حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي اليوم حوار مع الدكتور ( عبد الكريم برشيد)*/ حاوره : د.شاكر عبد العظيم (العراق)
الزمن / منتصف السبعينات من القرن الماضي. والمكان / المغرب العربي ، فترة ظهور التيار الاحتفالي في المغرب عبر البيان الأول في مدينة مراكش وبالتحديد في احتفالية اليوم العالمي للمسرح 1976، إلا لأن هذا البيان لم يكن بمعزل عن كتابات نظرية / تنظيرية سابقة له
الفرجة: كيف ترى هذه الاحتفالية التي أشرت لها ونظرت لها؟
د برشيد: يمكنني أن أقول بخصوص هذه الاحتفالية بأنني أصبحت أراها ولا أراها، فأنا اليوم أعرف كائنها، ولكنني لا أعرف ما يمكن أن تكون عليه مستقبلا، وأرى جانبها الظاهر ولكنني لا أرى جوانبها الخفية، ولعل أخطر ما في هذه الاحتفالية هو أنها طاقة محركة ومتحركة، وأنها متعددة الهيئات ومتنوعة الحالات ومتجددة المقامات، وأنها بهذا ليست أحادية البعد، فهي فعل في الوجود، وأهم ما يميز هذا الفعل هو أنه حاضر بنا ومعنا الآن هنا، ويخطئ من يظن أنه يرى الاحتفالية، وأنه يفهما ويعرفها، لأنها موجودة في الممكن أكثر من وجودها في الواقع ، وهي أفق بعيد جدا، والحاضر فيها نعرفه وندركه ولكننا لا نستطع أن نلمسه، وهذا البعيد الغائب نسعى إليه، وننجذب إليه، ولو كانت هذه الاحتفالية واقعا بسيطا لكانت اليوم خلفنا، ولكانت جزء من ذلك الواقع السبعيني الذي أصبح اليوم ماضيا، فهي أساسا حلم كبير، حلمنا الذي يتجدد مع إطلالة كل يوم جديد، ومع إشراق شمس كل يوم، ثم إن هذه الاحتفالية ليست واحدة، ومن يرى عكس هذا فهو واهم، ولم يسبق أن خرجنا على الناس يوما وقلنا لهم : هذه هي الاحتفالية، وهذا هو نموذجها الواحد الأوحد، ولقد اعتبرنا دائما بأن هذه الاحتفالية صيرورة وجودية، وأنها حياة أفكار حية، وأنها كيمياء حالات وتفاعلات وجدانية ومعرفية وجمالية كثيرة جدا، ولعل هذا هو ما يفسر أن يكون أول كتاب أصدره يحمل عنوان ( حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي) وأن يكون أحدث كتاب سيصدر قريبا هو ( البيانات الجديدة للاحتفالية المتجددة) مما يدل على أن هذه الاحتفالية هي كائن وممكن معا، وهي جديد يتجدد عبر الزمن، وهي واقعها وأحلامها التي هي الجانب الخفي من وجودها، والأحلام فيها أصدق وأبلغ من واقعها، وأكثر النقد المسرحي العربي لا يقرأ الأحلام الاحتفالية وإلا يعرف عنها أي شيء، وهذا ما يفسر فشل هذا النقد في التعامل مع أسئلتها ومسائلها المضمرة والخفية . هذا الجانب الغامض في الاحتفالية هو الذي يصنع سحرها بكل تأكيد، وهو الذي يؤسس مستقبلها، وهو الذي يجعلها جديدة دائما، ويجعلها مستفزة دائما، ويجعلها مدهشة دائما، ويجعلها حزمة ممكنات واحتمالات لا متناهية العدد، ولولا ذلك، فهل كان ممكنا أن تعمر أربعة عقود، وأن تعطي لكل مرحلة تاريخية احتفاليتها الفكرية والجمالية والعلمية والسياسة والتقنية الجديدة؟
الفرجة: هل يمكن أن نمنح الاحتفالية اليوم وجودا بكونها فرجة، والمسرح يهتم اليوم بالفرجة؟
د برشيد: الاحتفالية ليست فرجة، ولا نعتقد أن المسرح يمكن أن يكون مجرد فرجة، ولا نؤمن بأن تنحصر مهمة المواطن في المدينة في أن يكون مجرد متفرج، وأن يتعامل مع أحداث العالم وقضاياه وأسئلته الحارقة بسلبية المتفرج المحايد واللامبالي، ويتفرج على ماذا؟ وعلى من؟ وهل هذا العالم إلا عالمه؟ وهل في هذا الواقع إلا هو؟ وهل يجوز أن يكتفي هذا الإنسان بأن يتفرج على واقعه وعلى حياته وعلى معاناته وعلى أعياده واحتفالاته؟ نحن الأحياء في هذه الحياة، لم نعط هذه الحياة لنتفرج عليها، ولكن لنحياها ونعيشها بصدق، وأن ندافع عنها، وأن نفضح أعداءها، والذين هم في نفس الوقت أعداء الحق والحقيقة، وأعداء الجمال والكمال، وأعداء الفرح والاحتفال، وأعداء الفن والخيال، وأعداء الحق في التعدد والتجدد، ولهذا قامت الاحتفالية على أساس إخراج الجمهور المسرحي من حالة التفرج السلبي، وأشركته في الاحتفال المسرحي، وجعلته يحيا الحفل ويقيمه، وأن يكون شريكا فيه، وأن يكون موضوعه وبطله، وفي الاحتفال المسرحي كلنا أبطال والكومبارس لا وجود له. ومنذ البيانات الأولى أكدت الاحتفالية على التعبير الجماعي الحر، وأكدت على الإحساس الجماعي العفوي، وأكدت على تعويض العرض المسرحي بالاحتفال المسرحي الجماعي الحي، وأكدت على أنه ليس من حق أي حد أن يكون متفرجا، وأن يكون الآخر متفرجا عليه، وأن يتم تسليع الإنسان الفنان، وتقديمه كبضاعة في العرض ، ولقد انطلقنا في هذا من قناعتنا ب (إنسانية الإنسان وحيوية الحياة ومدنية المدينة( المسرح أساسا مؤسسة، أو هو مؤسسات متعددة ومتنوعة في مؤسسة واحدة، فهو مؤسسة تعليمة وتربوية وتثقيفية وعلاجية وترفيهية وديمقراطية، ولا يصح أن نختزل مهامها الكثيرة في التفرج فقط، أو في الإضحاك فقط، أو في التسييس فقط، وننسى أن المسرح فكر وعلم وصناعة مركبة ومعقدة جدا في المسرح نحيا وجودنا الحقيقي بوعي حقيقي، نحياه الآن ـ هنا بكل أبعاده المتعددة والمتنوعة، والظاهرة والخفية، أي نحيا الواقع والحلم معا، ونحيا الواقع والتاريخ أيضا، ونحيا الآني والآتي، ونحيا الزمن الخرافي و الأسطوري أيضا ، ونحن في كل هذا نصنع الحدث الاحتفالي ولا نتفرج عليه.
الفرجة: هل يمكن أن تساير احتفالية برشيد المسرح الراهن اليوم” يعني تؤمن بالتشكيل أكثر من الحوار؟
د برشيد: أولا، إن هذه الاحتفالية ـ وبخلاف ما قد يظن البعض ـ ليست احتفالية برشيد، ولكنها احتفالية نفسها، وما أنا إلا واحد من الذين خدموا المسرح بحب وصدق، وأحد الذين اقتنعوا بجدية المشروع الاحتفالي، وناضلوا من داخله. وثانيا، أن هذه الاحتفالية ليست مادة استهلاكية لها صلاحية محدودة ومحددة في الزمان والمكان، ولكنها أساسا رؤية للعالم، وهي منظومة قيم ومنظومة أفكار، ومن طبيعة القيم والأفكار أن تعيش في المطلق من الزمان والمكان ، وأن تكون في حال جديتها وحركيتها وثوريتها صالحة لكل زمان ومكان. هذه الاحتفالية هي أساسا وجود رمزي ، وهي اليوم كائنة وموجودة ، تماما كانت بالأمس موجودة أيضا، وستظل موجودة مادامت تفكر، ومادامت تنتج الأسئلة الفكرية، ومادامت تثير حولها التساؤلات، ومادامت تستفز النقد والنقاد، ومادامت تؤسس المعاني الجديدة، ومادامت تصنع الحدث، ومادامت تجدد أسئلتها ومسائلها وتجدد أفكارها في كل يوم. ولو أن هذه الاحتفالية سايرت الراهن الفكري والجمالي العام، والذي كان في السبعينات من القرن الماضي منحصرا في السؤال الإيديولوجي وحده، فهل كان ممكنا أن تعيش إلى هذه اللحظة؟ بل، وهل كان من الممكن أن يتم الانتباه إليها أصلا؟ فهذه الاحتفالية راهنت فعال على الآن، وأكدت على أن يكون هذا الآن مفتوحا ومتحركا، وأن يكون رهانا متجددا على الآتي، وفي هذا المعنى كتبت كتاب ( زمن الاحتفالية) والذي سيصدر قريبا عن الهيئة العربية للمسرح، والذي أكدت فيه على سباق الاحتفالية مع الزمن، والذي بسطت فيه رؤية الاحتفالية للزمن، والتي هي أساسا رؤية احتفالية وعيدية، ومن طبيعة العيد أن يعود جديدا مع كل دورة فلكية ، ومع كل دورة زمنية، ومع كل دورة دموية. ثم إن هذه الاحتفالية لا تزعم بأنها وجود تام وكامل ونهائي، ومنذ أول بيان لها قدمت نفسها على أساس أنها مشروع يمكن أن يتحقق مستقبلا، تماما كما أكدت على أنها ورش كبير قائم على التطوع الفكري والإبداعي ، وبهذا فإن الاحتفالية الحقيقية ليس ما هو موجود حاليا، ولكنه ما يمكن أن يكون مستقبلا ، وأن ما كان بالأمس ، وما كان قبل الأمس، ما هو إلا عمر من أعمار هذه الاحتفالية، ومن مجموع هذه الأعمار يتأسس وجود هذه الاحتفالية، وهي بهذا رحلة ملحمية شاقة وطويلة للبحث عن هويتها الوجودية الحقيقية. إن الاحتفالية تؤمن فعال بالشكل، وتراهن مسرحيا على جماليات الشكل، تماما كما تؤمن أن يكون لهذا الشكل عقل ووجدان وروح، وأن يكون له معنى، وأن يكون هذا الشكل ناطقا ومتكلما ومعبرا، وأن يكون أهلا لأن نحاوره عقليا ، وأن نتفاعل معه وجدانيا، وأن نتحد به ، وأن نندغم فيه روحيا بشكل صوفي.
الفرجة: ما هو رأيك بمسرح ما بعد الحداثة ؟ وما بعد الحداثة كفكر معاصر يومي وراهن؟
د برشيد: أعتقد أنه لا يمكن أن يكون للإنسان رأي محدد في شيء غير محدد، ومن الطبيعي أن يكون لي رأي في مسرح يعرف بنفسه، ويعرفه كل الناس معي، ولكن هذا الذي يسمى ما بعد الحداثة لا أعرفه ، تماما كما لا أعرف ما قبل المسرح ، ولا أعرف ما بعد الدراما، وبصعب علي أن أفهم شيئا يدعي أنه كائن وموجود، وهو لا يحمل اسما من الأسماء، ولقد قلت دائما بأن ما لا يسمى لا وجود له ، ورددت في كل كتاباتي تلك المقولة الفلسفية التي تقول (اللغة مسكن الوجود) وفي هذه التسمية ـ أو للا تسمية ـ يمكن أن تدخل كل شيء، من غير أن تشير إلى أي شيء محدد وفي صناعة المعنى والجمال دائما، هناك حدان اثنان لا ثالث لهما، حد الفن وحد اللا فن، وبينهما لا وجود لشيء إلا الخواء والفراغ ، وبحسب تعبير نزار قباني فإنه لا وجود لمنطقة وسطى بين الجنة والنار، وكذلك فإنه لا وجود لمنطقة وسطى بين المعنى واللا معنى، وبين القبح والجمال ، وبين الإمتلاء والخواء، وأعتقد أن فعل إنتاج الرداءة لا يمكن أن يبرره ادعاء التجريب ، أو ادعاء الحداثة ، أو ما بعد الحداثة ، أو ما بعد بعد الحداثة ، أو ما بعد الدراما، ولهذا فإنني أقول لمن يدعي وصلا بالفن المسرحي الكلمة التالي: أعطني مسرحا أولا، ثم بعد ذلك سمه كما تشاء، لأن الفن الجميل لا يمكن أن يختلف حوله المختلفون، ولا أعتقد أنه من الممكن وجود شخص يمكن أن يرفض الجمال، وذلك بدعوى أنه جمال قديم أو أنه جمال غير حديث، وإذا كان ابن رشد قد قال ( الحق لا يضاد الحق) فنحن نقول (الجمال لا يضاد الجمال، ولكنه يضاد القبح) إن المهم في الفن هو أن تكون صادقا في فنك، وليس ضروريا بعد ذلك أن تكون مدرسيا أو تجريبيا، والأساس هو أن تكون فنانا حقيقيا قبل أي شيء آخر، وأن تنقل إلي إحساسك الصادق، وأن تصلني رسالتك، وأن أجد بها الفكرة والمتعة الفنية، وأن تشعرني بسحر الجمال والجلال وبسلطة الخيال، ولهذا فإنني شخصيا لا أثق في الذين يختبئون وراء شرف القضية من أجل تقديم فن رديء، أو الذين يختبئون وراء التجريب من أجل الاعتداء على الفن والأدب وكل الصناعات المختلفة.
الفرجة: كيف يمكن أن يقاس مسرح ما، ويمكن ربط السؤال بالمسرح العربي؟
د برشيد: نعرف أن المسرح هو الحياة، وليس هو صورة الحياة كما يقول الطبيعيون والواقعيون، ونعرف أن العنوان الأساسي لهذه الحياة تمثله الحيوية دائما، وتمثله الحرية أيضا، ويمثله آلية التغير والتطور والتجدد في المجتمع، وأعتقد أن المجتمعات الميتة والمحنطة والساكنة والجامدة لا يمكن أن يكون بها مسرح حقيقي، ووحدها المجتمعات التي لها طريق تمشي فيه، ولها أجساد وأرواح حية تتحرك وتمشي، ولها أعطاب نفسية واجتماعية وفكرية وسياسية في هذا الطريق الوجودي العام. ثم إن المسرح هو المدينة، أو هو عنوان من عناوين هذه المدينة، ولا يمكن أن يكون لهذه المدينة معنى إلا إذا كانت قائمة على المساكنة والتعايش، وعلى التعدد والتنوع، وعلى الحق في الاختلاف، وعلى تدبير هذا الاختلاف بشكل مدني، أي بالكلمة، وبالإقناع والاقتناع، وبالكلام والإنصات، أما المدن الطائفية، أو المدن العشائرية، أو المدن البوليسية، فإنه لا يمكن أبدا أن يكون لها ـ أو فيها ـ مسرح ، لأن من طبيعة المسرح أنه بيت من لا بيت له، وأن يكون فضاء مشتركا يجمع ولا يفرق، وأن يكون مفتوحا وليس مغلقا، وأن يسع الجميع وألا يضيق عن أي أحد. ثم إن هذا المسرح هو الحرية أيضا، وبلدان تعيش نقصا حادا في مادة الحرية، كيف يمكن أن ينهض فيها المسرح البشري والمدني الحقيقي؟ ومن الممكن أن ينهض فيها مسرح الدمى أو مسرح الكراكيز، أو مسرح خيال الظل، ولعل هذا بعض ما نشاهده اليوم في هذا الذي نسميه المسرح العربي، والذي هو مسرح تحركه خيوط الإدارة الخفية، وتفعل فيه الحسابات السياسية أكثر من الحسابات الفكرية والجمالية الحقيقية. والمسرح هو الرسالة الفكرية كذلك، ومسرح لا يفكر، ويخاف أن يفكر، ولا يحرض على التفكير، ويحارب الفكر والمفكرين، مثل هذا المسرح الذي يستعير نصوصه من الخارج ولا ينتجها محليا، والذي يتبع ولا يبدع، والذي يتبنى التجريب الشكلاني والبراني، كيف يمكن أن يكون مسرحا حقيقيا؟ والمسرح هو الحدث، وهو من يحدثه، وهو معنى ما يحدث، وهو الفعل وهو من يفعله، وهو الانفعال والتفاعل، وهو الاحتفال والتعييد، وهو يمكن إقامة مسرح في مجتمع لا يحدث فيه شيء، وليس به أعياد، ويمنع فيه الناس من الحضور ومن التجمع ومن التعبير الحر؟ ونعرف أن المسرحية هي أساسا أجساد تلتقي، وهي أصوات تتحاور، وهي مصالح تتقاطع، وبهذا فهي التلاقي والحضور، وهي التماس بين الآنا والآخر، وهي التفاعل الفكري بين الرأي والرأي الآخر، وهي السؤال والمسألة، ويمكن أن نلاحظ أن أغلب الذين ينتسبون اليوم إلى هذا المسرح لا يأخذون بهذه المعاني، وهم يمارسون المسرح من غير أن يؤمنوا بأنه فعل مدني وحضاري، وبأنه في حقيقته تمرين للتحرر ومدرسة للديمقراطية، ونجدهم يرفعون شعار الحداثة، وهم غارقون في وحل القدامة، ويمكن أن تجد أن أكثر الذين يخالفون الاحتفالية اليوم في المغرب يحملون فكرا عشائريا وجاهليا وهم لا يشعرون، ويوم يقتنع المسرحيون العرب بما يعنيه الفعل المسرحي الحقيقي، يومها فقط، سيتقدم هذا المسرح وستتأسس فيه التيارات والاتجاهات والمدارس العالمة، ولن تجد من يمنع المنظرين من أن ينظروا، ولن تجد من يمنع المجتهدين من أن يجتهدوا..
الفرجة: هل تدخل المنظومات الثقافية اليوم في تراكيب النص المسرحي؟
د برشيد: يخطئ من يعتقد أن النص المسرحي مجرد عنصر من عناصر المسرحية، ويجعله في نفس مرتبة الأزياء والديكور والإضاءة، لأن النص المسرحي ـ في حقيقته ـ هو الكون كله، بتاريخه وجغرافيته، وبفكره وعلمه، وبفنه وصناعاته، وبكائنه وممكنه، وبحاضره وغائبه، وبمحسوسه ومتخيله، وبواقعه وأحلامه، وبحركته وسكونه، وبأصواته وصمته، وببسيطه ومركبه، فهو الكلمة، وفي البدء كانت وستكون الكلمة، والمفروض في هذا النص المسرحي التكلم أن يكون ديوانا شاملا وجامعا، وأن يختصر كل التاريخ في زمن الاحتفال، وأن يختزل كل الناس في نماذج بشرية معينة، وأن يختزل كل الأرض في حيز مكاني محدد ومحدود، وأن يتضمن هذا النص كل شيء، وأن يعبر عن كل شيء، وإلا يستثني أي شيء. إن هذه المسرحية هي أساسا ظاهرة ثقافية، وهي ظاهرة اجتماعية، وهي ظاهرة سياسية، وهي حالة وجودية، وقد تكون حالة وجدانية أيضا، كما قد تكون تعبيرا عن حالة مرضية، وأن تعالج النفوس المريضة، ومسرحية بهذا العمق الفكري، وبهذا الغنى الجمالي، وبهذه الذاكرة المتدفقة بالحالات وبالمقامات وبالصور، هل يمكن أن تتحول إلى مجرد عنصر من عناصر ( الفرجة)المسرحية؟
الفرجة: في مواجهة المسرح الذي يعد وافدا من آخر غربي، هل استطاع هذا المسرح أن يكون ذا مقبولية وأن يدخل في النسيج الاجتماعي العربي؟
د برشيد: أعتقد أن مقولة المسرح فن وافد تحتاج إلى شيء من التوضيح ومن التصحيح، لأن الأساس في هذا المسرح هو جوهره وروحه، ونعرف أن روح المسرح يولد مع الإنسان، ونعرف أن الأصل في هذا المسرح هو التمثيل والمحاكاة، وبهذا فهو غريزة فطرية في الإنسان قبل أن يكون أي شيء آخر، ويمكن أن تجد هذا المسرح في كل ثقافات الشعوب القديمة، ولكن بأشكال وبصيغ وبتقنيات مختلفة، ولماذا لا يوصف لا ( نو) الياباني بأنه مسرح مستورد؟ وهل يصح وصف الكثاكالي الهندي بأنه مسرح وافد؟ ونفس الشيء يمكن أن يقال عن كل مسارحنا الشعبية عبر التاريخ، والتي توفر لها ألحكي والمحاكاة والتقليد، وكان فيها شيء من المتعة ومن الفائدة ومن الاحتفالية الجماعية. المسرح لغة الجسد، وهو مرتبط بالأرض وبالإنسان وبالزمن وبالثقافة وبالحضارة، وهو حاجة من حاجات الإنسان الاجتماعي، وهو يعبر عن قضايا الإنسان في إطاره الجغرافي والتاريخي وفي إطار لغته وخصوصيته المعرفية والجمالية والأخلاقية، ولا أتصور أن يكون الإنسان العربي قد انتظر عشرات القرون بلا حكي ولا محاكاة ولا تقليد، حتى وفد عليه في يوم من الأيام هذا الشيء الذي يسمى المسرح .
وزيادة في التوضيح والتصحيح والتدقيق نقول ما يلي، إن الوافد على المجتمع العربي في منتصف القرن التاسع عشر لم يكن هو روح المسرح، ولكنه كان بعض تقنياته فقط، كان البناية المسرحية بخشبتها وبستاراتها وبكواليسها وبكراسيها، وكان أيضا ذلك الجنس الأدبي الخاص، والذي يسمى النص المسرحي، والذي ينقل الاحتفال الآني من الارتجال إلى التدوين القبلي، وكل هذه الإضافات التقنية لا تسمح بأن نقول بأن المسرح فن وافد، ولقد أكد لنا المسرح الغربي نفسه بأنه من الممكن جدا الاستغناء عن البناية المسرحية، والاستغناء عن النص المسرحية، والاستغناء عن كل التقنيات المسرحية، وبعد كل هذا ماذا يتبقى؟ يتبقى روح المسرح ، والذي هو أساس المسرح العربي وأساس كل مسارح العالم، وتتبقى اللغة التي كتب بها هذا المسرح، والتي لها امتداد في الشعر العربي وفي النثر العربي، ويتبقى التاريخ العربي بأحداثه وحركيته ومساره وأسمائه وفلسفته، والذي فعل فعله في هذا المسرح، ويتبقى الفكر والفن أيضا، وتتبقى الأسطورة والخرافة وفن الحكي الشعبي العربي، وتتبقى الأمثال والحكم، وتتبقى الأزياء والأشياء، وتتبقى الأضواء والظلال، وتتبقى الرؤية والذوق، وكل هذه العناصر إذن، وغيرها كثير، هي التي أسست المسرح العربي، وليس هو الستارة ولا حفرة الملقن ولا كل تلك الزوائد المسرحية التي أثبت الواقع أنها ليست هي المسرح.
الفرجة: أيمكن اعتبار أن النقد المسرحي قد حايث المسرح نصا وعرضا، وعمل على تطويره، أم إن هذا النقد لازال يرزح تحت وطأة الأنا والذاتية؟
د برشيد: هذا الذي نسميه النقد هو اليوم جزء كبير وخطير من إشكالية كبيرة في الثقافة العربية الحديثة، فنحن يوميا نتحدث عن النقد، ونكتب عنه، من دون أن نتساءل عن معناه الحقيقي، وأعتبر أن من الخطأ أن ننسب اليوم كثيرا من المديح ومن الهجاء ومن اللغو إلى هذا النقد، وأن نلحق كثيرا من الكتابات الوصفية الساذجة بالنقد أيضا، وننسى أن النقد أساسا هو علم وفن، وأنه فكر وذوق، وأنه رؤية ورأي، وأنه صناعة ومنهج، وأرى أن مثل هذا النقد يحتاج اليوم إلى نقد حقيقي ، ويحتاج إلى كثير من التوضيح ومن التشريح، ويحتاج لأن نسمي الأشياء فيه بأسمائها الحقيقية، حتى لا نظلم الحقيقة ولا نظلم الواقع، ويمكن أن نؤكد على وجود نقد حقيقي اليوم، نقد يستحق اسمه في ساحتنا الثقافية العربية، لأنه نقد عالم وفاهم ومتفهم، ومن الضروري أن نثمن هذا النقد الذي لا يخلط الأوراق، والذي لا يفتعل المعارك الوهمية مع الإبداع ومع المبدعين ومع المفكرين، والذي لا يزيف الأسئلة والمسائل، والذي لا يناقش المسلمات والبديهيات، والذي لا يصنع الأصنام و الأوثان في هذا المسرح، والذي لا يهرب المواضيع الحقيقية التي ينبغي أن تطرح فيه، والذي لا يقترف الشتائم والتجريح ويسميها نقدا مسرحيا، وما هي فعال كذلك، ولا ينبغي لها أن تكون كذلك. وأرى أنه من الضروري أن نتساءل اليوم: هل يمكن تصور وجود نقد علمي بدون سؤال نقدي، وبدون وجود أية مسألة نقدية، وبدون منهجية علمية، وبدون مصطلحات علمية دقيقة، وبدون أرضية فكرية ينطلق منها، وبدون أفق جمالي يسعى إليه، وبدون وجود مشروع نقدي كبير يتحرك داخله، وبدون فلسفية جمالية تحدد معاييره النقدية، وبدون رؤية سليمة، وبدون ذوق سليم، وبدون إحساس سليم خال من الحسابات الذاتية ومن العقد المرضية؟ ويخطئ من يعتقد أن كل من أصدر حكما، في كاتب أو كتابة، هو ناقد بالضرورة، وأن كل من أعطى رأيا في مسرحية يمكن أن يكون ناقدا مسرحيا، لأن الأمر أكبر وأعقد من هذه الرؤية التبسيطية الساذجة. وأعتقد أنه قد آن الأوان من أجل أن نعيد للنقد المسرحي مقامه واعتباره وهيبته، وأن نفك ارتباطه بالمزاجية والمزاجيين، وأن نحرره من الدخلاء ومن المستعمرين ومن الفضوليين ومن المحرفين ومن العدوانيين ومن العدميين ومن الظلاميين ومن العبثين ومن الفوضويين، ويوم يتحقق هذا، فإن المسرح العربي سيكون بألف خير.
الفرجة: هل يمكننا أن نعتبر أن الاحتفالية قد ذابت وانتهت، وما هي درجة فاعليتها اليوم؟
د برشيد: من الخطأ افتراض أن تنتهي الأجساد الحية الموجودة إلى العدم، وأن نستيقظ صباح يوم من الأيام لنجد أن هذه الاحتفالية قد انتهت وماتت، وأنها قد أصبحت مجرد وشم على جسد الزمن، فال أحد يمكن أن يجهل الحقيقة التالية، وهي أن هذه الاحتفالية هي أساسا منظومة أفكار، وأنها أساسا نظام فكري وجمالي متكامل، ومتى كانت الأفكار يمكن أن تموت؟ فهل مات المسرح اليوناني، مع أن أفكاره ( متجاوزة)؟ وهل مات الشعر الجاهلي؟ وهل ماتت قصيدة التفعلية؟ وهل ماتت الموسيقى الكلاسيكية مع وجود الموسيقى الإلكترونية؟ فمن الطبيعي أن يموت الإحتفاليون، تماما كما مات الرومانسيون من قبل، وكما مات الرمزيون والواقعيون والطبيعيون والسورياليون والمستقبليون، ولكن الأفكار تبقى بكل تأكيد، والإرث الفكري والجمالي يبقى أيضا. إن هذه الاحتفالية إذن، وفي جزء كبير منها، هي أفكار نظرية جادة، بالإضافة إلى أنها إبداع مسرحي له قيمته الجمالية والفكرية، وأن هذا الإبداع ينتمي إلى المسرح العالمي، وإلى ربرتواره الإبداعي الخالد والمتجدد، فهل يصح أن نقول ـ مثال ـ بأن مسرحيات شكسبير أو موليير أو بريشت، قد ذابت وانتهت؟ ونفس الشيء يمكن أن نقوله عن الإبداع المسرحي الاحتفالي، والذي ظل متألقا ومتوهجا وذلك على امتداد أكثر من أربعة عقود من عمر الزمن، لأنه راهن على الثوابت الرمزية الجوانية أكثر من رهانه على المتغيرات المادية البرانية، وتأكد بأن الحقيقة لا تبلى أبدا، وأن الجمال فيها لا يبلى أيضا، وأن دعوتها للفرح والعيد والاحتفال لا يمكن أن تصبح في يوم من الأيام ( موضة قديمة) الاحتفالية لا تؤمن بالجديد، ولكنها تؤمن بفعل التجديد، ونحن ما فعلنا سوى أن جددنا إحساسنا بما حولنا، كما جددنا قراءتنا لكل الكتابات الحية (القديمة) كما أن هذه الاحتفالية لا تؤمن بالاغتيال في المجال الفكري والإبداعي، ولا تستهويها مقولة قتل الأب، ولا تؤمن بحرب الثقافات أو بحرب التيارات، والتي تنتهي كلها عند أفق واحد، والذي هو أفق الثقافة الإنسانية في كليتها وعموميتها وشموليتها، فالآخرون كتبوا ونحن قرأنا، ونحن اليوم نكتب ما سوف يقرأ الذين سوف يأتون مستقبلا.
الفرجة: هل يمكننا اعتبار أن النص المسرحي قد واجه إزاحة إزاء بناء عروض مسرحية لا تعتمد النص؟
د برشيد: هناك من يشتغل في المسرح بغير منطق المسرح، وبالتأكيد نحن في الاحتفالية لسنا منهم، لأننا لا نجزئ ما لا يقبل التجزيء، ولا نؤمن بقضاء الحاجات بتركها، ونعرف أن منطق المسرح قائم على أساس الحضور والتلاقي، وعلى أساس الجمع والتشارك، وعلى أساس الحوار الداخلي بين كل المكونات والعناصر المسرحية المختلفة، والتي تشكل في مجموعها هذا الذي نسميه المسرح. إن المسرح هو النص أولا، وهذا النص ينتمي إلى الأدب، نثرا وشعرا، وينتمي إلى الفلسفة أيضا، والمسرح هو بناية ثانيا، ولهذه البناية معمارها الخاص، ولها هندستها التي تحترم عين الجمهور، وتحترم سمعه، وتحترم كل حواسه، والمسرح هو فضاء أيضا، وهو صناعات تؤثث هذا الفضاء بالأشياء والأزياء، وبالأقنعة والأشكال، وبالأضواء والظلال، ومن الممكن أن نستغني على عنصر أو أكثر من هذه العناصر، وأن نقدم مسرحية بلا نص مسرحي، ولكن هذه المسرحية تبقى بال ذاكرة مستقبلية، ويجعلها غير قابلة لأن تعاود الحياة برؤية إخراجية أخرى، فالنص هو بذرة المسرح، وهل تتصور إقامة زراعة مسرحية بدون وجود زرع يمثله النص؟ وأعتقد أنه ينبغي أن نميز بين المسرح الخالد، وبين إنتاج الفرجة المشهدية العابرة، والتي هي فعل لحظي لا يمكن تكراره أو استنساخه أو إعادة إحيائه أو قراءته مرة ثانية أو ثالثة أو عاشرة .. ومن طبيعة الاحتفالية أنها تحترم كل الاختيارات الفكرية والجمالية والتقنية في المسرح، وأنها لا تصادر حق أي أحد في أن يقدم المسرح بالطريقة التي يريد، وهذا ما لا يمكن أن يمنعها من أن تؤكد على الحقيقة التالية، وهي أن الأساس في المسرح أن يكون إبداعا مركبا، وأن يقوم على أساس التكامل بين كل اللغات الكائنة والممكنة، أي أن ينطق هذا المسرح بلغة اللفظ، وأن ينطق بلغة الجسد، وأن ينطق بلغة الأشياء، وأن يخاطب الجمهور الحاضر في الاحتفال، وأن يخاطب الجمهور القارئ في الكتاب، وأن يخبئ بداخله احتفالاته الأخرى الممكنة الوجود، والتي تنظر دائما قارئها الآخر.
الفرجة: ما هو رأيك بما وصل إليه المسرح العربي؟
د برشيد: في السبعينات من القرن الماضي، وتحديدا سنة 1977 شاركت في أشغال مؤتمر اتحاد الكتاب والأدباء العرب بطرابس بليبيا ببحث أعطيته عنون ( المسرح العربي يبحث عن المسرح العربي) وبعدها شاركت في إحدى دورات اللجنة الدائمة للمسرح العربي ببحث عنوانه ( نحو تعريب المسرح العربي) مما يدل على أقصى ما يمكن أن يطمح إليه هذا المسرح العربي هو أن يكون نفسه، وأن يكون له وجود، وأن يكون لهذا الوجود روحه وهويته وبصمته وملامحه المميزة، وبعد كل هذه السنوات من البحث والاجتهاد، فإنني ألاحظ بكل أسف، بأن هذا المسرح مازال ضائعا وتائها وغائبا عن جوهره الحقيقي، وبأنه لا يختلف عما تعانيه السياسة العربية من تجريب تخريبي، ومن تقليد ببغائي، ومن رهان خاسر على الظرفي، وعلى العابر، وعلى الشكلاني، وعلى المصلحي، وعلى البراني، وعلى التقني، وعلى الشعاراتي، ومصيبة هذا المسرح أنه لا يفكر، وإذا فكر فإنه لا يفكر بعقله، ولكن بعقل الآخر الميت أو البعيد، كما أنه لا يتأمل نفسه في المرآة، وأنه لا يمارس النقد الذاتي على نفسه، وبهذا يحضر الدخيل فيه أكثر من الأصيل، ويحضر الأتباع أكثر من الإبداع، ويحضر الإنبهار الصبياني بكل ما هو غريب وعجيب ومبهر، وذلك بدل أن يحضر الاندهاش المؤسس للمعرفة، كما يحضر التوليف والتوفيق والتلفيق والاقتباس والاختلاس أكثر من حضور الخلق والتأليف والابتكار، ويحضر الكلام أكثر مما يحضر الفعل، وتحضر الإشاعات التي يروجها بعض النقد أكثر من حضور الحقائق، ويحضر التقليد أكثر من حضور التجديد، ويحضر الرهان على القريب، وعلى السهل، وتحضر المزاجية والنرجيسية والفردانية في مسرح يفترض فيه أن يكون فعال جماعيا، وأن تتكامل فيه الرؤى والاجتهادات. في هذا المسرح، ارتكبت كثير من الحماقات باسم الحداثة والتجريب، وارتكبت كثير من الجرائم باسم التراث، وتم طرح أسئلة كثيرة مغلوطة فيه، إما بخصوص الأصالة والمعاصرة، أو بخصوص العامية والفصحى، أو بخصوص النخبوية والشعبوية، أو بخصوص الشكل والمضمون، أو بخصوص النظرية والمهنية، أو بخصوص الكتابة والاقتباس، أو بخصوص القدامة والحداثة ، أو بخصوص الحداثة وما بعد الحداثة، أو بخصوص الدراما وما بعد الدراما، أو غيرها من المواضيع المفتعلة، والتي لا يمكن أن تضيف لجسد المسرح العربي أية قيمة مضافة سوى التكرار والاجترار.
الفرجة: كيف ترى مستقبل المسرح العربي وفق ظروف العرب الراهنة ( الربيع العربي، الأزمات السياسية، التطورات العالمية)؟
د برشيد: المسرح العربي يجتاز اليوم منطقة اضطرابات سياسية عنيفة ورهيبة جدا، والمناخ الثقافي العام لم يعد يسمح بالرؤية وبالتركيز، وهناك ضباب كثيف، وغموض كثير، كما أن المسرحي لم يعد يهتم بحريته وباختياراته وبمبادئه وقيمه، وأصبح أكثر واقعية ومادية، ولقد استقال هذا المسرحي استقالة غير معلنة ، وترك مكانه ودوره للسياسيين وللفقهاء وللدعاة الجدد، فهل هذا زمن الفقهاء وزمن الدعاة الغلاة وليس زمن العلماء والفنانين والمفكرين والمبدعين؟ لست أدري.. هناك اليوم فقهاء في اليمين يحرمون كل شيء باسم الدين، وهناك فقهاء في اليسار يحللون كل شيء باسم الحداثة، الأولون يكذبون على الله، والآخرون يكذبون على الحقيقة، والنتيجة في النهاية واحدة. لقد انكمش المسرحي العربي على نفسه، واكتفى بالتجريب الشكلاني حتى لا يقع في (المحظور) وهناك في المسرحيين من اكتفى باستعادة أسئلة السبعينات السياسية، وهناك من اختصر المسرح في إنتاج فرجات فيها حركة وصراخ، وفيها وغناء ورقص، وكان بهذا كمن دعاك لمأدبة ( باذخة) ليس بها إلا التوابل وحدها دون سواها، وهناك من اقتنع بأن المسرحية لا يمكن أن تكون مسرحية إلا إذا كانت صورة طبق الأصل لأية ( ماركة) مسرحية عالمية مشهورة، وهناك من اختزل هذا المسرح ـ بكل أسئلته ومسائله وقضاياه ـ في مسألة واحدة ووحيدة هي مسألة الدعم المادي، وربط وجود هذا المسرح بهذا الدعم وحده دون سواه، وهذا المسرحي هو الذي رفع شعار المرحلة ( اطلبوا الدعم من المهد إلى اللحد) ويمكننا أن نتساءل: الدعم في مقابل ماذا؟ لوجه الله تعالى؟ لا أظن. ومن عالمات بؤس هذا المسرح العربي اليوم، أن تختفي عواصمه التاريخية الكبرى، تختفى دمشق الفيحاء بمهرجانها الذي كان ملتقى الإبداع والمبدعين المسرحيين في كل العالم العربي، وأن تختفي بغداد وما أدراك ما بغداد، وأن يخفت صوت المسرحيين الكبار فيها، وأن يتراجع دور القاهرة المسرحي، وأن تنشغل تونس بالمسألة الدينية والسياسية، وأن تغرق الرباط في دوامة البيروقراطية القاتلة، وبعد كل هذا ماذا يتبقى للمسرح العربي؟ أتمنى ألا تطول هذه المرحلة الانتقالية والاستثنائية في المسرح العربي، وأن نجتازها بأقل الخسائر الممكنة.