مهرجان المسرحيين العرب في المغرب، ما له وما عليه/ بقلم: راضي د. شحادة

في لقاء عربي مهيب لم يسبق له مثيل اجتمع مبدعون ومفكرون وباحثون من تسع عشرة دولة عربية في مدينة الرباط في المغرب في الدورة السابعة لمهرجان الهيئة العربية للمسرح لكي يدلوا بدلائم الإبداعية المسرحية، وهو مهرجان يتنقل تباعا كل سنة في إحدى الدول العربية. كانت هذه الّلمّة التفاعلية هي بطلة المهرجان
وزبدة فائدته. منذ انطلاقة هذه التظاهرة المسرحية الفريدة من نوعها والتي اتّخذت طابعاً قومياً عربياً مميّزاً، في مرحلة تمرّ بها المنطقة العربية مرحلة تخبّطات ومحاولات ثورات وتقلّبات تثير الإرباك والارتباك والشعور بالضّياع وبعض الإحباط، أسفرت عن عملية مخاض عسير لا يمكن أن نفصله عن واقع التحرّك الإبداعي لمجال مهمّ في حياتنا العربية وهو مجال المسرح الذي من المفروض أن يكون قائدا فكرياً وإبداعياً وسبيلا نيّرا يلمّح لنا ولو بالقليل عن مصير مستقبلنا في عالمنا المميّز بلغته وقوميته كعالم عربي تنعكس تأثّراته العنيفة من واقع العالم بمجمله. لن أدّعي بأنّه بمقدور المسرح أن يقوم بثورة فجائية أو أن يطرح حلول القضايا مصيرية في مرحلة عجز الحكام والشعوب بكل ما لديها من إمكانيات أمنية وعسكرية وسياسية واجتماعية ومؤسساتية لحماية الأوطان من الشّر المستطير المحدق بها، فالمسرح لا يستطيع أن يقوم بثورات فجائية بل يستطيع بنَفَسه الطويل أن يجذّر الوعي والذّائقة الجمالية وإنارة السبيل، ولكنّه على الأقل مطالب بحماية أمنه وذاته من خلال تقديمه حلوله الداخلية الخاصة به كما هم الشعوب والحكام مطالبون بذلك. وبالمجمل كانت الضائقة العامة التي تعاني منها الأمّة بمجملها تلقي بظلالها على مجال الأعمال المسرحية التي قُدّمت خلال المهرجان. لقد كانت هذه الّلمة مشحونة بطاقات شبابية تثير العجب العجاب كما عهدناها في طاقات الشباب الذين عبّرواسياسيا واجتماعياعن ثوراتهم المندفعة من داخلهم كالبركان عبر الهبّات العارمة التي اجتاحت عالمنابشكل مفاجيء، ولكن..
بدت معظم هذه الطاقات الشبابية مهدورة بسبب عدم قدرة المخرجين والمؤلفين علىإعطائها نفَس الخيل الأصيلة المتسابقة نحو نهاية السبق، أو نحو الوصول إلى زُبدة المسابقة التي تخلّلها المهرجان. بدا الشباب حيويين جدا ويحملون طاقات هائلة، ولكنها طاقات بقيت بمعظمها مهدورة أمام من درّبوهم وقادوهم إلى ساحة النزال المسرحي. بدا اهتزاز أقدامهم على خشبة المسرح وعدم وضوح الرؤية وكأنما هم يمشون على بيض ويخافون أنْ يدوسوه بعنف لئلا يتكسّر تحت وطأة انفعالاتهم. لم يكن هذا ذنبهم فهم مليئون بالحيوية والإشعاع والتفاني، ولكنّ طاقاتهم بدت مرتبكة وضائعة تحت سلطة إدارييهم ومخرجيهم ومؤلفيهم. هل قياداتنا الإبداعية صورة عن قياداتنا السياسية والاجتماعية؟
إنّ الوضع السياسي الاجتماعي الاقتصادي العام الْمُعاش الآن ينبهنا إلى أنّ العملية المسرحية الإبداعية العرضية غير قادرة على طرح الحلول أو المساهمة فيحلّها، فبدا الإبداع عاجزا عن طرح نفسه كمجال يساهم في التغيير الفوري، لا بل إنّ معظم العروض لم تستطع أنْ تحل مشاكلها الذاتية المضمونية والشكلية الجمالية لعناصرها المستعملة في اللعبة المسرحية، فبدت وكأنها جزء من الخلل العام الذي تمربه منطقتنا العربية من “فوضى خلّاقة”.
كانت اللّمّة من تسع عشرة دولة عربية هي المكسب الكبير من حيث التعرف على بعضنا البعض وتقديم رؤانا الفكرية والإبداعية متبادلين الخبرات والمعارف من خلال مجال المسرح الذي لا يتيح لنا هذه الفرصة عندما نعرض أعمالنا في جغرافيتنا المحصورة في نطاق فضاء ومكان سكنانا، فهو مجال محصور في مكان وزمان معينين، وليس كما هو الحال في سائر الفنون المعروضة بسرعة البرق عبر وسائل الميديا والتي لا تعرف الحدود الزمنية والمكانية المتمثلة بعصر السرعة. الجَمعة القومية من كل العالم العربي ولقاء العقول والفنانين كانت هي زبدة الحدث. تعرّفنا على مفكرين وفنانين ملمّين بالنظريات والمدارس المسرحية ولكنّ المنفذين لها على المنصة بشكل عام بدوا عاجزين عن تنفيذها. لَمّة المبدعين والمسرحيين العرب كانت هي الحدث الجميل الطّاغي والمؤثر على مجمل المهرجان.
إنّ الشعور بفقدان الأمن القومي العربي والتخبط في عدم القدرة على حماية الذات العربية وعملية الاختراق المفجع لأمننا العربي جعلنا نشعر بالعجز والفوضى والضياع. وقد وقعت بعض المسرحيات في فخ الشعارات الرنّانة والبكاء على الأطلال والتذمر والنحيب وجلد الذات والشعور بالعجز أمام هول ما يحدث. صحيح أنّ المسرح يثير التساؤلات أكثر من قدرته على طرح الحلول الحاسمة، ولكن حتى هذه التساؤلات في مجمل العروض كانت متواضعة وخجولة.
بدا المسرح كأنما هو مِثْل باقي مجالات حياة المرحلة الراهنة عاكساً بعض هذا العجز في طرح الجديد أو الفكر العميق الفلسفي الذي ينير الطريق ويشحذ الفكر ويرقى بالذائقة الجمالية، وليس الاكتفاء بطرح الواقع كما هو أو الهروب منه نحو الفرجة الجمالية التي هي أيضا من أهم ضرورات المسرح، كانت غير متوازنة فيما قُدّم منها في شكلها وفي مضمون المنطوق والتعبيري.
بدت المسرحيات التي تجرأت على طرح القضايا التي لها علاقة بواقع “الفوضى الخلاقة” التي نعيشها متورّطة في عَكْسِها لفكرٍ عاجز. إنّ المسرحيات التي تطرقت إلى الوضع الحالي لم ترقَ إلى هول الواقع الذي نعيشه، فبدا العرض عاجزاً عن طرح نفسه كمجال ثوري طويل النَّفَس مساهم في قوته لكي يكون في مستوى وعنف هذه المرحلة من تاريخ أمّتنا. لم يكن مطلوبا من العروض المسرحية أن تتطرّق إلى وضعنا الراهن، فهو أكبر من أن نطرح أنفسنا كأنبياء لتغييره والثورة عليه. كنا بحاجة إلى مَن ينبّهنا إلى أنّنا نجذّر في ذواتنا مسألة الوعي والرغبة في تغيير الواقع عن طريق لحفر في صخر الإبداع والجمال من خلال المسك بتلابيب العلاقة المتشابكة بين الفن وحركة المجتمع. إنّ فلسفة السهل الممتنع وهي أصعب الفلسفات تنفيذا في مجال المسرح جُوبِهَ ببعض العروض التي وَجدت في أسلوب الاستعراض الضخم إنتاجياً والباذخ مادّياً وسيلة للاستعراض المبالَغ ظَنّاً من مقدّميها بأنّهم سيُبهرون المتلقّي ويستدرّون إعجابه واستعراض العضلات الإبداعية متناسين أنّه كلما تضخّم العمل ازدادت شياطين تفاصيله القاتلة وبدوا كمن يحمل مائة بطيخة بيدٍ واحدة. لا بل ورّطهم ذلك في عدم القدرة على نقاء التفاصيل والوصول إلى التكامل في عناصر اللعبة المسرحية صعبة المنال، ما أوصلنا إلى معادلة مفادها أنّه كلما كان العمل غارقا في البذخ والضخامة أصبح أكثر تورّطاً بالفوضى والفَلَتان وأقلّ حظوة بالــ”فنيش” ” ”finish” النقي، فكلما تضخم العمل ازدادت الفوضى ونقص “الفينيش”، بحيث بدا القائمون عليه عاجزين عن لملمة ضخامته والتحكم بتفاصيله وتقنياته. أنا لست ضد الأعمال الضخمة والاستعراضية التي تغني حواس المشامع (المشاهد والسامع وهو مصطلح من اختراعي) وتقدّم له وجبة مسرحية فرجويّة ممتعة حتى وإن كان ذلك على طريقة المسرح التجاري في “برودويه”، ففي نهاية الأمر لا يمكن للمسرح أن يستغني عن الذائقة الجمالية للعرض وسعيه للترفريه، ولكن يجب أن يكون أصحابها واعين لمسألة عدم الوقوع في فخّ شيطان التفاصيلة والضّياع في اتّساع مكان وفضاء العرض. لم يكن من السهل انتهاج فلسفة السهل الممتنع كما شاهدنا ذلك في العرض المغربي “بين بين” والعرض اللبناني في مسرحية “الديكتاتور” في الدورة الخامسة للمهرجان، أو كما لاحظنا ذلك في العرض الفلسطيني “خيل تايهة”، وهذا الأخير بدا حاضرا بقوة في دورة الرباط لكي يعيد إلى القضية الفلسطينية مركزيتها كقضية محورية في مهب ريح العالم العربي بدون أن يلجأ إلى الشعارات الرنّانة. ونتساءل هل الواقع العربي الرهيب والضاغط الآن أكبر من أنْ يُترجم إلى عمل إبداعي، وكأنّما العملية المسرحية لا يمكن أن تهرب منسلطة هذا الواقع؟
لقد بدت معظم العروض مفتقرة إلى التوازن بين الفرجوي والمنطوق وكأنّما الفرجوي جاء على حساب المنطوق أو أنّ المنطوق جاء على حساب الفرجوي. لا بل إنّ بعض العروض في خطابيتها الفرجوية والشعاراتية والنّطقية انغلقت على ذاتها الجغرافية واللغوية، ولا نجازف في القول إنّها انتهجت أسلوب الرقص حول ذات منغلقة على ذاتها. كانت مشكلة ديكتاتورية اللهجات على حساب ديمقراطية الجسد وفرجته طاغية على بعض هذه العروض. صحيح أنّ اللغة العربية تجمعنا أكثر من شعوب الاتحاد الأوروبي، وصحيح أنّ وسائل الميديا الحديثة قرّبت المسافات بيننا في لهجاتنا العامية، وصحيح أنّ حكواتينا جدّنا الأكبر الذي أَعتبره الممثل الأول في المسرح العربي استطاع أن يهجّن الفصحى مع
اللهجات الشعبية وقدّم من خلالها سِيَرَهُ الشعبية واسعة الامتداد، إلا أنّ اللغة المنطوقة بدت تغريبيّة- بالمفهوم السلبي- في معظم العروض، وعندما لجأ المسرحيون إلى اللغة الفصحى لكي تشكِّل قاسماً مشتركاً بيننا بدت في شخصيتها المنطوقة مصطنعة وآليّة وصراخيّة ولا تخترق شغاف القلب ولم تكن سلسة بما فيه الكفاية لكي يكون الناتج عرضاً مقنعاً ومحبَّباً، وهذه المعضلة هي من أهمّ المعضلات التي نواجهها في مسرحنا العربي بحيث نجد أنفسنا قارئين بامتياز للغتنا العربية ولكننا نافرين من سماعها في مجال المسرح. ليس عيباً أن نخترع لغة عربية مشتركة ومفهومة فيما بيننا، ما دامت اللغة هي إحدى الأسس المشاركة بقوّة في عناصر اللعبة المسرحية، وأذكر على سبيل المثال مسرحية “صهيل الطين” للكاتب اسماعيل عبدالله التي عرضت في النسخة الخامسة لمهرجان الهيئة العربية في دولة قطر والتي كانت عملاً استعراضيا شاعريا جميلا تجلّت فيه اللغة الفصحى بروحها الحيّة والطبيعية والمعقولة.
وللأسف الشديد فقد لاحظتُ عند مواكبتي للنَّدوات الفكرية الغنية التي قامت على هامش المهرجان بأنّ معظمها كان يشوبه عنصر الرتابة والملل، فهي من المفروض أن لا تكون جافّة وحشويّة التعابير. إنّ لجوء المداخلين لأبحاثهم إلى تقديمها قراءةً بدلاً من طرحها ارتجالاً كأفكار طازجة، جعلها مملّة وذاهبة في الطول وليس في العمق، وبدت أكاديمية الهوى بالمعنى الجاف للكلمة، ما يتناقض وحيوية الموضوع المطروق وهو مجال المسرح الذي يتطلب شد الانتباه وإثارة التفكير ومن ثمّ إثارة النقاش والتبادلا الفكري، ما جعلني آتي لسماعها بشغف وتركي لبعضها في منتصف الطريق بشعورٍ من العبثيّة لافتقارها إلى لقاء العيون المتجابهة والمشحونة روحيا وكهربائيا من بعضها البعض، ولأنّ بعضها دار في فلك بعيد عن مجال المسرح. صحيح أنّها كانت مناسَبة ثمينة للتعرف على أهم العقول العربية العاملة في مجال المسرح عبر مجمل عالمنا العربي إلاأنّها لم تكن شافية للغليل وليست مغنية لمزيد من المعرفة. وصحيح أيضاً أنّ الندوات الفكرية لم تتطلّب منصة عرض مسرحي فضاؤه واسع ويتطلّب مجهودا جماعيا خارقاً، وأنّها كانت مقتصرة على النقاش الفكري الشفاهي حيث يقوم مقدّم المحاضرة بمهامه بمفرده، ما يجعل منبره أقلّ عبئا من هم العرض المسرحي متعدّد المتطلبات، ولكن ذلك لا يعفي مقدّمي الأبحاث منتعميق الفكرة بدلا من مطّها في الطول بلا جدوى، ولا يعفي مقدّمي العروض من تقديم لعبتهم على أتمّ وجه.
وأما العروض المسرحية المشاركة في فعاليات المهرجان ففي المجمل كنت أركّز جلّ تفكيري على تقييم تبعيتها لمذهب معين أو لمدرسة معيّنة تميّز تلك العروض، إلّا ما نَدَر منها، والتي حاولت أن تصوغ شخصيتها بشكل طَموح، أو حتى وإن كانت تمثّل مدرسة أو مذهبا عالميا أو عربيا ما من المذاهب التي رسمها المبدعون من قبلنا، فإنّني لم ألاحظ هذا التميّز، الّلهم إلّا بعض من حاولوا تهجين أسلوب غربي مع أسلوب شرقيّ، ولو نجح الأمر لكنّا بألف خير، ولكنها بدت كمشيةِ الغراب الذي قرّر أن يقلد الحجلة عندما لم تعجبه مشيته، فلا هو قلّدها كما يجب ولا هو استطاع أن يعود إلى مشيته الأصلية. إنّ المذاهب المسرحية المعهودة والمعروفة مصقولة بشكل متين ولا يعيب انتهاج إحداها حتى وإن كانت غربية المنشأ، ولكنّ العلّة في العروض أنّها لم تكن متينة بمتانة تلك المدارس، ولم تكن تنبّه أو تلمّح إلى طموح ذاتي لانتهاج مدرسة جديدة أو قديمة تخصّنا كعرب، فالعلّة ليست في النظريات والمذاهب والمدارس بل هي فيكيف وماذا وما هو  المسرح الذي نريده لأنفسنا.
وسأتجرأ على الاستنتاج بأنّه إذا كان هنالك حوالي خمسمائة عرض كانت قد قُدّمت للهيئة العربية للمسرح واختير منها تسعة للمسابقة وأنّه من المفروض أن تكون هذه العروض المختارة هي زبدة ما اختير، فهل ما استُثني كان زَبداً، وهل كانت الزُّبدة هي زُبدة فعلاً؟
طبعا لا يسعني إلا تقديم كل الاحترام للهيئة العربية على شفافيتها ونزاهتها، فالذنب ليس ذنبها، بل هي اختارت ما هو موجود أو ما قدّمه المسرحيون العرب من أعمال متنافسة للمسابقة وأعمال قُدّمت على هامش المسابقة، ولا يفوتني التنبيه إلى التقرير الذي قدّمته لجنة التحكيم الذي يصلح لأن يكون دستورا تنويريا للمستقبل لما تخلله من دقّة وشفافية وعدالة ووعي في التقييم.
[review]
* راضي د. شحادة ( مسرحي وكاتب وباحث فلسطيني)
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت