قراءة في النص الحائز على المركز الأول في جائزة الشارقة للإبداع العربي المسرحي 2015 "ولم يكُ شيئاً.."/ أحمد الماجد (العراق)
إبراهيم الحارثي.. يعالجُ بؤس الواقع بجرعةٍ فكريةٍ واعية..
عن: مجلة الرافد ..الامارات.. مايو2015
“النص نسيج لا يكتمل إلا حينما يتدثر به ممثل..” بهذه المقدمة التي افتتح بها الممثل والكاتب المسرحي السعودي إبراهيم الحارثي.. عضو ورشة العمل المسرحي بالطائف وعضو جمعية المسرحيين السعوديين وعضو الهيئة الدولية للمسرح والمندوب الإعلامي بالسعودية للهيئة العربية للمسرح والذي كتب قبل هذا النص (7) نصوص مسرحية عرضت معظمها على الخشبة وفاز بجوائز أيضا في التأليف المسرحي قبل التتويج الذي حصل عليه من دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة الجهة المنظمة لجائزة الشارقة للإبداع العربي في دورتها 18 للعام 2015، والتي نال فيها الحارثي المركز الأول في قسم المسرح من الجائزة. إذن.. بتلك المقدمة التعريفية والتحذيرية يحضّر الحارثي القارئ، وقبل أي حوار يبدأ به على لسان الشخصيات، بأن النص الورقي لا يكتمل إلا حينما يتحول المتلقي من قارئ إلى مشاهد.. فإبراهيم يعي تماما أن المخرج هو من يبعث الروح في ورق المؤلف.. ويدرك أيضا أن الممثل من يؤنسنها على الخشبة..
ويكمل الحارثي بعد ذلك مقدمته المنطقية أو المقولة التي صاغها بذكاء تمكن فيها من تحفيز المخيلة وإيقاظ الذهن في تشويق وانتظار وترقب وتحضير أيضا للدخول إلى حكاية النص.. فجملته: “(لا ستارة للمسرح تستر ما سيحدث فوق الخشبة، فالشيطان لن تستره ستارة تتدلى من سقف المسرح لتخفي هذا المخلوق الذي يتنفس بيننا ..).. يقف الحارثي بها على عتبة النص.. ممسكاً بعدة فوانيس يمنح كل داخل فانوسا يمسكه بيده كطقس يمنح المتلقي فرصة المشاركة في التفكير مع المؤلف.. كما يجعله شريكاً في العاطفة وشريكاً في كل قرار تتخذه الشخصية حينما وضع المتلقي في قلب الصراع بعدما أخبره أن خطاب النص ليس مجرد حكاية تقليدية، بل هي دراما متبادلة بينك أيها المتلقي وبين شخصيات النص، فمخاوفك تعيش بيننا وما سأقدمه وشخصياتي أنت شريك أساس فيه وطرف.. كل ذلك يحدث للمتلقي قبل بدء الحوار على ألسنة الشخصيات وبقصد واعٍ من المؤلف..
الشيطان..؟؟ من هو ذلك الشيطان الذي تنتظره القرية في ما طرحه المؤلف في هذا النص..؟؟ ولماذ الشيطان دون غيره؟؟ ومن ذلك الشيطان الذي يأتي مبعوث من القرية لأجل استقباله وإكرامه وحسن ضيافته..؟؟ فهو في نهاية الأمر شرير قدومه سيوقع الفرقة بين أهل القرية في العُرف، ويؤجج الصراع العقائدي والفكري والذي شكله الحارثي بين شخصيتي رجلين متناحران في الوجهة، أحدهما عكس الآخر تماماً.. مؤيد ومعارض.. من يستعد لقدومه بالورود.. وممتعض يقاتل دون وصوله.. فالشخصيتان المطروحتان بينهما تقارب بحكم أنهما يدوران في نفس الدائرة ومرتبطتان ببعضهما البعض منذ زمن طويل بحكم بشريتهما، غير أن (الرجل1) و(الرجل 2) مختلفان فكراً، وهما كثيرا التفكير في دروب التباعد والانفصال عن بعضهما إلا أنهما عاجزان عن فعل ذلك بحتمية المكان الذى يسعى كل واحد منهما دائماً نحو الفكاك منه..
هكذا تذهب بنا حكاية “ولم يك شيئا” إلى قرية يبدوا أنها فقيرة مضطربة قلقة وكأن الإستقرار لم يعرف إليها طريقاً.. سكانها شخصيات كادحة تناضل من أجل العيش، بين مناصر لفكرة قدوم الشيطان ومعارض، تتوزع بين (شحاذ) يتسول المال من أجل حفرة من لا شيء.. و(بائع خضراوات) ميوله لا تذهب إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء و(عامل المقهى) سحقته الحياة وجعلته عبداً للعيش الكريم من أي وعاء جاء أو خرج.. بالإضافة إلى شخصيات أخرى لعامّة الشعب.. وكذلك، يرغب سكان هذه القرية بالحياة التي يتمنون مثل حلم لا يفيقون منه صباح كل شمس إلا وقد تحول إلى كابوس يجعلهم مهيئين لاستقبال المنقذ حتى لو كان خيالياً أو منقرضاً أو يحمل أفكار الشيطان.. أو حتى الشيطان نفسه.. لتذهب بعد ذلك أحداث المسرحية إلى خاتمتها بالتراب الذي يعكس النهايات الحتمية لبؤس البشرية فيها.
إن فرضية انتظار قدوم “الشيطان” في النص، تقربنا كثيرا من فرضية انتظار شخصية “غودو” لصامويل بيكيت” في مسرحية “في انتظار غودو” إذ نحن هنا أمام نفس السؤال.. من هو هذا الشيطان أو “غودو” الغير موجود أصلا، هل هو الزمن الذي يأكل البشرية ويسرقها من وجودها دون وعي منها؟ أم هو السعادة التي سيجلبها هذا القادم القديم الجديد إلى القرية؟ أم هو الضمير الذي اغتاله بؤس الحياة وتحول إلى شيطان يعيش داخل كل إنسان؟ أو ربما يكون قدوم الشيطان تسوية وقبول لأي حلّ يقدمه هذا العصر الخاوي في ظل العجز الذي تواجهه القرية أمام القوى المجهولة، والتي نحن الكادحين سكانها وفق ما فرضه الحارثي من شخصيات سلطت الضوء على تلك الشريحة المهمة والمهملة إلا من فوضى الوجود.. حيث لا أحد قادر على إنقاذ أحد.. إلا القوى الشيطانية المدججة بأسلحة فتاكة سحرية لا يملكها البشر وذلك وفقاً لثقة وإيمان أهل القرية واحتكامهم إلى الخوارق في أنسنة هذا العالم.. ويوضح ذلك الحوار التالي:
“الرجل 1 : حسنًا و كيف هي صحة أمه الآن ؟؟
عامل المقهى : تصنع عقود ورد
الرجل 2: لمن ؟؟
عامل المقهى : للشيطان
الرجل 2 :(بغضب) هل هذه إجابة منطقية،هل يعقل أن تتفرغ زوجتك لزيارة الشيطان وهي تتنفس هواءً مقطراً بالتعب ؟
عامل المقهى :هكذا تصنع الحرة،لا تتبع سراب الحياة، وزيارة الشيطان أمر مهم، وأنا أشد على يديها …”
بتلك التفاصيل التي جاءت في السياق الحواري للشخصيات بيّن المؤلف فكر شخصية (عامل المقهى) وميوله وتطلعاته وموقفه مما يحدث أو سيحدث، وكذلك وضح أفكار الآخرين (الشحاذ وبائع الخضراوات) والشخصيتان المتصارعتان في النص بالحوارات التالية:
“الرجل 1 : “الإنسان عدو الإنسان” ….
الرجل 2 : “الشيطان هو عدوكم”
الشحاذ : “الأدوات التي أحفر بها هي عدوي ..”
فمن الحوار الفائت، يبدوا الصراع جليا بين شخصيتي (الرجل 1) و(الرجل 2)، ذلك الصراع أسسه الحارثي في هذا النص من كينونة شخصية “الشيطان” المنتظرة، والتي أنشأها اعتمادا على وجهة النظر الفكرية للشخصيتين المتنازعتين في ماهية وكينونة ذاك الشيطان، مستحضرا حكاية آدم وأسباب هبوطه إلى الأرض وإغواء التفاحة، كما في الحوار التالي:
“الرجل 2 : في هذه الزاوية الكئيبة تستقبلون فرداً مزق البشرية
الرجل 1 : و أخرجنا من الجنة ؟؟
الرجل 2 : و أخرجنا من الجنة
الرجل 1 : كان الاندفاع هو السبب، كان بالإمكان أن نتجاوز قضية الشجرة كان علينا أن نبقى
لا أن نخرج بشكل موجع”
إذ استفاد الحارثي من حكاية آدم المعروفة، موظفاً إياها في النص عبر جدل فكري وإسقاطات لها تشظياتها ودلالاتها على البعد النفسي الذي بناه لشخصياته لا بقصد الدفاع عن شيطان التفاحة، بل ما يريده الحارثي هو تعزيز وتقوية شخصية ذلك الشيطان القادم إلى القرية، ومن جهة أخرى تهيئة المتلقي لاستقبال حدث عظيم، كذلك اعتمد الحارثي في مضمون النص وجهات نظر عدة في مسألة قدوم الشيطان، مبينا أن ليس كل مجهول لا نعرفه أو معروف مسلّم به بالتثاقف والعرف هو غير قابل لإعادة التفكير فيه ووضعه على ميزان التفكير والتحليل.. فشخصيتا (الرجل1) و(الرجل2) وكما جاء في الحوار السابق، متفقتان في حقيقة أن الإنسان هبط إلى الأرض، غير أنهما مختلفتان في السببية، فالرجل 1 يميل إلى أن الشيطان ليس وحده سبب ذاك العقاب، أما الرجل2 فيؤمن إيمانا قاطعا قد يرفع السيف من أجله، بأن الشيطان عدو البشرية والإنسانية وكل جميل في العالم وأنه هو وحده من أغوى ومن أفسد ومن خاط خيوط المؤامرة الكونية العظمى.. وأن كل من يخالف رأيه هو عدو فاسد لا يصح معه نقاش أو جدال أو تهدئة.. من تلك القماشة أيضاً خاط الحارثي نهاية الحكاية، بعودة البشرية مرة أخرى إلى التراب الذي جاءت منه مع قطعة كفن بيضاء تستر عورة ما ارتكبه من فضائع في رحلته الأرضية القسرية بين التربتين في صورة بلاغية بين من خلالها البؤس والوجع الذي يعاني من جرائهما البشر على أرض لزجة متحركة قد تلتهم العالم في لحظة وكما في الحوار التالي على لسان الرجل 2 : (سأضع هذا القماش الأبيض فوق أرضي وأرفض أن تمر عليها خطوات تدنسها،الأرض أم المساكين و الأرض هوية المستضعفين والأرض بيت للجائعين والمشردين ولكل من يحاول مطاردة حلمه) .
أما شخصية (الشحاذ) فقد اتخذت من الآلة عدوا.. والآلة هنا قصد بها الحارثي الزمن المادي للأشياء.. والتي يؤمن بها ذلك المتسول حتى يصل النص في نهايته إلى أن يأكل الزمن كل المنتظرين ولا يصلون إلى شيء ولا يحصلون على شيء سوى نفس التراب الذي قدموا منه.. “تموت بطوننا، تتعب أيدينا، نتجاوز التعب، والمهمة واحدة والهدف واحد، الكنز فقط” ويبقي الباب مفتوحا لصراع طويل الأمد بين ماض مغيّب ومستقبل مجهول يتأرجح بين الحالتين.. لقد توفق المؤلف كثيراً في خلق هذه الشخصية التي جاءت ضمن سياق النص، ومنحته بعداً فكرياً وجمالياً.. وفي خلق شخصية (الشحاذ) يظهر “بيكيت” مرة أخرى، من خلال اللعب على الزمن المادي، ذلك الشحاذ الذي يصور لنا الزمن ووجع انتظار معلومة نهايته مسبقا، وكأن المسرحية تحاكي الذات الإنسانية في البحث العابث نحو الحقيقة وانتظار مرعب ومقلق قد يطول أو لا يطول وفي كلتي الحالتين لا فائدة منه في خطاب له نفس الأسباب تقريبا وفي الظروف ذاتها التي كتب فيها صامويل بيكيت مسرحية “في انتظار غودو” في العام 1953 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، إذ أنها شبيهة كل الشبه بما تمر به منطقتنا العربية الآن، من حيث أجواء عدم الثقة بالحاضر والخوف من المستقبل وخيبة الأمل في كل شيء والفتن السوداء المترامية على الطرقات، والقتل اليومي الذي طحن أخضر الإنسانية ويابسها. كذلك، نشاهد الواعز الوجودي حاضر في هذا النص، من خلال أفكار الآخر التي طرحها الحارثي والتي تبنى من خلالها فكرة أن حياة الإنسان على الأرض لا جدوى منها الا من منظور ضيق باعتبارها تكفيرا عن خطيئة أزلية وانتظارا للخلاص من كل عذابات الحياة التي لا دخل له هو فيها أصلاً.. بالإضافة إلى ما ذكر من ذلك التشابه الفكري بين هذا النص وبين نص “بيكيت” فإن شخصية “بوزو” في مسرحية “بيكيت”، والذي يدعي أن الأرض ملكه ويستنكر انتظار غودو فوق أرضه، تماما ما فعلته شخصية (الرجل 2) عند الحارثي.. ويظهر ذلك في الحوار التالي على لسان شخصية (الرجل2): “لن يمر أيها الأخرق وسأضع جسدي فداءً لذلك، سأترك عمري المتسع ليدفعه بعيداً هناك” وكذلك.. “لن يمر هذا الملعون من هنا”.. “لن أترك الشيطان يطأ هذه الأرض”..
كما أن المؤلف إعتمد على ثقافة المنطقة المليئة بالعاطفة والمتقدة الخيال والمؤمنة بقصص الجن والاشباح والوحوش، باعتبارها تصدق في لا وعيها ما تريد تصديقه حتى لو كان ضربا من ضروب الخيال، أو أن تتشبث به لتحقيق أحلام هي من وجهة نظرهم البسيطة مستحيل تحقيقها أو معجزة.. لذلك أراد ابراهيم في هذا النص اللعب على وتر العاطفة وثقافة البيئة المتوراثة والخصبة والمهيأة لاقتتال من أجل مستقبل مجهول.. معلوم فقط لمن أوجده.. لحرب طويلة الأمد من أجل ناقة.. “تغتسلون بالدم، منذ الوهلة الأولى وأنتم تحبون الدماء” لحرق العباد والبلاد من أجل تحقيق مآرب خفية يعلمها الجميع وفي ذات الوقت لا يعلمون عنها شيئا..
لقد حاول الحارثي في “ولم يك شيئا” أن يربط بين الحاضر وبين أقدم القديم ليبني بناءا مسرحيا يهدف الى ان يتخلص من كل ما هو ليس بضروري والى ان يكون نصاً مسرحيا الى أقصى حد، غير أن اللعبة المسرحية التي صاغها فكرياً بإتقان وتفنن فيها..كان ينقصها الحرفية لا في اختيار الشخصيات بل في بناء دراميتها، فالنص المسرحي ليس مجرد فكرة أو حتى فكر، على الرغم من كون الفكرة وفكرية الطرح أمران مهمان جدا، كما أن الدراما ليست مجرد قصة، فشخصيات “ولم يك شيئا” كانت بحاجة إلى بناء يوضح أبعادها، الأمر الذي أدى إلى انحسار الفعل عبر حوار ذهب أحيانا إلى التقريرية ونحى في أحيان أخرى للخطابية ولم يؤسس لصراع متنام يتمكن من حمل الطاقة الفكرية الكبيرة التي ألقاها المؤلف على كاهل الشخصيات. وعلى الرغم من أن نصاً مسرحياً عبثياً مثل هذا النص غالبا ما يعطي انطباعا للقارئ بأن العمل لم ينجز كاملا أو كما يقال عن حبكته بأنها “جرار غير متقنة الصنع” إلا أن هذا لا يعفيه من ضرورة وجود بناء مسرحي درامي متماسك لا يفصل الشكل عن المضمون. كما جاءت حوارات الشخصيات نابعة من فكر المؤلف، لا من فكر الشخصية، متأرجحة بين حوارات يومية بسيطة ثم تتحول لحوارات بليغة ورشيقة وأحيانا تنحاز إلى القصيرة المركزة دون حتمية درامية لذلك التغيير.. هذا النص أراه قد حمل فكراً وجودياً عالياً كان بحاجة من المؤلف إلى بناء درامي يوازي عمق هذا الفكر..
وهذا كله لا يقلل من قيمة وأهمية نص مسرحية “ولم يك شيئاً”.. فكرياً ودرامياً.. بل إن هذا النص يؤكد على أحقية إبراهيم الحارثي في الفوز بجائزة الشارقة للتأليف المسرحي بالمركز الأول، طارحاً خطاباً إنسانياً يؤكد على مقولة أن الإنسان مخلوق عاجز، محدود القدرات، مجهول المصير، ليس لوجوده معنى بحكم البداية التي جاء منها والنهاية التي سيؤول إليها وفقاً للزمن الذي يحفر نهاية كل كائن مع أول صرخة ولادة.. فالحياة كما يراها نص المؤلف.. فعل استمراري لا يمكن إيقافه حتى لو رغبنا في ذلك.. هي صرخة من يقع في المصيدة ويعلم أنه واقع فيها لكنه مع هذا مصمم على أن يجاهد حتى النهاية للتخلص منها..