و “حكواتي” , و أهتم أكثر بربط وانسياب الأحداث عبر خط درامي يلعب فيه الحوار الدور الأكبر”، فعادت للكلمة المنطوقة قوتها، وتوارت فنون الفرجة الأخرى خلفها، منتقلا بذلك من مسرح الحلقة إلى مسرح البساط، في السنوات الخمس الأخيرة من القرن الماضي، فصارت فرجة البساط هي اللون التمثيلي الذي “لم تكتمل ملامحه ليكون مسرحا بمفهومه الحديث” .
أقام د. “مسعود بو حسين” مداخلته على فكرة تلاقح الفرجات في الغرب ووهم المقاربة التاريخية – التقدمية ، نتعرضا لآليات الفصل والإدماج في مفهوم الفرجة، على حين جاء من على الجانب الأخر من نهر الرؤى لعلاقة المسرح بفنون الفرجة، وبموقف حاسم يبشر بمسرح كوني، يرفض معه تمركز الذات الوطنية الأعمي، عربية أو غير عربية، حول تراثها وثقافتها الخاصة، فالثقافة عند الكاتب المسرحي والأكاديمي د. “محمد أبو العلا”، بتعدد أوجهها ومجتمعاتها، هي إنسانية، و”الإنسان أكبر من أن تحدده ثقافته”، وفقا لمقولة المخرج الإنجليزى “بيتر بروك” المستشهد بها، والفرجة هي كونية، تتخطى الثقافة الواحدة، والدين الواحد، والعرق الواحد كما ترى الباحثة الألمانية “إريكا فيشر- ليشته”، وتتجاوز في نفس الوقت العولمة المهووسة بالهيمنة الثقافية وغير الثقافية على شعوب الأرض. هو رأى مغاير لما طرحته المداخلات السابقة، يجعله يطالب العرب بالكف عما اسماه “الدفاع المستميت عن الهوية والموروث الثقافي والاجتماعي والقيمي في وجه زحف الحداثة الجارف”، هذه الحداثة الغربية المنشأ والحاملة “لقيم كونية” لا يجوز التردد أمام الأخذ بها باسم “الخصوصية والهوية”، مطالبا بضرورة “الاحتذاء بالغرب” الساعي لإلغاء تمركز الوعي الأوربي ومسرحه حول الهوية الغربية، والمنفتح بالتالي على هويات وثقافات مجتمعات الكون المختلفة .
وفى قراءته لما تم إنجازه في المسرح المغربي من عروض حاولت إحداث التفاعل أو التناسج بين المسرحي والفرجوي، يرى، متفقا في هذا معا د.”حسن يوسفى”، أن ثمة هشاشة في استيعاب التجارب المسرحية، وهى تستثمر طقس الحلقة في المسرح، لجدلية التباعد والتقارب بين الفرجوى والتمسرح، ففي حين يركز الفرجوى على قوة التأثير في المتفرج بكافة الوسائل المسرحية وغير المسرحية، يسعي التمسرح لإخضاع الفرجوي لقواعد المسرح المقننة سلفا، وهو ما يجعله يدين تجربة “الطيب الصديقى” وبعض من رموز المسرح المغربي باعتبارها “فلكلرة” للمسرح ، وجنوح نحو فخ “التراثوية الماهوية” ، والتصاق بالهوية العربية التي تتغافل عن وجود ثقافة الآخر (الغربي) ، والذي يرى أن الحل يكمن في (احتضان مشروع التفاعل بين الثقافات من خلال الفرجة) التي تسمح بالعبور إلى ثقافة الآخر بدلا من استعادة واهمة لمنجزه، وعبر التحرر من “ثقل القبليات المسبقة عنه”، مع ضرورة السعي للابتعاد عن (الأصل) ابتعادا “عن أفق ضيق لم ينتج على امتداد قرون سوى ما أتصل بتضخم أنا مشبعة بلغة القول وبنفي الآخر”، وهو ما صار في رأى الباحث ملمحا عاما للثقافة الغربية، يطمح في أن نفعل مثله، مبتعدين عن الأنا العربية النافية للأنا الأوربية، والدائر سعيها المسرحي حول الأصل والأصالة والتأصيل، مقابل انفتاح غربي على الكون، تدعمه المداخلة بأفكار “كويلو” و”بروك” و”دريدا” و”هابرماس” .
وإذا كانت المداخلة تنتهي بتساؤل هو (هل نحن خيمائيون؟) .. أي هل يمكن لنا أن نكون مثل الفتى الأندلسي “سنتياجو” بطل رواية (الخيميائى) للروائي البرتغالي “كويلو”، الذي نجح في أن يخرج من عالمه المحدود لكون أوسع وأكثر إنسانية، فنخرج من عزلتنا الوطنية القومية لرحاب الكونية الموحدة للإنسانية في وحده تتجاوز الجغرافيا والتاريخ؟ .
وهو ما يدفعنا لطرح عدة أسئلة في المقابل بغرض التحاور: هل هذه الثقافة الكونية الإنسانية، التي تبشر بها عقول من شمال المتوسط المتقدم هي البديل الأوربي الجديد للثقافة العولمية الأمريكية التي سعت في الأساس لتجاوز الثقافات الوطنية لصالح هيمنة الثقافة الأمريكية التقنية على العالم مدعومة بسلاح المارينز؟، وهل وصفها بالإنسانية يوثق علاقتها بالفلسفة الإنسانية (Humanism) التي جاهدت في التواجد خلال القرنين الماضيين، واضعة الإنسان في مركز الكون، ونافية للعرق والدين والثقافة الواحدة، وواصلة في العقود الأخيرة إلى ربط أهدافها بجمعيات حقوق الإنسان المتعددة مثل (Human Rights Watch) و(المساواة بين الجنسين) والمناوئة لمفهوم الدولة لصالح مفهوم الفرد الإنساني الحر؟، وهل تناسج ثقافات الفرجة الوطنية في بنية كونية، تؤسس للفضاء البيني، والذي يستبدل الاختلاف الثقافي بالتعدد الثقافي، يؤدى لنضج العقل العربي ليماثل نظيره في أوربا أو اليابان؟، وهل على المسرح العربي أن يبحث أولا عن سبل التفاعل مع جمهوره وذائقته الخاصة عبر تفاعله مع فنونه الفرجوية الشعبية ليخلق ثقافته الخاصة التي يستطيع بها التفاعل مع ثقافات المجتمعات الأخرى؟ أم عليه أن يبدأ بتحقيق تناسج مع ثقافات وفنون فرجوية ومنجزات مسرحية غربية، وهو بعد كسيح غير قادر على بلورة ثقافته، والكشف عن فنونه، والإنجاز في مسرحه؟.
والحق أقول أنه لا أحد يطالب بإخضاع المسرح لفنون الفرجة الشعبية وفلسفتها الخاصة، ولا إخضاع فنون الفرجة هذه للمسرح بجمالياته التي ارتضينا إياها، فحينما استوردتا المسرح من أوربا، صار ملكا لنا مثل السينما والتليفزيون، وأصبحنا قادرين على تطويره، مثلما نطور الدراما السينمائية والتليفزيونية، ونجح كتابنا ومخرجينا في نسج فن الدراما المسرحية بفنون الفرجة الشعبية والتراثية والحياتية لتقديم مسرح مساير لحركة الواقع، ومعبر عن الجماهير المتشوقة للحرية والعدل، ومتوجه لها ليمنحها وعيا صحيحا بواقعها ويشحذها لتحقيق أحلامها، دون أن يطمس معالم كل الأشكال والظواهر الماقبل مسرحية من أراجوز وخيال ظل وحلقة وبساط وسامر، فهي مازالت قائمة، مادمت الجماعة الشعبية التي ابتدعتها مريدة لها، وراح البعض منها يختفي ذائبا في فنون أخرى، فذاب الأراجوز في مسرح العرائس، وحلت شاشة السينما بتقنياتها المبتكرة محل خيال الظل فقير الإمكانيات، وتضاءل حضور حلقات الجدبة أو دقات الزار في حياتنا مع تقدم العقل العربي وتخلصه من أوهام الميتافيزيقا. ونحن نعترف بأننا عرفنا المسرح عن الغرب، عرضا وكتابة وجماليات، لكن هذا لن يجعلنا أسرى الغرب، نتحرك وفقا لنظرياته المنطلقة من رؤيته للعالم، وننهج كل مناهجه وأساليب عرضه المرتبطة بذائقه مجتمعه الخاصة، بل علينا أن نعمل على تطوير هذا المسرح الذي امتلكناه ليصير عربيا مثلنا، فنشارك به في تناسج الثقافات الإنسانية من موقع الند للثقافات الأخرى لا من موقع المحتذى والمقتدى والمغلوب على أمره كما أشار ابن شمال أفريقيا منذ قرون “ابن خلدون”، ولنا في اجتهادات الكتاب والمخرجين العرب أسوة حسنة، ومنها الاحتفالية المغربية التي تعتبر المسرح حفلاً واحتفالاً وتواصلاً شعبياً ووجدانياً بين الذوات وحفراً في الذاكرة الشعبية وانفتاحاً على التراث الإنساني وبناءً مركباً من اللغات والفنون السينوجرافية التي تهدف إلى تقديم فرجة احتفالية قوامها المتعة، والمستغرب أن أيا من المداخلات القيمة التي أدرجت في هذا الندوة لم تتعرض لتجارب الاحتفالية في المسرح العربي في المغرب، وهى التي لها سند مجتمعي في ظهورها، وامتداد فكرى مع المشرق العربي، ووعى جمالي بالغرب المتقدم دون انصياع لجمالياته.