سفر… طاس… قراءة مغايرة لـ(حمام بغدادي) / خالد ايما

ليس غريباً علينا أن نكون حداثويين في عرضنا المسرحي، ونكون أصحاب رؤية جديدة نمشط أفكارنا الوردية على خشبة تعتقت برائحة الفكر والوعي … الرائحة التي مازالت تحفر في الذاكرة الشيء الكثير ، وليس غريباً أن نبحث عن الحقيقة ونحاكي أحلامنا وأمنياتنا الضالة ، ونشم المكان بعذوبة سحرية ليكون لنا مرتعاً معرفياً خالصاً لأشيائنا وأسرارنا بل حتى طفولتنا . نهتك الأسرار بقسوة مجنونة جعلت من أجسادنا تستحم بالضوء وهسهسة اللغة ، والماء، والبخار، والموسيقى …هذا التشكيل المتجانس هو من اعتلى وعينا وجبروتنا، بل هو من تمرد على يقظتنا وحاول أن يطمئنها منذ بداية العرض بسينوغرافيا (مائية/باردة) جعلتنا نغتسل بالضوء ونتطهر على طريقة (ارتو) وجنونه( لنغتسل بالضوء…لنتطهر…لنصلي من أجلنا …، ومن اجل الأرض…) ، ولكن بفوضى مجنونة جعلتنا على أن نكون مع (سفر …طاس ) بكل أنفاسه واوجاعة وأحلامه ورقصاته المجنونة بعشق الماء للجسد ، والجسد للماء المتشظي بأكثر من معنى ابتدءاً من جغرافية المكان(الحمام) ،و(سلطة الماء) التي شحنت العرض بقوة هيمنت على جسد وعقل الممثل أولا ، وعلى ذهنية المتلقي ثانياً على الرغم من حرارة النص … النص الذي انماز برائحة الخوف والقلق والرعب والموت، وتعرية القيم …طقوس لا يمكن لمؤلف النص ومخرج العرض أن يغادرها ، لكن الموت المعلن للنص كورقة رابحة اعتمدها المخرج(حليم هاتف) في عرضه، واتخاذه من شعر الفضاء بديلاً عن اللغة (النص المسرحي)، وما قام به من توظيف منطقي لبعض الوسائل المهمة من ماء ،وإضاءة ، وموسيقى ،وتمثيل صامت ، هو من منحنا لذة العرض ، وبهذه اللذة يكون النص قد اختفى من كائنيته النصية لاسيما وان “المخرج” أحسن صنعاً عندما شخص العرض بتشكيلات بصرية منحته وعياً ، وقراءة مغايرة لـ (حمام بغدادي) ابتدءا من تغير عنوان النص إلى(سفر …طاس)، وحذف الكثير من الحوارات(الصفحات) التي دونها (ألأسدي) على بياضات الورق بما فيها من سرد ورائحة متخمة بالبول والمرحاض والكلاب والدم، وهذا في حد ذاته يشكل انقلاباً وطغياناً على النص …والانقلاب هذا لن يشكل لنا كـ(متلقين) إلا حركة واحدة هي (انتصار الإخراج المسرحي الخالص) ،الإخراج الذي شكل لنا صوراً مرئية منتجة ، وبدون هذه الصور لا يمكن أن يكون هناك عرضاً مسرحياً بهذا الوعي … الوعي الذي شكل من الماء ، والضوء ، والفوضى لغتاً ومفهوما جمالياً منح العرض سلطته وهويته …وبهذه القراءة( التقنية) يكون المخرج (حليم هاتف) قد تخلى عن التخريف المسرحي المتمثل في نص (حمام بغدادي)،النص الذي لم ولن يأتي إلا بـصانعه (جواد )مؤلفاً ومخرجاً في آن واحد ،وهذه ميزة النص ألأسدي ، ودليل ذلك واضح في ” نساء في الحرب ، وحمام بغدادي ، والمجنزرة ماكبث ، وشباك اوفيليا ،والآم ناهده ألرماحي ، والمصطبة ،.وغيرها ، فهو يكتب النص من اجل النص بملامحه وشخصياته ،وأحلامه …يكتب النص كلما اغتنمت تجاربه الإخراجية وازدادت خبراته واتسعت معارفه اذ يتابع رؤيته من الورق إلى عوالم العرض الذي دائما ما يهيمن فيها الممثل .
عوالم العرض
كيف لنا أن نشم الممثل (الجوهر) إزاء هذا الفضاء المغلون بقصيدة اسمها(السينوغرافيا)… السينوغرافيا التي كشفت بعد أن هتكت لنا أسرار المكان(الحمام) بمختلف أشيائه المرئية واللامرئية …أشياء ضجت بخراطيم الماء ، والدوش ، والبراميل ، والطوس(سفر…طاس) والمناشف ، والدكة(دكة المغتسل) دلالات أسفرت عن لغة خاصة ، وكيان خاص كان أقوى من سرديات النص المقيتة ،وما نحت في ذلك المكان من(أجساد عارية، وبخار متطاير ) كان أشبه بلوحة سريالية، أو لقطة سينمائية منحت العرض لذة الشم البصرية، ولكن الطامة الكبرى تأتي بعد أن تحترق الصورة أي عندما يلقي الممثل(يحيى داود) حواره بطريقة (اسكولائية)عجيبة غير معنية بالشخصية التي يؤديها وكأنه خارج نطاق التغطية (عندما انظر إلى وجهي في المرآة استغرب من ملامحي وسحنة وجهي الغريب ؟ دائما اصرخ …صباح الخير يا مجيد .. تـــفوووو على حظك العاثر …؟؟ نعم … يا له من حظٌ عاثر عندما تحترق الصورة بهذا الأداء الغير مطمئن للشخصية من قبل الممثل ، وبهذه الميتة يكون المخرج قد أعلن عن عطلات النص السردية التي لم تتناغم مع مضمون(العرض)بقدر ما تتلاءم مع (يحيى داود )الممثل الذي اخفق في أداء شخصية مجيد ، مما سبب لنا وللعرض شرخاً في التلقي ، ولكي اطمئن الممثل (….) لابد من أن نقول الحقيقة وهي (أن الممثل ربما لا يتوصل إلى الشخصية في المرحلة الأولى للأداء ، بل حتى في مراحل التمرين ، وإنما يتوصل إليها ربما بعد العرض العاشر)، ولا أريد هنا من الممثل(….) أن تخونه العبارة ويفهم بأنه غير قادر على تجسيد الشخصية التي كان من المفترض أن تتحرك بفاعلية أكثر حيوية وفق فلسفة النص والعرض ، لكني سأترك الحديث عن الشخصية للمخرج الذي قد يغير من أفكاره ، ويقوم بتعديلها بشكل جذري حينما توجه إليه الانتقادات البناءة ، حاله حال الممثل الذي أتمنى منه أن يجسد لنا شخصية مجيد بكل أنفاسها وأسرارها وأوجاعها ، ويغادر(يحيى داود)، ويعيش الشخصية من جديد ، ولا يتوقف عند الجملة التي كتبها المؤلف ، وحركة المخرج ، بل يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير للوصول إلى حالة التوحد بينه وبين الشخصية التي يجسدها ، وأن يكون كل ليلة ومع كل عرض شخصية أخرى عبر الحركة والتعبير وقدرات الجسد ، والصوت ، بتحدياته وتلوينه .كما يجب أن يكون تمريناً قائماً بذاته ، ويقدم اجتهادات مختبريه يطمئننا من خلالها على أن نكون معه ، وهذا ما لم يكن ويكون لأننا ندرك جيداً أن الممثل هو: الجوهر… الأساس ، وفيما يخص “الجوهر” لا أريد أن أنسى أو أتناسى الممثل الراهي(أنس راهي)… الراهي في كل شيء …في خفة حركته ، وأداءه المتلون في كل لحظة ، إذ تمكن هذا الممثل من أن يقول لنا الحقيقة من خلال الشخصية التي يؤديها بامتياز بكل أبعادها المرتسمة داخل وخارج النص عرض ، لاسيما وان الممثل الحقيقي هو الذي يندمج في دوره المسرحي ، فيعيشه بكل جوارحه الشعورية واللاشعورية ، ويؤدي دوره عن طريق المعايشة الحقيقية القائمة على الصدق الفني والأيمان بالدور الذي يؤديه، وهذا ما كنا نتمناه.
*****************
سفر…طاس
عن مسرحية”حمام بغدادي” لجواد الأسدي
اخراج : حليم هاتف
تمثيل: يحيى داود، انس راهي، حسين علي عبيد، مصطفى مهدي ،حسين ربيع
سينوغرافيا: حليم هاتف ، منعم سعيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت