مسرحية "إعزيزية" بين الميتامسرحي وضياع التجربة الجديدة/ قصي شفيق (العراق)
إن فعل الإفادة من الاحتجاج المسرحي إرادة تظل دائما محصورة بين قوسين يضيقان عن أن يتسعا حسب تطلعات المحتج ومصداقية مطالبة فالعالم مؤخراً أصبح أكثر انتفاضة وثوره فعالم المتغيرات والتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية, يدفع المثقف الفنان للاحتجاج الفني والفكري بواسطة المسرح, فكان الاحتجاج والتظاهر من أجل البدائل وإعطاء العلاج من خلال الصوت والحركة والجسد فصوت الاحتجاج حاجة انذاك لرفع الستار او للدقات المعلنة عن بداية العرض المسرحي.
فالمسرح يعلن نفسه طقساً درامياً الكل فيه ممثلاً والكل فيه متفرج الاحتجاج في هذا المقام يقد يرتبط بتمظهرات فرجه تتعدى كونها تراجيديا كلاسيكية الى اعتبارها تكريساً (للميتامسرح) في بعده، ذلك ان كل محاولة لمسرحة العالم والحياة في الواقع، مسرحه لمسرح قائم سلفاً فيهما، لذا المسرح الحديث كله عبارة عن ميتا مسرح، وأن الوجود الفكري الثوري يحتاج بالأساس إلى تنوير المجتمع وهذا هو ما يسعى إليه (الميتا مسرح) سواء من خلال إبداعاته أو من خلال مواقفه الجريئة والمخاطرة بالفعل، التي يتدخل فيها الاجتماعي مع السياسي ويتفاعل فيها الفكري مع الفني، ويتجاور فيها المنهجي مع التقني، مما يجعله تعبيراً حراً لإنسان حر في مجتمع حر ومواجه فعالة في وجه الفكر الأسطوري والحلمي واللاعقلاني.
لذلك جاءت انطلاقة المخرج العراقي (باسم الطيب) (للميتا مسرح) إذ هي محاولة إيفاد من شكل درامي يترجم رؤيا للعالم تقوم على نقد وإعادة بناء القيم التي يخلقها الإنسان على وفق ما تمليه الشروط المحيطة به، لذا فإن القيم المطلقة التي تقوم عليها التراجيديا تصبح غير صالحة في عالم متغير يصنع أشكالاً جديدة للتعبير المسرحي عن نفسه فظاهرة الاحتجاج وصوت المظاهرات والهتافات المرفوعة في الساحات الكبرى والشوارع تشكل وعياً دراماتيكياً أساسه صراع من نوع جديد / قديم/ أزلي صراع بين الإنسان وعقبات التطور والتقدم التكنولوجي فيغدوا الدافع والمحفز لديه هو نيل حياة كريمة فربط ظاهرة الاحتجاج بشعاراتها التي تشكل مفهوم سيميائي تداولي بـ (الميتا مسرح).
فقد جاءت تجربة المخرج (الطيب) مع العمل الطاقمي للممثلين من النص المكتوب المرتجل إلى آخر نتاج في التجربة المسرحية. إذ تأثروا تأثر مشابه بالمتغيرات والأحداث السياسية العراقية وانطلقوا من هذه الفرضية بإمكانية دراسة المجتمع من خلال المسرحية ودراسة المسرح عبر القضايا الثقافية والتحولات الاجتماعية والسياسية القائمة ولعل هذه التجربة عرفت من قبل المسرح الغربي الذي رسخ أساس التنمية البشرية وتنمية القدرات والانفعالات من خلال النظريات والدراسات الحديثة ولعل أبرزهم تأثيرات فرويد النفسية فالدراسات النفسية هي الأساس لدخول (الميتا مسرح) فيقتضي أن كل الأجزاء يقوم على اللعب داخل اللعب، سواء تحقق عبر الشكل التام المعروف بالمسرح داخل المسرح أو عبر أشكال أخرى، لأن الأساس الذي يستلزم حضوره هو ما يسمى بالمضاعفة. وللمضاعفة وجه جمالي يتمثل في مستويات اللعب التي ينتج عن تعددها تعدد منظورات تلقيها، وضع هذه البيات ضمن جدلية العلاقة بين الانتاج والتلقي والكشف وبالتالي عن صيرورة المسرح.
(فالميتا مسرح) يستدعي أولويات كفيله بتحويل التلقي السائد ، فطبيعته كممارسة مسرحية نقدية تقوم على الايهام والجاذبية والاندماج مما يخول لها ضد ما كان يعتبر خاصية أساسية للمسرح الأرسطي أن تصنع فرجة متعددة الأبعاد، تفتح للمتلقي المجال من أجل أعمال فكرة للمقارنة والنقد والتقويم وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن (الميتا مسرح) كتقنية مسرحية في الجوهر إنما تثبت مما لا يدع مجال للشك بأن المسرح خطاب إبداعي يتجذر في بنية المجتمع فتذوب فيه الثقافة والوعي المسرحي وينصهران، فمنذ أن عمد رواد المسرح قديماً إلى تنظيم طقوس الفرجة المسرحية وهيكلتها باستثمار فضاءات جديدة متنوعة لاستيعاب فاعلية النشاط المسرحي ونقله من الممارسة التلقائية إلى ممارسة جمالية قصدية حيث اعتبر المسرح حاجة دينية واجتماعية ملحة ووسيلة معبرة عن المشاعر والأحلام. التي حاول استثمارها المخرج باسم الطيب من خلال اخضاع باحت منتدى المسرح العراقي إلى قانون المخرج الموظف. فقد حاول استثمار كل قطعة وتحويلها إلى دلالات وعلامات متنوعة ومتعدد والبعض منها خلق منها عوالم جديدة وهذه لم تأتي من الفراغ أو المزاج وإنما حاجة ملحة من قبل المخرج وكاست العرض للبحث عن الجديد في عالم التجربة المسرحية. إلا أن طابع التشاؤم المفترض من خلال طيات نتاج المحاولة كانت تستند على فعل التشاؤم الذي جاء من خلال تسمية المخرج لعنوان العرض المسرحي فعل النحس والحياة المشئومة العبثية للواقع الاجتماعي العراقي فهي انطلاقة لتجربة أراد منها المخرج (الطيب) أن تفتح ملفات اجتماعية عراقية مستنداً على فعل المسرح العالمي الذي اراد أن يقدم شكل جديد للعرض المسرحي محاولة ايجاد حراك تجريبي جديد ومنطلقاً من الطقس العراقي فقد استخدم منذ البداية (الدخان والبخور) فهو يلعب على المنظومة الحسية للمتلقي ومن خلال الحواس ينطلق بفعل (الميتامسرح) ومن خلال تسليط الضوء من قبل وسائل الاعلام والصدى الانتاجي لمسرحية (إعزيزة) فكانت محاولة لا يمكن أن نخضعها ونقول عرضاً مسرحي فهي محاولات عشوائية متخبطة بالواقع العراقي وعبثية من حيث الشكل والمعنى علماً أن العرض المسرحي هو عملية اتصالية متواترة الايقاع بين المرسل الممثل والمرسل إليه المتلقي فأنطلق العرض المسرحي منذ البداية بتشظي الجمهور إلى مجموعات، كنت أتصور أن هذا التقسيم قصدي من قبل مخرج المحاولة وفيه أبعاد فلسفية محاولاً تطبيق النظريات من قبل المخرجون العالميون بتشاركية المتلقي وجعله جزء من منظومة العرض المسرحي أمثال (انطون ارتوا) (بيتر بروك) (أيوجين باربا) (بيتر شومان) والكثير من المخرجين محاولين تقديم تجارب فيها كسر للمتوقع والمألوف وإيجاد بدلائل مع إشراك المتلقي بشكل تام ويصبح جزء مشارك فعال في صناعة العرض المسرحي.
إلا أن تأثر المخرج بشكل غير مقصود طرح النظرية التشاؤمية لــ الفيلسوف الألماني(شوبنهاور والتشاؤم) كثيرا ما يعرف شوبنهاور بفيلسوف التشاؤم. فالتشاؤم علاقة ضرورية بالمزاج الخاص بل هو موقف معرفي من العالم. هو معرفة مؤداها أن هذا العالم، عالم لا يحتوي معنى يستحق العيش وأن الإرادة التي توجه الإنسان وتحركه هي إرادة عمياء بلا منطق، عالم مليء بالشرور والآلام. داخل هذه المعرفة يمكن أن يفهم الإنسان الأحداث، بل حياته بأكملها وبالتالي فإن هذه المعرفة تعين الإنسان على الحياة وتحميه من الصدمات وخيبات الأمل التي قد يقع فيها ومن هنا يمكن أن نرى التفاؤل داخل هذا التشاؤم، بمعنى الوعي بطبيعة هذا العالم وبالتالي السكون والهدوء تجاهه والتخلص من الفزع والصدمات ومن هنا نفهم علاقة شوبنهاور بالفلسفة الهندية التي تقدس الزهد عد التشبث بالحياة لأن هذا التشبث بالذات هو سر كل آلام الإنسان. تشاؤم شوبنهاور هذا ليس مجرد مشاعر تجاه الحياة والآخرين. بل هو بناء فلسفي يبدأ من نظرية في المعرفة ونقاش معمق لأبرز الآراء في المعرفة والتعرف وبالتالي فإن تشاؤم شوبنهاور هو تشاؤم يمكن مناقشته بالعقل والمنطق وليس بالأدوية النفسية. استطاع المخرج باسم الطيب اخضاع العرض المسرحي على وفق هذا المفهوم والإفادة منه في توظيف العرض لتغير الشكل والمضمون. فقد أضافه من تجربته في أوربا أن يوظف ما تعلمه ودرسه باستخدام (السيكودراما) أو المعالجة بالتمثيل المسرحي فلم يأتي هذا أيضا قصدي حاول اخضاع المتلقي للمعالجة بدون تنظيم ووعي عارف في طريفة المعالجة ولعل أبرز أساليب المعالجة المسرحية النفسية هي التي تجعل الممثل والمتلقي في نفس الطقس ومشاركاً أساس وفعال وهذا لم يحدث بسبب تسلط فكرة العرض التشاؤمية ألا وهي الموت الانتحار وتكررت محاولة إخضاع المتلقي أن الموت والعدم واحد وتكريس جهود الممثلين العالي في الأداء إلى إيصال فكرة الموت رغم مخالفة فكرة العرض الأولى هي (الابتسامة) فلم يعالج المتلقي ولم يخرج المتلقي منتفضا من خلال التأثر النفسي بالعرض المسرحي.
فمع بداية العرض يقدم المخرج المسرحي نفسه مستخدما عبارة ( ممثلين أرجوكم خلي نشتغل صح ونحاول أن نسي الجمهور الخرا بالخارج) فنطلق العرض من خلال الاغاني العراقية القديمة وفوضى عارمة في شرفة باحة المنتدى ثم دخول مجاميع الممثلين بابتسامة التي كتبها وأرادها المخرج للعرض ثم أعلن أن المسرحية هي ثلاثة فصول ثم وجدت نفسي مع (الشاي والببسي) مشتركا مع الممثلين ثم استخدام عبارات مباشرة ( خلي ننسه الموت وذبح البنات وذبح وقتل الشباب) وحتى في استخدام ظاهرة التقاط الصورة ما يسمى (سلفي) من ثم يتحول المشهد إلى مشاجرة مبعثر وضرب مبرح للممثلين على أساس إعطاء صورة مرئية من خلال العنف الدائر للحياة الاجتماعية العراقية مستخدما مؤثرات طلاقات النار والأصوات الصاخبة مع الرقص الغربي الذي يعلن فيه الممثلين عن تطهير العنف من النفس من خلال العبث بالرقص وهنا لابد الإشارة أن محاولة باسم الطيب في الاشتغال على مفهوم العلاج النفسي بالدراما ما يسمى (البارامسرحي).
وهنا عندما يعبر الإنسان عن الفعل الدرامي بالحركة فإنه كان يعبر من خلال مستوى فيزيقي فإن التعبير الفيزيقي من خلال حركة الجسد ينشئ نتيجة لقوة كبيرة من العالم الداخلي للفرد، فهناك ارتباط وثيق بين الجسد والأحاسيس والانفعالات والحالة العقلية، فالتعبير الفيزيقي هنا يكون مدخلاً سهلاً للتعرف على الانفعالات والعالم الداخلي للفرد والعلاقة بين الجسد والحالة النفسية تشكل ركناً هاماً في تدريب وأداء الممثلين الذين يتعلمون كيفية تحقيق المرونة الفيزيقية والصوتية حتى يكون أدائهم الدرامي ذات تأثير كبير فبدون هذه المهارة والتدريب تبقى قدرات الممثل التعبيرية محدودة وقد ينتهي به الأمر بأن يعبر في كل دور عن شخصيته هو، وهذا بالضبط ما يتم مع المريض الذي لابد له من المشاركة الجسدية في الأداء من خلال التعبير الكامل في المواقف، التي يشارك بها فعلياً مع الممثلين فيصبح جزءاً من العملية المسرحية فهنا تتم المعالجة بالدراما من خلال التمثيل.
وبعد انتهاء الفصل الأول طلب من المجاميع أن ترشد الجمهور إلى غرفة المفترضة جزء من العرض وهنا أصبح انقسام وانشقاق العرض المسرحي مرة أخرى. فقد كانت الغرف توظف من خلال الملفوظ المنطوق لا معنى الصورة المشهدية كما في المشهد (3d) الذي جاء به التقليد والمباشرة باستخدام وسائط بسيطة من خلال الشاشة المعروضة وعندما جعل الارهابي والجيش في وجه وتصدي واحد مستخدما رمزيا (بالجامع) أما الغرفة الأخرى (الكاريكاتير) فقد كانت ترجمة القصة البسيطة من قبل الممثل وهذا ضعف عندما تترجم الأشياء. ومن بعد تنوع الأداء واستخدام فضاءات المكان المتنوع في منتدى المسرح ومن غرفة إلى أخرى كان العنصر الحاكم على الغرف التشاؤم المقترح من فرضية العنوان المسرحي رغم أن الممثلين الشباب كان لهم دور كبير في استثمار طاقاتهم الأدائية في اقناع المتلقي بروحية المشاهد (الإنفرادية) وجعل المخرج كل غرفة متنوعة والمشكلة الأكبر التي وقع فيها المخرج كانت كل نهاية مشهد هي توقع من قبل الممثل تفضلوا بما معنى إنهاء المشهد وبين ذهاب وإياب المتلقي غابة المتعة والدهشة لربما هذه التجربة المسرحية جديدة في العراق وقد تحسب للمخرج تقديم عرض مسرحي مغاير ومألوف للمتلقي العراق لكن هل من الممكن أن نضع هذه التجربة من ضمن المنجز الإبداعي العراقي وهل هذا العرض ممكن أن يشاهد أكثر من مرة ؟؟ هنا التساؤل ولعل الاجابة عن السؤال ما طرح المخرج أن الفصل الثالث مفاجئة ونجد أن المفاجئة لم تستغل إعلان من قبل الممثل (حيدر سعد) (اني راح اموت موت الله ) وهذا جاء في الكثير من عروض المسرحية الشبابية إعلان الموت بدل الموت قتل أو ذبح أو القتل بالسيارات المفخخة وغيرها من أساليب القتل ومن ثم يتم ختام العرض باللطم على الصدور ونهاية العرض المسرحي.
خلاصة القول لم يستثمر المخرج (باسم الطيب) الطاقات والإمكانيات الشبابية والفنية والتقنية للخروج بتجربة مسرحية رصينة. لم يكن العرض المسرحي مثيراً ومدهشاً فقد بقى يتراوح بالتقليدية على مستوى الصورة المرئية وبين الشكل والمضمون فقد ضاعت صناعة التجربة المسرحية الجديدة التي كان معول عليها أن تخرج بهذا الطاقم الكبير والفني برصانة مسرحية تجريبية فقد راحت التجربة في البساطة والتقليد من خلال الملفوظ المنطوق والمشاهد المرئية والمتنوعة. فيمكن القول هنا وحسب القراءة النقدية للعرض أن مسرحية (إعزيزة) هي تجربة أو محاولة لإيجاد مسرحية جديدة.
قصي شفيق ( ناقد وأكاديمي)
الهاتف: 07705428053