مسرحية انفرادي بين جمال التشكيل وفراغ المضمون / جبار جودي .
العرض المسرحي ( انفرادي ) تأليف حيدر جمعة إخراج بديع نادر تمثيل أمير أبو الهيل، أحمد صلاح مونيكا، حيدر سعد، سينوغرافيا بشار عصام، عرض مسرحي شبابي بامتياز، تم تقديمه في كلية الفنون الجميلة بتاريخ 13 / 5 / 2014 واستضافته دائرة السينما والمسرح، منتدى المسرح لتقديمه على خشبة المسرح الوطني ضمن فعاليات الاحتفال بيوم المسرح العالمي 27 / 3 / 2015 ، وهي فرصة جيدة للشباب لعرض رؤاهم وأفكارهم على جمهور غفير ملأ مقاعد المسرح وكان حضوراً مفرحاً .
نص العرض الذي وسمته الانفرادية بكل شيء بدءا من العنوان مروراً إلى العناصر الأخرى فيه ، تمركز حول موضوعة ( الآن الراهن ) المتدرجة منذ تأسيس الدولة العراقية على يد الملك فيصل الأول مروراً بكل الحكومات التي قادت هذا البلد وصولاً إلى الآن، اللحظة الحاضرة، التي عبّر عنها المخرج بتشظي الفرد العراقي وتحوله من كائن سوي إلى كائن منفصل إلى عدة أجزاء يطوّف هائماً وسط القبور التي ملأت الوطن بسبب النضالات المستمرة والحروب الطويلة وامتهان الإنسان وكرامته طيلة الفترات التاريخية التي راكمت بعضها البعض لأسباب شتى، هذا التشظي هو لسان حال الفترة الحالية التي يعيشها الفرد العراقي وهو أيضاً لسان حال الوطن المنكوب المنهوب الذي تتقاذفه يد الأقدار من أزمة إلى أخرى في استدارة مستمرة لافكاك منها ولا خلاص . وقد استخدم الشباب تقنيات المسرح الأسود عن طريق الأشعة فوق البنفسجية لتجسيد تكاثر شواهد القبور وكأنها أشجار تظهر من باطن الأرض لتنمو وتتموضع لتصبح شواهد شاخصة تسوّر حدود المشهد، إنها حدود الحياة المحاصرة بالموت، كذلك استخدام الشباب لدمية مصنوعة من الستاير وبور لتنفصل إلى أجزاء، الرأس في جهة، والبطن في جهة، واليدين والقدمين في جهة أخرى، لتتسائل عن مكان وجودها في ظلام يلفه العدم وعجز الاستطاعة في توكيد طريق الخلاص أو الفكاك من الحال المزري الذي وجدت نفسها فيه .
ننتقل من المشهد الاستهلالي للعرض إلى العرض نفسه الذي أداره ثلاثة من الممثلين الذين يمتلكون قدرات أدائية جيدة ليضعوننا نحن كمتفرجين أمام ثلاثة من الشخوص المستلبين تتباين ثقافتهم، إذ أن أحدهم يمتلك ثقافة بمصطلحات رنانة لكنها فارغة، والآخر متعلّم لكن الحياة ومصاعبها أخذت منه كل مأخذ، والثالث أمي لا يقرأ ولا يكتب، وهنا أود أن أشير إلى المأزق الذي وضع مؤلف العرض نفسه فيه إذ لا تمايز يذكر إلا ما ندر في لغة كل منهم، والمفروض أن يكون هنالك تمايزاً حقيقياً على مستوى التعبير الحواري لكل شخص فيهم، ومن جهة أخرى أقول أنه عرض لا صراع فيه ولا حبكة ولا توتر درامي ولا أحداث متواترة. إذ أن العرض ظل أسير فكرته الانفرادية ( التحقيق الانفرادي ) مع كل شخص ولم يخرج منها إلى أفق آخر، نعم لقد عبّر عن أننا كينونات معرضة لمصادرة حرياتنا وآرائنا ومعتقداتنا في أية لحظة في ظل انعدام شكل الدولة الحقيقي، دولة المؤسسات المعتمدة على القانون واحترام الحريات وحقوق الإنسان، لقد لاحظت معاناة المخرج في وضع معالجاته الإخراجية لهكذا نص لا يمكن وصفه أكثر من انه تداع حر لذاكرة ما، فلو أننا حذفنا الممثلين الثلاثة ووضعنا ممثلاً واحداً يحكي لنا النص لما تغير شيء !! نعم لقد عانى المخرج كثيراً في محاولته التنويع بتحريك ممثليه لأن الحوارات متشابهه ولأن لا صراع حقيقي متوافر داخل هكذا نوع من النصوص والتي تعتمد البوح الذاتي أمام المتفرج، وكأننا أمام مونودراما بممثلين ثلاثة بدلاً من ممثل واحد، وهذا يذكرنا بمسرحية المقهى لنفس المؤلف وكانت تدور بنفس الطريقة والأسلوب .
والمحزن في الأمر أن التشكيل الحركي الذي برع في إدارته المخرج الشاب بديع نادر ظل تشكيلاً حركياً محظاً بلا فكر يتمخض عنه ولا فلسفة معروفة تقوده، حيث أن العرض المسرحي لم يمسك بالفكرة الفلسفية التي طرحها أو حاول السير في رحابها، بل ظل أسيراً للشكل دونما مضمون مسيطر، حيث أن الشكل في هذا العرض لعب دوراً بارزاً وكان يعكس جماليات عالية المستوى ظلت تراوح في مكانها بسبب افتقادها لتبريرها المنطقي، وقد أسهمت سينوغرافيا العرض في إبراز الجوانب الجمالية بتكوينات مشهدية مؤثرة بدءاً من الأرضية المتكسرة التي يسير عليها الفرد العراقي والتي ما كانت يوماً معبدة له بل كانت دائماً أرضية متماوجة يصعب السير عليها بشكل سلس إضافة لاشتعالها باللون الأحمر الذي برز عبر ثناياها، لون الدم الذي حوّل حياتنا إلى جحيم لا يطاق، نعم إنها أرضية من تعرّض لزلزال في أخلاقه، وفي مبادئه، وفي طرق حياته ومعيشته حتى أضحت هذه الحياة تسير طولاً مرة وعرضاً مرة أخرى، ولعبت الإضاءة دوراً حيوياً في تصعيد الشكل الجمالي وفي أكثر من موضع لكنها ظلت خالية من المضمون المختلف والمتنوع بل عبّرت عن فكرة فلسفية واحدة وهي محدودية الحركة وانعدامها في بعض الأحيان، نعم إن حياة الفرد العراقي محددة كبقعة ضوء لا يمكنه مغادرة حدودها لكثرة المحددات المفروضة عليه قسراً فعلاً وواقعاً يومياً مريراً .
لقد شاهدت فريق عمل متميز، بذل جهوداً كبيرة في سبيل الخروج بنتيجة مرضية لهم وللجمهور الغفير الذي حضر العرض، كانت لدى الممثلين طاقات أدائية متميزة لكنها لم تكن تمثيلية، بل أدائية، حيث شاهدت نفس الشباب في أعمال سابقة ظهروا فيها كممثلين لا كمؤدين، أحمد مونيكا في مسرحية روميو وجولييت في بغداد، أمير أبو الهيل في مسرحية فقدان، حيدر سعد في مسرحية فلم ابيض واسود، كانوا ممثلين من طراز مختلف لكنهم في هذا العرض ورغم بذلهم الجهد الكبير والتفاني الأكبر فأنهم لم يبرحوا منطقة الأداء المتواضع بسبب طبيعة النص الذي فرض عليهم التشابه في الحوار وفي طبيعة الشخصية وشكل حضورها وإخراجها، وحاول بديع نادر في تجربة أولى أن يؤسس لاسمه في قائمة المخرجين العراقيين وسوف يشار لاسمه بالبنان مستقبلاً لو أنه يتعرف على تمكنه من اختيار نص جيد يبرز قدراته الإخراجية الجيدة من خلاله، ولابد من الإشارة إلى التطور الكبير في مسيرة السينوغراف بشار عصام وولوجه منطقة جديدة في عمله نتأمل منها مستقبلا مكللاً بالنجاح وبالرؤية الواضحة والتمكن من أدواته المعرفية وربط الأفكار الفلسفية بالتقنيات المادية المستخدمة لتنفيذ هذه الأفكار .
ولابد أن أشير لظاهرة دخيلة على مسرحنا العراقي الفذ وهي ظاهرة الجمهور السطحي (بعض الجمهور طبعا) نعم هنالك متفرجين لا يفهمون ما يدور أمامهم وكل اهتمامهم هو التصفيق لكل شاردة وواردة ومقاطعة العرض في حالة أصفها بالسيئة ولا تخدم ظروف وطبيعة المشاهدة المسرحية لأنها اقرفتنا وقللت من متعتنا في المشاهدة، ختاماً أبارك للشباب أصدقائي جهودهم النبيلة في السير قدماً من اجل مسرح عراقي مكلل بالجمال .