مئوية صاحب صرخة (هدها يا عم منجد وأبنيها من جديد)/ د. حسن عطية
واقعية بلا ضفاف
صاغ مجده بإبداع راق، وصاغ إبداعه الراقي بعقل مستنير، وصاغ عقله المستنير بتشابك عميق مع مجتمع كان يهفو للتغيير والتقدم، فأنطلق بأفلامه السينمائية معبرا عن واقع صاخب بالثورة ، ومؤمنا بأن التحليق الجمالي لا يبعده لحظة عن نقد الواقع وتقديم رؤيته فيه من أجل تطويره والتقدم به نحو الأفضل، فأسس وقاد أبرز اتجاه في السينما العربية وهو اتجاه الواقعية، التي تميزت على يديه بكونها بلا ضفاف تحدها وتحصرها في مفهوم صارم، فتعددت أطياف الواقعية عنده بين الطبيعية والنقدية والثورية والخيالية .
إنه المخرج الكبير “صلاح أبو سيف” (10/5/1915-22/6/1996) الذي نحتفل هذا الأسبوع بمئوية ميلاده، والذي حمل مع قلائل لقب (فنان الشعب)، ووصفته الموسوعات العالمية بالمخرج (العالمي)، وإن أهتم هو في صياغة أفلامه بشعبه وهمومه، دون انشغال كبير بموضوع العالمية الذي أنشغل به بعض من جيله، فعكف على امتداد ما يقرب من نصف قرن على تقديم أربعة وأربعين فيلما فقط ، فلم تكن أيضا كثرة إخراج الأفلام تشغله، بل كانت تشغله حركة المجتمع التي يعايشها ويرصدها بعقل ناقد، كما لم يشغله موضوع المخرج المؤلف، الذي يهيمن فيه المخرج الفرد على أبرز عناصر الإبداع، بل آمن بجماعية الإبداع السينمائي، وحرص على أن يعتمد على مادة روائية تساعده على تحقيق بناء درامي متماسك لأفلامه .
فالسينما عنده رسالة تحريضية لعقل مجتمعه، ووسيلة جمالية راقية تنقد الواقع وتعرى أخطائه وتشير لما يجب أن يفكر فيه جمهور أفلامه من ضرورة إعادة النظر في حياته وسط مجتمعه، فلم تكن أفلامه للتسلية، رغم امتلاكها لكل عناصر الفرجة المثيرة، ولم تعمل على تخدير وعى جمهوره، فهي تخاطب عقله عن طريق إثارة وجدانه، وهى تغوص به في عمق الواقع، لا لتنقل له ما وصل إليه هذا الواقع من هبوط وتدنى باسم أن السينما مهمتها نقل الواقع بتخلفه، بل لتنبه جمهورها إلى ضرورة معرفة أسباب هذا التخلف والعمل على إزالته .
من هنا ارتبطت أفلامه بتيار الواقعية، الذي لعب دورا أساسيا في تأسيس قواعده في حقل السينما منذ منتصف أربعينيات القرن الماضي، ليس فقط تماشيا مع تيار الواقعية الذي ظهر في إيطاليا في نفس الزمن، بل لأنه كان جزءا من تيار أدبي وفني مصري كان يبحث عن ذاته، رافضا تيار الرومانسية الشعرية الذي مثلته مدرسة (أبو للو) الوجدانية في الثلاثينيات، وساعيا لتجاوز الإغراق في ميلودرامية سينما الصعود الفردي القائم على الصدفة في الأربعينيات، فجاءت أفلامه تشبهه هو ولا تشبه أحدا سواه، وتعبر عن مجتمعه المصري حتى وهو يعتمد على مادة من أفلام أجنبية، مثل فيلمه الأول (دايما فى قلبى) 1946 الممصر عن الفيلم الأميركى (جسر ووترلو) للمخرج “مرفين ليروى” ، وحل عنده الضابط البحرى (عادل) “عماد حمدى” محل الكولونيل (روى كرونين) “روبرت تيلور” ، والعاملة اليتيمة (سنية) “عقيلة راتب” محل الراقصة (ميرا ليستر) “فيفيان لى” فى الفيلم الأميركى ، ورغم المسحة الواقعية للفيلم ، غير أن التيار الميلودرامى الأخلاقي الذى هيمن على سينما وقتذاك أبعد الفيلم عن التبصر فى حركة الواقع ، وأبتعد بالفيلم عن حلم “أبو سيف” فى تقديم سينما واقعية ، شارك بمساعدته لرائدها الأول “كمال سليم” فى إخراج فيلمه الفريد فى هذا التيار (العزيمة) 1939 ، مما دفعه للبحث عمن يمنحه مادة واقعية ذات رؤية ناقدة للواقع ، فجاء اللقاء المثمر مع “نجيب محفوظ” ، ليشكلا معا أبرز دائرة من دوائر إبداع مخرجنا السينمائي الثلاث ، التى تشكلها علاقة “أبو سيف” بالكتابة الروائية ، بعيدا عن التقسيم الزمنى السائد فى التعامل مع سينماه ، دون أن نغفل التطور الفكرى والجمالى لرؤيته السينمائية عبر نصف قرن من الزمان .
الدائرة المحفوظية
انقسمت هذه الدائرة بدورها لدائرتين صغيرتين ، حيث تعامل “أبو سيف” مع “محفوظ” أولا ككاتب للسيناريو المعد عن قصص لآخرين ، ودون تدخل فى كتابة الحوار لرفض “محفوظ” الكتابة بالعامية ، ثم ثانيا مع “محفوظ” ككاتب رواية مطبوعة ، دون أية مشاركة من الأخير فى كتابة السيناريو لها ، حيث حرص على ألا يتدخل مطلقا فى صياغة الأفلام المعدة عن رواياته ، وقدم لمحفوظ فى الستينيات فيلمين فقط عن رواياته الممعنة فى الواقعية .
بدأت المرحلة الأولي مع فيلمى “أبو سيف” الثانى والثالث (مغامرات عنتر وعبلة) و(المنتقم) ، حيث لعب كاتب السيناريو “فؤاد نويرة” دوره فى تعريف “أبو سيف” بصديقهما المشترك “محفوظ” ، ودفع الأخير لمشاركتهما كتابة سيناريو الفيلم ذى الإطار التاريخي (عنتر وعبلة) ، والذى كتب قصته “عبد العزيز سلام” ، لقدرة “محفوظ” على كتابة سياق حكائي متقن لرواياته التاريخية الأولي ، وبدء مشواره مع الرواية الواقعية قبيل هذه المعرفة المشتركة بنحو العامين ، حيث نشر روايته الواقعية الأولى (القاهرة الجديدة) عام 1945 . وأن تأخر عرض فيلم (عنتر وعبلة) حتى نهاية 1948 ، بينما سبقه فى الظهور فيلمه الواقعى (المنتقم) ليعرض عام 1947 ، وعبرهما تحقق اللقاء المنشود بين رائدي الواقعية الروائية والسينمائية فى لحظة زمنية كانت بأمس الحاجة إليهما ، وحدد “أبو سيف” طريقه نحو الواقعية من قبل سفره لإيطاليا بعد ذلك بثلاثة أعوام ، وإخراجه النسخة العربية من فيلم (الصقر) الإيطالي المصرى المشترك عام 1950 ، والذى أخرج النسخة الإيطالية منه “جياكومو جينتيلومو ” بنفس الأبطال المصريين.
قدم “أبو سيف” و”محفوظ” معا أربعة عشر فيلما ، واحد منهما تكرر إخراج السيناريو الخاص به هو (لك يوم يا ظالم) وذلك فى فيلم بعنوان (المجرم) 1978 ، واثنان عن رواياته (بداية ونهاية) و(القاهرة الجديدة) ، وإحدى عشر فيلما كتب لهم السيناريو عن آخرين ، اثنان عن روايتين للكاتب “إحسان عبد القدوس” ، وواحد يدور فى أجواء تاريخية (عنتر وعبلة) والباقى فى أجواء اجتماعية تتراوح بين الحارة الشعبية ونوادى أبناء الذوات ، اثنان منهم معدان عن مادة أجنبية هما (لك يوم يا ظالم) 1951 ، الذى كتب له “محفوظ” السيناريو مع المخرج عن قصة سينمائية أعدتها المونتيرة “وفيقة أبو جبل” عن رواية (تريز راكان) للكاتب الفرنسى “إميل زولا” ، مال فيها المخرج لتقديم رؤية طبيعية تكتفى بتقديم الحياة كما هى باعتبار الفيلم “شريحة من الحياة “، وفيلم (مجرم فى إجازة) شارك “محفوظ” المخرج “كامل التلمسانى” كتابة السيناريو تمصيرا لمادة الفيلم نوار (النمر النائم) للمخرج “جوزيف لوزى” ، ناقش من خلاله دور البيئة الاجتماعية فى تهذيب أو تشويه سلوك الإنسان .
عن قصة أعدها “محفوظ” سينمائيا عن تحقيق صحفى للكاتب “لطفى عثمان” ، والمتعرض لوقائع ظهور مجرمتى الإسكندرية الشهيرتين فى عشرينيات القرن الماضى حتى القبض عليهما ، قدم “أبو سيف” فيلمه (ريا وسكينة) 1953 وبعده بعام (الوحش) 1954 عن قصة صاغها “محفوظ” استنادا على مجموعة من التحقيقات الصحفية التى تعرضت لعالم مجرم أشتهر ب (خط الصعيد) وسقوطه بأيدي العدالة . ثم قدم أبرز أفلام هذه الدائرة ، والتى انتقل بها من الطبيعية إلى الواقعية النقدية التى تحلل الواقع وتفند أخطائه ، وهو فيلم (الفتوة) 1957 عن قصة لنجم الترسو “فريد شوقى” و”محمود صبحى” ، سيناريو “محفوظ” مع “محمود صبحى” والسيد بدير” والمخرج ، مناقشا فيه قضية علاقة المجتمع بالنظام السياسى الذى يحكمه ، والذى يولد فتواته الأشرار كل مرحلة ، ما دام هذا النظام الفاسد مازال قائما ، فقد دخل الفتى الفقير “هريدى” سوق روض الفرج للخضروات والفاكهة ومع أول خطوة له فى السوق يلصق على قفاه لتحطيم كبريائه ودفعه للامتثال للنظام السائد فى السوق ، إلا أنه سرعان ما يدرك قوانينه الداخلية ، فيقضى على رأس النظام المتسيد ، ليحل معه دون أى تغيير فى نظام السوق ، لذا ينتهي الفيلم بقدوم فقير آخر يلصق على قفاه فى أول خطواته نحو السوق ، ليتركنا “أبو سيف” نفكر فى التغيير ، لا بحلول قيادة محل أخري ، بل بتغيير النظام الذى يؤدى للفساد والطغيان ، وكانت هذه مشاركة “محفوظ” المتحفظة تجاه نظام ثورة يوليو 52 ، بعد خمس سنوات من قيامها ، توقف خلالها عن الكتابة الروائية ، كما كانت مشاركة “أبو سيف” المؤيد لثورة يوليو ، الناقد لها من داخلها ، والمرتعب من تأخر تغيير النظام الاقتصادي والاجتماعي القائم زمنه بالصورة التى يجب أن تتحقق لصالح قوى الشعب العاملة ، وأن أضطر المخرج أن يكتب على تترات الفيلم وقبيل بداية أحداثه “وقعت حوادث هذه القصة أيام أن كانت فئة قليلة تتحكم فى أرزاق الناس وأقواتهم” ، محيلا الأمر للماضى وليس للحاضر ، وذلك انفلاتا من الرقابة ، مثلما فعل قبله مع فيلمه (الأسطى حسن) الذى أنجزه قبيل ثورة يوليو ، ونقد فيه النظام الاجتماعي والاقتصادى الذى كان سائدا ومحققا تفاوتا طبقيا رهيبا بين حيي الزمالك وبولاق والذى يفصل بينهما مجرد جسر صغير ، فأضطر أن يضع لافتة (القناعة كنز لا يفنى) فى نهاية الفيلم ، ليحول الموضوع لمجرد موقف أخلاقي بدلا من الإعلان عن موقفه السياسي .
قبل أن تنتهى الخمسينيات يفاجئ “أبو سيف” جمهوره بتجربة سينمائية فريدة بفيلم (بين السماء والأرض) 1959 كتب “محفوظ” قصته ، وصاغ السيناريو له المخرج مع “السيد بدير” ، واضعا نماذج من مجتمعه فى مواجهة مع الموت خنقا داخل مصعد معطل ، يندمون فى لحظة مواجهة الموت خنقا على ما ارتكبوه من أخطاء فى الحياة ، ثم سرعان ما يرتدوا عما ندموا عليه ، فور إنقاذهم ، ليعاود كل إنسان حياته الفاسدة كما كانت . وبعد عشرة سنوات كاملة يقدم “أبو سيف” آخر تعامل له مع “محفوظ” فى فيلم (شيء من العذاب) عن قصة للكاتب “أحمد رجب” ، والتى كتبها صاحبها كمسلسل إذاعي أخرجه “محمد علوان” ، وقام ببطولته “محمد عبد الوهاب” و”نيللى” ، وعند إعدادها للسينما قام “محفوظ” بكتابة المعالجة السينمائية له ليخرجه “أبو سيف” ويلعب بطولته “يحيى شاهين” و”سعاد حسنى” مع “حسن يوسف” فى إعادة لموضوع الثالوث العاطفي الشهير دراميا .
بين الفيلمين السابقين يقدم “أبو سيف” أبرز أعماله المحفوظية ، وأدق أفلامه الواقعية النقدية وهما (بداية ونهاية) 1960 و(القاهرة 30) 1966، دون أن يتدخل “محفوظ” فى كتابتهما سينمائيا ، فقد كتب سيناريو الفيلم الأول “صلاح عز الدين” وكتب سيناريو الثانى “على الزرقاني” و “وفية خيرى” مع المخرج ، ودار الفيلمان فى أجواء البورجوازية الصغرى ، حيث الفقر يطحن الروح ، ويفسد الذمم ، ويدفع بضعفائه للسقوط فى الخطيئة ، ومن ثم يدين “أبو سيف” هذا المجتمع الذى يترك شبابه مضغة بفم الأثرياء الفاسدين ، سواء دارت أحداث الفيلم قبل ثورة يوليو أو بعدها ، فالفقر ليس مجرد آفة بل لعنة تغتال من يقع بين براثنها .
الدائرة الإحسانية
يعتقد البعض أن توجه “أبو سيف” لعالم “إحسان عبد القدوس” الروائي كان انحرافا فى مسيرته الواقعية ، وهو أمر بعيد كل البعد عن الحقيقة ، فالواقعية لا تلزم صاحبها بأن يجري وقائع عمله الفني بين الفقراء فى الأحياء الشعبية ، فالأجواء وحدها ليست معيارا للحكم على التوجه ، بقدر ما هى النظرة للواقع ، والعمل على فهم آلياته ، ولهذا قدم “أبو سيف” ثمانية أفلام معدة عن روايات إحسانية ، أو لنقل ستة أفلام طويلة وفيلمين قصيرين ضمن فيلمين طويلين يتضمن كل فيلم منهما ثلاثة أفلام قصيرة ، فقدم “أبو سيف” قصة الخادمة “فتحية” المعذبة من سيدها المشتهى لجسدها فى (البنات والصيف) 1960، والمرأة الشعبية “توحيدة” المقيمة لحفلة زار كى تستحوذ على الرجل المغرمة به فى (ثلاث نساء) 1969 .
المثير للاستغراب ظاهريا أن توجه “أبو سيف” لعالم “إحسان عبد القدوس” البورجوازى الحالم ، جاء فى ذات الوقت الذى كان يتعاون فيه مع “محفوظ” ، بل ويقدم أول فيلمين له مع عالم “عبد القدوس” بعد خمسة أشهر فقط من عرض فيلم (الفتوة) فى 29 أبريل 1957 ، وهما (الوسادة الخالية) السابع من أكتوبر و(لا أنام) الحادى والثلاثين من نفس الشهر والسنة ، مما يعنى أن الأفلام الثلاثة نتاج عام واحد وبنفس الرؤية ، ففى (الوسادة الخالية) الذى كتب له السيناريو “السيد بدير” ، ينتقد هذه الشريحة من الشباب التى لا تشغل نفسها بغير العواطف المتأججة ، وتخضع ذاتها لغيرة مدمرة ، سرعان ما تنضجها الأيام فتكتشف أن الواقع أقوى والحياة تتجاوز الحب الأول ، وفى (لا أنام) بسيناريو “السيد بدير” مع “صلاح عز الدين” ، واللذين أهتما فى صياغتهما للسيناريو بالتحليل النفسى الفرويدى ، فغرقا مع المخرج فى عالم الفتاة المراهقة “نادية” المتعلقة بأبيها تعلقا مرضيا ، والذى تسبب له ولكل من حوله دمارا ، ينتهى باحتراقها .
غلفت الرومانسية الفيلمين ، فأبعدت “أبو سيف” قليلا عن طريقه الواقعي الملتزم بهموم المجتمع ، لذا لجأ إلى “محفوظ” مرة أخرى ليعيد معه بناء عالم “عبد القدوس” داخل رؤية “أبو سيف” الاجتماعية ، فعاد بالفيلمين التاليين (الطريق المسدود) 1958 و(أنا حرة) 1959 ، لتخوم عالمه ، مقدما لهما فى لحظة تاريخية تثار داخلها قضايا الحرية وعلاقتها بالعلم والمعرفة وقضايا الوطن ، فواجهت فى الفيلم الأول الفتاة النقية “فايزة” فساد أسرتها وبحثهم عن الثراء بفقد الأخلاق القويمة ، وتصر على أن تستكمل مسيرتها التعليمية ، لتخرج إلى الحياة باحثة عن حريتها بالعمل الشريف ، فتواجه بفساد مجتمعي لا يقل عن فساد أسرتها ، مما يتطلب منها المقاومة . وتتصدى فى الفيلم الثانى الفتاة “أمينة” لقهر المجتمع للمرأة ، فتصر هى الأخرى على التعلم بالجامعة ، وتعمل لتستقل اقتصاديا ، محققة حريتها الفردية ، لتكتشف خلال الأحداث أن حرية الفرد لا قيمة لها دون حرية المجتمع ، وحرية الوطن المحتل قبيل ثورة يوليو ، فتدمج حريتها فى حرية الوطن لتعيش متحررة من تقاليد صنعها المجتمع فى زمن ما ، وعليها أن تغيرها فى زمن لاحق .
الأمر كذلك مع الفيلمين الأخيرين (لا تطفئ الشمس) 1961 و(سقطت فى بحر العسل) 1977 ، فتفقد الأسرة عائلها الأب فى الفيلم الأول فتفتت العلاقات وينهار الكيان كله ، ولكن هذه المرة فى أجواء أرستقراطية فى تناظر مع ما حدث للأسرة البورجوازية الصغيرة من تفتت ودمار حينما مات عائلها الأب فى (بداية ونهاية) . وعقب هزيمة 67 يعاود “أبو سيف” معالجة موضوع الفقر والثالوث العاطفى فى الفيلم الثانى ، حيث تهيمن امرأة متخلفة على المهندس الشاب “بكر” ، والتى تكبره سنا ، وتعمل على انتزاعه من حبيبته الملائمة له اجتماعيا وذهنيا وعمرا ، بذريعة أنها من أنقذته من الفقر وساعدته حتى تعلم ، فصارت صانعة له ، لكن الحبيبة الشابة “مايسة” تنجح فى استعادته من براثن المرأة الهلوك ، وتبدأ معه حياة جديدة .
الدائرة المفتوحة
وهى دائرة ضمت 22 فيلما تعددت مصادرها القصصية ، ما بين مادة فيلمية أجنبية (دايما فى قلبى) و(الصقر) و(مجرم فى إجازة) ، وقصصية (رسالة من امرأة مجهولة) عن قصة بذات العنوان للأديب النمساوى “ستيفان زفايج” ، ومادة قصصية كتبت كروايات ثم أعدت للسينما لكبار الكتاب “يوسف أدريس” (لا وقت للحب) ، و”أحمد رشدى صالح” (الزوجة الثانية) ، ومسرحية “لطفى الخولى” (القضية 68) و”عبد الحميد جودة السحار (فجر الإسلام) و”يوسف السباعي” (السقا مات) و”صالح مرسى” (الكذاب) و”مصطفى أمين” (سنة أولى حب) و”على أحمد باكثير” (القادسية) ، و”يوسف القعيد” (المواطن مصرى) عن قصة بعنوان (الحرب فى بر مصر) ، و”إسماعيل ولى الدين” (حمام الملاطيلي) ، أو كتبت للسينما ثم صارت عملا أدبيا (شباب امرأة) للكاتب “أمين يوسف غراب” ، أو كتبت مباشرة للسينما مثل (البداية) و(السيد كاف) مع “لينين الرملي” فى آخر أعمال “أبو سيف” .
يمكننا التوقف عند أبرز فيلمين فى هذه الدائرة وهما : (شباب امرأة) 1956 الذى قدم فيها رؤيته الثاقبة لعلاقة الفقر بالضعف الإنسانى داخل الثالوث العاطفى ، خلال مرحلته الواقعية النقدية ، وكصورة أولية لفيلمه اللاحق (وسقطت فى بحر العسل) وأن كان بصورة أنضج وأقوى ، حيث الحارة الشعبية تستقبل الفتى “إمام” فتتلقفه الثرية المدربة “شفاعات” تأويه ببيتها ، وتستهلك شبابه ، حتى تنتزعه منها حبيبته الشابة وتموت الهلوك . وفيلم (القضية 68) 1968 عن مسرحية (القضية للكاتب السياسى والأدبي “لطفى الخولى” ، راصدا فيه ملامح الفساد فى المجتمع المصرى الذى تصدع وكسرته هزيمة 67 ، ومشيرا إلى تنازع الاختصاصات على العمارة القديمة التى تسكنها شخصيات الفيلم بتعدد أعمارها ومهنها وأفكارها ، وإلى الاختلاف غير المجدي بين الإصلاحيين الذين يرون الاكتفاء بترميم العمارة وتغطية شقوقها والثوريين المنادين بضرورة التغيير الجذرى لبنيانه ، وأنحاز “أبو سيف” بقوة لمنطق الثوريين ، منهيا فيلمه بأغنية على ألسن الأطفال تطالب السيد “منجد” الإصلاحي بضرورة التغيير الجذرى بقولهم “هدها يا عم منجد وأبنيها من جديد” .
أسس “أبو سيف” بفيلمه هذا دعائم الواقعية الثورية ، التى أثرت فى الجيل الذى نما وعيه أواخر الستينيات وخلال السبعينيات ، وبدأ ينتج أفلامه فى الثمانينيات فى مصر والعالم العربي ، صائغا بالواقعية الجديدة ، برزت داخلها أفلام “خيرى بشارة” و”محمد خان” و”عاطف الطيب” و”داوود عبد السيد” و”رأفت الميهى” والأجيال التالية لهم فى مصر ، والسورى “محمد ملص” بفيلمه المتميز (أحلام المدينة) ، والتونسى “فريد بوغدير” صاحب (حلفاوين) ، حيث تتشابك فى أفلام هذه الكوكبة من المخرجين المصريين والعرب واقعية الرؤية بشاعرية الصياغة السينمائية ، ويتداخل التسجيلى بالدرامي ، ويتفاعل ما هو حقيقي بما هو خيالى ، ويعاد بناء الواقع المجتمعى الملموس فى بنية فيلمية لا تشابه الواقع حرفيا ، بقدر ما تكون هى واقعا جماليا خاصا وموحيا بالواقع المعاش .