عرض مسرحي يسجل سبقاً إبداعياً آخر في مواجهة الدواعش..نساء إحسان عثمان يرسمن ملحمة الحاضر!!/ فاروق صبري

يوم  12-13/01  / 2015 عرضت في مدينة دهوك مسرحية “النساء المنتظرات” وهي من تأليف وإخراج الفنان إحسان عثمان . وسوف تعرض في بداية شهر شباط القادم في مدينتي أربيل والسلمانية ومن ثم تنتقل في الشهر الثالث إلى مدن ديار بكر وماردين
وإستنبول .ثم تسافر إلى ألمانيا كي تعرض في مهرجان “ماي فست” العالمي وذلك يوم 30|5|2015 وتمثل العراق وإقليمه كردستان مثلما صرح لنا الفنان إحسان عثمان وأكد أيضا أن المسرحية من إنتاج وزارة الثقافة-المديرية العامة للثقافة والفنون/ اربیل ومديرية المسرح في اربیل بالتعاون مع مديرية المسرح في دهوك.
ومسرحیة (النساء المنتظرات) فكرتها مأخوذة من مسرحیة (نساء طروادة) ليوربيدس وهي تروي قصص مجموعة من نساء معتقلات في معسكر يبدو كأنه في صحراء قاتلة وهذا المعسكر أقيم من قبل متطرفین أمثال داعش او أية منظمة إرهابیة تمارس فيه أبشع ممارسات القتل والتعذيب والاغتصاب تجاه النسوة واللواتي يتحدثن عن عذاباتهن وهن شهدن كيف تسرق وتحرق البيوت ويقتل الرجال والزرع وتؤخذ النساء كسبایا لهم تحت راية الله أكبر والتكبير …
وفي حكاية المسرحية تظهر مجموعة من النساء مكونة من 17 امرأة مختلفات في الأعمار والدين وهن في حالة یأس وإحباط ينتظرن قدرهن المأساوي من قبل الدواعش وهن یعرفن بأن ما هو أسوأ قادم لهن ومع ذلك يحاول بعضهن التماسك وعدم الانهيار والقبول بما هن عليه :
سينم: أعتقد أنهم إن لم یقتلونا جمیعا، فهم سيقتلونني بالتحديد!
غزال: لماذا سيقتلونك؟
سينم: لأنني أيزيدية و قبل أن يأخذوني من بين النساء الأخريات والإتيان بي إليكن، في الطريق كانوا يقولون لي أن مصيري هو الموت!
غزال: لماذا؟ هل هناك نساء أخريات غيرنا هنا؟
سينم: نعم و بالآلاف، فقط في المكان الذي كنت فيه، كانت هناك نحو 400 امرأة و فتاة، كن كلهن ايزيديات، لكن آخ فان طول لساني جعلهم يفصلونني عنهن. لكنني لا اشك بان القتل سيكون مصير جميعهن.
المرأة العمياء: (الى سينم) كفى، لا تكونن متشائمات، و لا تجمعن الأفكار السوداوية هنا.
الخادمة: من يدري بأنهم لن يأخذوننا من هنا و يبيعوننا في أسواق النخاسة بأرخص الأثمان؟
كولبهار: اصمتن و كفى ارتعاشا كالأرانب……
ولكن الشخصیة الرئيسية في العرض وهي الأم (دهولهت) التي تقود المجموعة تتدخل بین حین و آخر لتكسر أجواء اليأس والقنوط وتعطي النسوة بعض أمل يرفع من معنويات المسبيّات على أيدي هؤلاء الظلاميين ، وهذا الأمل يتعثر مع دخول أحد قادة الدواعش وهو(أبو قتاده) حيث يذكر النسوة بمصیرهن الأسود الذی ينتظرهن وهو توزيعهن على رجاله ومن ثم عرضهن في أسواق البيع والمحظوظة تبقى جارية للمقاتل حيث يمارس معها نكاحه الجهادي ومن منهن ترفض تتعرض للقتل والذبح .
وتتواصل الأم (دهولهت) كمركز لتخفيف وطأة ووحشية حالات الخوف التي تموج في أرواح النسوة السبايا من دون إعطائهن أفيون التمنيات الفارغة ، هي بالعكس من ذلك تذكر الوقائع الآنية والمتوقعة إيماناً منها بأن مواجهة ما هو أسوأ يجعلهن صابرات وقادرات على تجاوز المحنة :
دولت: أنا أعرف شيئا واحدا و هو أنهم سيفعلون بنا الأسوأ. سيتخذون منا جواري و خادمات، لكن خادمات لمن؟ و أين؟ تحت خيمة سوداء في الصحراء؟ ام في قرية مهجورة؟ أم في بلد غريب……
في هذا المفصل تتصاعد وتيرة الإيقاع الدرامي حيث ترجع الأم (دهولهت) مرّة أخرى لبث القوة في أرواح النسوة المسبيّات وذلك بمواجهتها المباشرة وتحديها الشجاع تجاه القتلة الذين لا يتوانون في قتل حفيدها من زوجة ابنها ازاد (كولبهار) وتحاول بكل جهدها لجعل النساء يصمدن ويتحدين إرادة الشر، وقد وظّف المخرج عثمان قصائد لشعراء كرد وأغاني من الموروث الشعبي مع ضرب على الدفوف في تصعيد لحالات التحدي وهنا تخاطب(دهولهت) بصلابة رائعة أحد القتلة الدواعش:
دولت: ضعه على الأرض! الأرض التي طالما أحببناها في وطننا، إلى الحد الذي أرقنا دمنا فداءً لها، ضعه علی هذه الأرض حتى إذا لم تكن أرضه، هذه الأرض ستصبح الآن له قصرا كبيرا، ستتحول إلى منزل ابدي، رغم انه سيكون مظلما، لكنه سيمنحه الإحساس بأنه في منزله، ضعه على الأرض و لا تخف، لن نبك و لن نقيم له عزاء……
لا يمنع أبداً تواصل المعاناة والموت والتهديدات اتساع طاقات التحمل والصبر والتحدي عند النسوة المسبيّات ، فنشاهد أم الشهيد الصغير (كولبهار) تنهض كشجرة جوز لا تهاب الرياح السوداء ، تنهض كامرأة ترفض الندب واللطم والصمت أمام هول فجيعتها بقتل طفلها ، متيقنة أن دماءه لن تذهب في مهب رياح القتلة السوداء وصارخة في وجوههم:
كولبهار: (تصرخ، تقترب من طفلها، و تحمله في حضنها) أنتم أيها الانفالجيون تختنقون في جرائمكم، لا انتصار لكم، لكي تفتخروا به! انتم قتلتم “ازاد ” و جميع رجالنا قتلوا، انتم دمرتم جميع المناطق، حرقتم شجرها و نهبتم حيواناتها.. طفل، نعم طفل واحد، كان قد بدأ للتو في الضحك، كنتم تخافونه، و تجتمعون في أمره! كنتم تخشون أن يكبر و يعيد إعمار هذه المنطقة؟ لتعلموا و تتأكدوا بان هذا التفكير بداية لنهايتكم، ستأكلون لحم بعضكم بحرب فيما بينكم، ستقعون في أيدي ظالم يفعل بكم ما تفعلونه بنا. هنا (تبدأ بحفر الأرض) سأحفر قبر طفلي و سیكبر وسیكبر مثل جبل كبير.
وفي هذه اللحظة الدرامية القاسية والمفجعة تظهر شخصیة بنت الأم (دهولهت) الصغيرة واسمها (هیڤي) أي الأمل لتقول بأن أحد مسؤولي الدواعش قد اختارها زوجة له ، ومع هذا الاختيار الوحشي لها لا تظهر هيفي بأنها خائفة ، بل بالعكس من ذلك تطمئن أمها وأمام جمیع المختطفات اللواتي يعتبرن قبولها للزواج من أحد القتلة عاراً عليها لكنها تؤكد بان یوم عرسها سیكون اخر یوم في حیاة هذا المتوحش الزوج الداعشي و سوف تقتله بیدها و تأخذ ثأر أبیها و جمیع الشهداء….
هيفي: لماذا اصمت و لماذا سأجلب العار لكن؟ آخ، أنتن لا تفهمن، لكن من الأفضل ان أقول أنكن على حق، يجب ان ألوذ بالصمت. (تصمت لبرهة) نعم نحن خسرنا المعركة و الانفالجيون انتصروا، يعني ماذا؟ ها؟ لنكن نحن الذين سقطوا و المنهوبين، لكن المستقبل حتما سيكون لنا، لان سقوط الإنسان ليس هزيمة! أنما الهزيمة هي أن نبقى حيث سقطنا! و نحن لن نبقى هنا، في موقع السقوط!..
ومع بكاء ورفض النسوة يتم العرس الأسود ، حيث يأتي أمير داعشي على حصان من حديد وسخ وصدئ يدفعه أربعة من مقاتلي الدواعش ، يركبون عليه (هيفي) وهي بملابس بيضاء فيما العريس يغرق بملابسه السوداء.
وقبيل نهاية العرض يظهر الحصان الحديدي ملطخا بالدماء ومن مكان أخر من المسرح ونشاهد (هيفي) وبيدها ساطور ضخم ونسمع هلاهل النساء المسبيّات.
في هذه اللحظة الدرامية يغيّر المخرج إحسان عثمان عنوان مسرحيته (النساء المنتظرات) وليكون العنوان (النساء المقاومات) ، فيدفع شخصية (هيفي ) إلى ترك غفوة الانتظار إلى حيث المواجهة الدموية مع القتلة ، تقرر النسوة المسبيّات وخاصة (دهولهت) التي تتجسد في أبعاد شخصيتها روح التمرد والتحدي المأخوذة من نيران جدها (كاوه) الحداد الذي قطع رأس الطاغية (أزدهاك) بساطور هو نفسه الساطور الذي استخدمته (هيفي) وهي تساهم في إزاحة غربان الدواعش..
ما يميّز هذا النص-العرض هو رؤيته الجمالية حيث تأسيس مشاهد بصرية ممتعة وعميقة في دلالاتها دون السقوط في البذخ البصري والاستعراضي ، وأيضاً جرأته في طرح مفاهيم تفضح اليقينيّات المتديّنة المتخلفة ، وهذه الجرأة الفكرية أعطت دوراً كبيراً لإظهار عقل الإنسان كونه يفكر ويتساءل ولا يقبل المقولات الغبية من أمثال (القناعة كنز لا يفنى) أو (الذي مكتوب على الجبين تشهده العين) أو لا يرضى الاستكانة والرضوخ للأقدار الغيبية والوعود غير المرئية لذلك يتجلى مواقف النسوة المسبيّات وخاصة (كولبهار) بعد اغتيال طفلها ، إذ ترفع رأسها إلى السماء وتقول:
كولبهار: يا رب لن افعل شيئا بعد هذا للفوز بجنتك، ما دمت أرى نفسي و من حولي هنا داخل أسوأ جهنم..
وفي سياق طروحات العرض الفكرية الجسور التي تتوالد وتتوضح وتتوسع مع تصاعد المواجهة بين القبح المتمثل بحضور داعش والجمال النابض في أرواح المسبيّات تذهب الأم (دهولهت) صوب طرح التساؤلات الجارحة والجريحة ، تساؤلات يراد منها شحن وعي الإنسان بالأضواء ، بطاقات روحية من أجل إزاحة الظلام والظلاميين الذين مهما اختلفت قومياتهم أو ألوان عماماتهم ، إن كانوا يتربعون على منابر الخطب في المساجد او الحسينيّات أو البرلمان إلا أنهم وبحكم (عقليتهم) المسكونة فيها الجن واليقين المتهرئ لا يتحملون مثل هذه التساؤلات وبل يحاولون تكفير من يطلقها مثلما أطلقتها هنا الأم:
دولت: يا أيها الذي لم يره احد.. يا ايها الذي نسميه نحن بـالله، رب العالمين، من أنت و ماذا أنت، هل أنت كل شيء و رب الجميع؟ لم نرك ولكن آمنا بك، لم نعرف اللغة و حفظنا القرآن، لم نكن نعرف لماذا علينا أن نصلي و كنا نصلي الخمسة كل يوم، لم نكن نعرف ماذا ستكون منفعة الجوع و العطش و كنا نصوم 30 يوما، و زار بيتك من استطاع اليه سبيلا و اعتمرنا، ماذا كان ان نفعل بعد، لكي لا يجري ما جرى بنا؟ اي دين، اي عرف و قانون في هذه الدنيا يسمح بإبادة الناس العُزَل و يسمح بخطف الرُضَع من حضن امهاتم و من ثم قتلهم ام بدفن الناس و هم أحياء؟ أية سورة تلك التي باسمك يؤنفلوننا؟ لم يحرقوا أموالنا و أملاكنا فقط بل حرقوا مساجدك و دمروها و هدموها! يا الله، كيف تستطيع ان تكون صبورا الى هذه الدرجة، فانا كعبدة صغيرة، كأم و كجدة لهؤلاء الأطفال لا أقدر ان ألوذ بالصمت! فكيف انت قادر على ذلك؟ كيف تقدر ان لا تتدخل و كل هذه الخليقة من عبيدك، أمام ناظريك و باسم سورك، يقومون بهذه الجرائم، قم و قل كن فيكون و اجعلهم كقوم لوط!! لا لا، اجعلهم كقوم نوح و أقم الطوفان، ربما بهذا الطوفان يغتسل وطني و كل العالم. يا الله ليس لنا وليَ غيرك!! لا تقبل بهذا الباطل و لا تصبر على فعل هؤلاء الكفرة………..
وهكذا تتوالى مشاهد الموت والبطولة والتحدي والوحشية في حياة نسوة تحولت سيرتهن ملاحم لا تقل درامية حكايتهن عن سيرة نساء طروادة والتي سجلها يوربيدس قبل ميلاد المسيح بقرون طويلة، فإذا كانت نساء يوربيدس (هيلين ، ميديا ، كاسندرا ) وغيرهن من الطرواديات اختلف الدارسون في تفسيراتهم حول بنيتها وأبعادها النفسية والإنسانية والاجتماعية إلا أن النقاد والمشاهدين سوف لن يختلفوا في توصيف يوميات نساء إحسان عثمان بملاحم الحاضر التي تأسست على أحدات مأساوية مجرياتها ، طقوسها ، إفرازاتها أكثر وحشية ورعباً من كوابيس النوم!!
بالإضافة إلى شخصية (ابو قتادة ) وهي الشخصية الرجالية الوحيدة في عرض مسرحية ” النساء المنتظرات” إلا أن شخصياتها الــ(17) أدتهن ممثلات جاء اختيارهن من جميع مناطق كردستان ، من (باشور) جنوبها ومن (باكور) شمالها ، ومن (روزههلات) شرقها ومن (روزئاڤا) غربها ويمكن القول أن المخرج إحسان عثمان ولأول مرة حاول رسم خارطة كردستان عبرهذا العرض المثير والمؤثر والذي يعتبر سبقاً إبداعياً ومعرفياً في تناول قضية الغزوة الجهادية الداعشية الظلامية للعراق وكردستانه.
والفنان إحسان عثمان حاصل على الدبلوم في المسرح عام 1989 ودخل عالم التمثيل المسرحي وشارك في العديد من الأعمال، وفي عام 1987 بدأ عمله كمخرج حيث أخرج العديد من المسرحيات، ومنذ عام 1991 وهو يعيش في ألمانيا وعمل كأول فنان كردي في مجال الأوبرا كممثل في أوبرا “فيزبادن” وعمل كمخرج مساعد في أوبرا “الناي الساحرة ” لموزارت وشارك في عامي 1988و1989 في مهرجان المنتدى المسرحي ببغداد وفي دورته عام 2013 فاز عرضه “بيت برناردا البا” على جائزة أحسن عمل متكامل . والفنان إحسان عثمان يعمل بجهد معرفي ويحاول خلق الجديد في لغة العرض الجمالية ، في السينوغرافيا ، أداء الممثلين الصوتي والجسماني ، الموسيقى ، المؤثرات ، الإنارة ، وبمعنى يجعل فضاء الخشبة مشحونا بالبصريات المتألقة والعميقة والبسيطة ، لا ينجرف صوب المبالغة ولا يقبل التكرار وهذا ما يتجلى في عرضه (بيت برناردا البا) والذي قدم في مهرجان أربيل الدولي للمسرح عام 2012 وفي عروض سابقة مثل عرض(انتظار المطر) الذي جاء كمشروع تعاون في إنجازه فنانون من العراق والمانيا.
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت