الأداء الفني والهوية / صادق مرزوق (خاص بالفرجة)
تمارس الهوية دورها في تغيير مسارات الشعوب وفي مختلف الاتجاهات, وهذا التغيير يشكل الخوف والقلق الدائم من نسف حضارات تشكلّت على مدى قرون بسبب صراع الهويات وما خلفته من حروب أهلكت وطمست الكثير من المدن وغيرت الجغرافية العالمية , لكن تلك الحروب حفزت وإلى حد كبير القدرة على إنتاج فن وثقافة مغايرة اعتمدت المشاكسة والتمرد على المراكز السياسية والعسكراتية لتجعل من المعرفة والجمال هما البديل لقبح المنظومة الحاكمة والمهيمنة، وظهرت مدارس واتجاهات عديدة في مختلف الفنون ومنها الفن المسرحي وخصوصا عمل الممثل باعتباره الأداء الفاعل والحيوي في إنتاج العرض المسرحي,ومنذ بدايات القرن العشرين وحتى سنوات متأخرة ازداد الاهتمام بعمل الممثل , حيث أقيمت العديد من الورش التي ركزت على مهمة التمثيل باعتباره منظومة علاماتية متحركة تمتلك قدرات تعبيرية فاعلة واعتمدت تلك الورش الممثل كونه صاحب الحضور الفاعل في تشكيل الفضاء المسرحي, حيث عمل (ستانسلافسكي) في وقت مبكر على إنشاء هذه الورش بعد أن أحسب الخطر الذي يداهم عمل الممثل وكتب مؤلفه بعنوان “إعداد الممثل أو ممثل يستعد”، كذلك تبعتها ورش وكتابات (مايرهولد) و(تايروف) ومن بعده بفترة عدد من المخرجين كتبوا و أقاموا الورش للتدريب على آليات التمثيل وفق سياق المغايرة لما سبقهم, حيث طالعنا اشتغالات (كروتوفسكي) في عدد من المؤلفات مثل ”نحو مسرح فقير”، كذلك مدونات (باربا) ضمن نحو مسرح ثالث وطاقة ممثل، و”مسيرة المعاكسين”وعدد آخر من مؤلفات (باربا) التي ركزت على عمل الممثل، الكل يحاول أن يؤسس لجمال يتجه نحو الجديد, نتساءل أحيانا لماذا نحتاج دائما إلى الجديد لماذا كتب (كروتوفسكي) نحو مسرح فقير؟ لماذا كتب (باربا) نحو مسرح ثالث؟ ولماذا نحاول نحن أن نجد طريق يخص مسرحنا الذي ينأى بنفسه عن كل قيد أو حدود، ونتجه نحو مفهوم الهجنة في إنتاج مشروع مسرحي تتداخل فيه الأجناس الفنية و الأنساق الأدائية لمختلف الفنون, غالبا ما نبحث عن إيجاد وعي كوني يهدف إلى خلق مسرحي تجه نحو الإنسان بعيدا عن أي عنوان ضيقأ وهوية فرعية, ولم يكن هدفنا هنا جماليا فقط , بل وجدنا أن الحاجة ملحة للاشتغال على إنشاء فرقة المسرح الكوني بعد هذا الانقسام الذي أصاب الشخصية العراقية والعربية عموما وتخندقها داخل مفهوم الهوية وما يخلفه هذا التخندق من الشعور بالخوف على مستقبل الهويات و خصوصا الصغيرة منها , وفي مراجعة سريعة لتاريخ المذاهب الفنية و الأدبية في أوربا نجد أنها قد ازدهرت في الظروف الحرجة، بعد أن وجدت في الحربين العالميتين و الحروب الأهلية مادة لها، ففي الوقت الذي كان تفيها لآلة الحربية تتجه نحو قتل الإنسان، كان الفنان يتوجه نحو إعادة خلق ذلك الإنسان من الناحية القيمة و بث مفردات الجمال بدل مفردات القبح التي خلفتها الآلة الحربية، ومن خلال بقعة الضوء التي نسلطها على الفنان في أوربا آنذاك واشتغالاته وسط العتمة التي خلفتها التوجهات السياسية والعسكراتية، لا بد من الإشارة للدور الإنقاذي الذي تمارسها الفنون في الحياة الإنسانية عموما، ونحن نجد أن الحالة العراقية وبعد كل هذه السنوات من الحروب وما خلفته من تشرذم داخل النفس, صار لزاما على الفنان أن يؤسس لفن آخر ليطيح بكل تلك السنوات و ما سببته من شعور بالعجز و الإحباط عن إنتاج المشروع الجمالي, وحينما كان الفن العراقي وخصوصا في المسرح فنا وافدا, لا يشعر المتلقي العراقي بالانتماء له ابتدءا من النص وطرائق الإخراج وحتى الآليات المتبعة في فن التمثيل, نجد الحاجة هنا إلى خلق نوع من الانسجام بين صانع المنجز و المتلقي من خلال إيجاد مشتركات إنسانية كونية، ولا بأس أن ننطلق من الإرث الشعبي المحلي ليمثل لنا طقسا جماليا يؤسس لتوجهاتنا الكونية، و تبدو العملية هنا مركبة بين إيجاد هوية للمنجز المحلي و بين محو تلك الهويةل مصلحة الهوية الأكبر المتمثلة بإيجاد إنسان كوني ، ”كوزموبوليتاني”ومسرح كوني.
لا يمكن للمسرح أن يكون وافدا على الإنسان سواء كان مؤديا أو متلقيا، لابد لأن ينطلق مسرحنا من الداخل ثم بعدها التوجه نحو الآخر, في نفس الوقت علينا أن ننطلق من المسرح وفنونه الأدائية التقليدية باتجاه الأجناس الفنية والأدبية الأخرى لممارسة تلك الهجنة التي تؤسس للجمالي العابر للحدود الزمكانية لتحقيق مبدأ ” الآن – هنا ” لكي تتوحد الذات الإنسانية داخل المكان داخل الزمان ويطلق عليه في بعض البحوث “الحيزمان”, و الحالة العراقية تعد من أكثر الحالات التي بإمكاننا إعادة إنتاجها فنيا وفق مفهوم الإنسان الكوني, لما لهذه الحالة العراقية من تنوع في الثقافات بسبب اختلاف الاثنيات داخل هذه الرقعة الجغرافية وما لهذه الثقافات من منتج و إرث يقترب من الفني و يمثل طقسا يعمل على إثراء الفضاء المسرحي بالجمال مضافا إليها الجانب الأخلاقي من خلال اشتغالات الفنان على إنتاج عمل فني يحول الصراعات التي أوجدتها السياسات المتخبطة إلى ما هو جمالي قيمي, و هذا مطلبنا الأساس في أن يكون الفنان بما عرف عنه في بحثه الدءوب عن الأجمل والأفضل وأن يجعل من فضاءاته الجمالية انطلاقة نحو عالم تذوب فيه الهويات وتمحى فيه الحدود ويكون المسرح إرثا جماليا مشاعيا للإنسان الكوني, و من بين أهم ما نؤكد عليه في مسرحنا الكوني هو مجموعة ألمابعديات و من أهمها هو الأداء باعتباره القرين المباشر لحالة التي القليل ما يشكله من حضور فاعل ومؤثر تختبئ خلفه كافة المهام الفنية التي تشتغل في فضاء العرض المسرحي, وأن هذا الحضور لابد له من فاعلية تشتغل وفق مفهوم ما بعد التمثيل انطلاقا من الاشتراطات والمحددات التي تضعها التقاليد المسرحية للممثل على الخشبة بأن يكون له حضورا جسديا وصوتيا متناغما مع حضوره الوجداني لخلق الحميمية مع حالة التلقي وفق نظام المعايشة الحاصلة بين(الممثل- الشخصية), وأن هذه الاشتراطات تتأتى من خلال امتلاك الممثل لأدواته النمطية ليكون مؤهلا لحالة الحضور الواقعي. أما في مسرحنا الكوني والذي بحث تفيه منذ عام 2004 حيث تضيع الحدود والفواصل فيه بين كل المدارس, وأن حالة الضياع والتماهي بين تلك الاتجاهات مؤداها فلسفة العصر. وفي هكذا مسرح يجب أن يكون الممثل في لسوف يجسد الحكمة بعد أن يكون قد تخطى المرحلة الأولى لإعداد الممثل و الأنماط المتبعة في الأداء. لابد من الإشارة هنا إلى إحدى مقولات (كوبو) عن التمثيل وفي عام 1924 بالتحديد يقول:” قد ولى زمن التشنجات والصراخ على خشبة المسرح ” فماذا نقول نحن اليوم وبعد كل هذه السنين حيث لازلنا نسمع تلك الحشرجة الصوتية والصراخ والثرثرة اللفظية والحركية والتي هيمنت على أغلب الممثلين بسبب عدم امتلاكهم للمقومات الأولية لعمل الممثل نتيجة لقلة التمرينات و التي تعتبر من مبادئ التمثيل الأولى وكما يقول (بيتربروك) في كتابه ليس هناك أسرار” أن الممثل غير المتدرب مثل الآلة الموسيقية الغير منغمة” ونحن نعرف ما تصدره الآلة الغير منغمة من نشاز يربك حالة التلقي .. ضمن اشتغالي على مفهوم العرض الشعبي و التجريب واجهتني تلك المشكلة مع الممثل نتيجة استخفاف ذلك الممثل بحرفته المهمة والخطيرة، وفي بعض التمارين التطبيقية همس في أذني أحد الأصدقاء أن مفهوم ما بعد التمثيل الذي تشتغل عليه لم يعتد عليها ممثلنا بعد لأنه يؤمن بالجهوزية وعدم البحث . لكي يكون الممثل عابر المنطقة التمثيل لما بعدها عليه أن يؤمن بمبدأ الدراما الكونية والتي يستطيع الممثل من خلالها أن يتجاوز الحدود الجغرافية والزمنية لينطلق إلى وحدة الكون وأينما يضع الممثل قدمه فذاك هو فضاءه المسرحي. على الممثل أن يشتغل هنا وفق مصطلح الحياد الفعال، أي أنه يقف بمسافة واحدة من جميع المدارس والاتجاهات التي تتخذ من التمثيل مادة لها , وربما تقترب أو تبتعد عن هذا والاتجاه أو ذاك بمقتضى الضرورة الجمالية فقط , دون انتماء وتبني لاتجاه بعينه، ابتداء يؤكد باربا على مرحلة ما قبل التعبير، على الممثل هنا أن يعمل على اقتناص لحظة اللاشعور الجمعي و من خلاله يستطيع ملامسة الوجدان الخفي لدى المجتمع البشري عموما من خلال استخدام الإيماءة الصوتية لعصر ما قبل اللغة والقفز إلى عصر ما بعد اللغة بعد أن فقدت تلك اللغة وظيفتها كدال, بالإضافة إلى الممارسة القسرية للصورة في إزاحتها للكلمة الملفوظة وحتى لو وجدت الكلمة هنا فإن وجودها إحالة لصورة أخرى وهي الصورة السمعية والمجاورة للصورة البصرية. وفق اشتغال يوم شاهداتي تمكنت أن أحدد بعض المقاربات وبدرجات متفاوتة لمنطقة ما بعد التمثيل وحصريا في تلك العروض التجريبية التي كرست جانبا من اهتمامها على المفهوم الشعبي وتركزت التقاطات يحول بعض الممثلين في مسرحيتي التي قدمتها عام 2007 (اسمع بابن الديوانية) ومنهم مهند إبراهيم ورحيم ماجد وانس زاهي كذلك وجدت تلك الملامسة حاضرة لدى الفنان يحي إبراهيم في ( خرجت من الحرب سهوا) في نسخة المسرح الوطني تحديدا حيث ساعده للوصول إلى هذا المفهوم المكان الفارغ في العرض الأول وكان لهذا المكان الدور في اعتماد الممثل المفردة الرئيسة في تشكيل سينوغرافيا العرض، لكن بعد أن عمد المخرج إلى تأثيث هذا المكان بمفردات سينوغرافية في عرض الديوانية مثلا لحبل و الملابس ومفردات أخرى فقد الممثل قدرته على التقاط الطريقة الأدائية لمنطقة ما بعد التمثيل، كذلك نجد هذا التوجه عند رائد محسن في مسرحية( حظر تجوال) وصلاح المنسي ومرتضى حبيب في مسرحية (بروفة في جهنم). كذلك الممثل التونسي نادر بالعابد في مسرحية طواسين
الذي امتاز بطاقته الجسدية وقدرته على الاكتشاف الحر للحركة .
الممثل في هكذا عروض هو ذلك اللاعب الذي يقتنص (لحظة ما قبل العرض ما بعد التمرين)والذي اشتغلت عليها منذ بداية عام 2007 من الناحية التطبيقية، بأن يكون الأداء التمثيلي فيه على طريقة الجنرال بروفه، حيث ممكن أن يتدخل المخرج أو الممثل أو المتلقي من تغيير مسارات الطرق الأدائية وهدمها من أجل بناءات أخرى تؤسس لمسرحنا الكوني، وقد مارسنا هذا الشغل في أكثر من عمل مسرحي، أمامنا لناحية التنظيرية فقد كتبت في هذا المجال منذ عام 2004 العديد من المقالات في جريدة الصباح الجديد، و جريدة الصباح، و مجلة الخشبة الإلكترونية .
إن مفهوم التمثيل الكوني أو ما بعد التمثيل، يعتمد على اقتناص (لحظة ما قبل العرض ما بعد التمرين) والتي يستطيع من خلالها الممثل أن يملأ الفراغ الحاصل بين التمرين والعرض المسرحي, أحيانا أطلب من الممثل في بعض التمارين أن يقفز على آليات التمثيل النمطية كأن لا يمثل في بعض المناطق التي تتطلب المعايشة والتمثيل, وأحيانا أطلب منه أن يقوم بمعايشة المناطق الخارجة عن جسد التمثيل المتعارف عليها، ويزحزح المراكز المتمثلة بهيمنة الحوار الملفوظ، وأن يجسد وبتقمص ويقرأ الملاحظات التي يضعها المؤلف بين الحوارات, أو يفّعل أماكن الصمت ويجعل منها مبدأ للتحوّل والانتقال من حالة إلى أخرى, وكل هذه التمارين لأجل تدريب الممثل على التمكن من السيطرة والانفلات من الشخصية وأن يكون عارف المنطقة التمثيل وما بعده، حيث يصل الممثل هنا إلى ما يشبه تلك القناعة التي توالدت لدى الممثلين في (المسرح المكشوف) من خلال الورش التي عملوا فيها بأن لا حدود لإمكانيتهم, وأن كل واحد منهم باستطاعته انجاز أي شيء، كذلك الحال مع ما تفعله آريان منوشكين في مسرح الشمس من التدريب المتواصل والورش التي تقيمها سنويا وتأكيدها على الاكتشاف الحر للحركة والصوت المبتكر، كروتوفسكي هو الآخر ركز كثيرا على تدريب الممثل من خلال معمله المسرحي, حتى أن مسرحية أبوكاليبوس استمرت أربع سنوات من التدريبات القاسية , وقد جاءت كل هذه الاشتغالات عند وكروتوسكي, وبروك، و منوشكين وآخرين من أجل تحريك الركود الذي أصاب عمل الممثل لسنوات عديدة بعد أن اقتصر عمله على التجسيد والاختباء خلف الشخصية التي وضعها مؤلف النص، والركون إلى الآليات الصوتية المنمطة، والقليل من الحركة الملفقة , مما أدى بالممثل إلى الغياب لسنوات عديدة حتى جاءت تلك الورش و ما حققته من ثورة في تفعيل دور الممثل , وجعله العنصر الرئيس في تشكيل الفضاء المسرحي.