الاحتجاج لغة النص في مسرح المدني" ثورة صاحب الحمار" أنموذجا / أحمد الزائر سالمي
الشخصيــات النســائية الحــاضر الغــائب
مدخل إجرائي:
لعلّه من الجدير قبل البدء الإشارة إلى مبررات التطرق إلى حضور الشخصيات النسائية في مسرحية “ثورة صاحب الحمار” لـ”عز الدين المدني” والنظر إليها على اعتبارها شخصيات محتجة عبر خطابها ذلك أن توافر تشابهات قائمة مع شخصيات أخرى لها نفس المسار الخطابي في المسرح الغربي سيجعل لما سنحاول التطرق إليه جائزا. ولتكن البداية مما حاولت الدراما الإغريقية أن تكشف عنه في الكتابات المسرحيَة للثالوث ( سوفوكل، يوريبديس وارسطوفان) الذين جعلوا عناصر الصراع أرضيَة وذات إرادة يحتجَ بعضها على بعض جراء سلطة الآخر وقوانينه.
ولإجراء تمشي واضح يقدم لنا تاريخ المسرح الإغريقي إمرأة محتجة على التسلط ألا وهي “انتيجونا” في مسرحية “سوفوكل” حيث كان باب الإحتجاج مفتوحًا انتصارًا لعدالة السماء الإلهية ضد قانون وضعيَ وأرضيَ فرضته سلطة “كريون”. متحملة بذلك عاقبة تحديها إيمانًا بعدالة مطلبها وهو دفن أخيها “بولينيس”.
ويتكرر نموذج الإحتجاج كذلك في المسرح الإسباني مع “كالديرون دي لاباركا” و”لوبي دي فيجا ” الذي يورد في مسرحيته “ثورة فلاحين” ذلك الحراك والزخم المتواصل إحتجاجا على تسلط الحاكم الأرسطوقراطي الفاسد وقتله إنتقاما لشرف إحدى نساء “خوانتي ايفيخونا” المحتجات على قانونه الوضعي والقاضي بالظفر بإمرأة ليلة زواجها (شرف الليلة الأولى) قابلين بذلك شرف التحدي وويلات إيمان الفقير بعدالة قضيته.
فقدم لنا “دي فيجا” أنموذجا مميزا لإحتجاج كان دافعا لوحدة أبناء القرية ضد الظلم والظالمين.
وكذا فعل النرويجي “هنريك ابسن” في مسرحية “بيت الدمية” التي كانت بمثابة صرخة إحتجاج فاضحة للنظام الاجتماعي الذي يعتبر المرأة والرجل كيانين منفصلين جمعت بينهما مصلحة آنيّة منهارة بسبب التأزم والضياع جاعلة المرأة تنفر من هذا الوجود العلائقي الذي تئن تحت سطوته عليها وتخرج رفضا وإحتجاجا لتفتح ثورة ضد ضغوط إجتماعيَة أثقلت كاهل المرأة وغيرت حرياتها إلى حد كبير.
هذا الطرح يتماشى كذلك مع مجموعة من أعمال الإسباني “لوركا” الداعي إلى نصرة المرأة في إحتجاجها من ذلك مسرحيات “العانس”، “الإسكافية العجيبة”، “الزفاف الدامي” و”بيت برناردا آلبا”. فالدافع هنا للإنتباه إلى حالة المرأة الإنسانية هو محاولاتها اليائسة لتحدي الأحوال التعيسة و تمزق شخصيتها و تحطم آمالها و آمانيها مما جعلها أثاثا يباع ويشترى ومتعة تتلهى بها الرجال. فكان الإحتجاج مشرع لأمل تغيير جذري بالدرجة الأولى لإزاحة مجتمع كلاسيكي السلطان فيه للرجل والخضوع للمرأة.
سؤال إشكالي:
فهل توفق “عز الدين المدني” في صياغة خطاب احتجاجي للشخصية النسائية ضمن اشتغال دراماتورجي على مادة تراثية أم أنه أعاد حضور الشخصيَة النسائيَة بنفس الواقع والآفاق؟
الشخصيات النسائية:
– الحضور الاحتجاجي:
هذا الحضور الإحتجاجي للشخصيات النسائيَة متوافر من خلال الحوار المسرحيَ الكاشف عن طبيعة العلاقة مع الشخصيات الأخرى و خاصة الرجاليَة و هنا ليس بالضرورة إقامة مناظرة كلاميَة من منطلق الجنس (ذكر/أنثى) بقدر ما هو رصد لإنطباع الأول عن الثاني و المقام على عدة مستويات:
ـ إنتماء الشخصية المحتجة.
ـ قرابتها من رموز القرار/السلطة.
ـ موقفها: فاعلة/مفعول بها.
ـ إيمانها بالقضية أصل الإحتجاج.
ـ معرفتها لعاقبة الإحتجاج.
يتجلى الحضور النسائيَ منذ الحركة الثانية في الطور الأول من النص المسرحيَ وعبر إشارة ركحيَة (النساء في الأثناء يصرخن، و يقرعن صدورهن، و يمزقن ثيابهن وشعورهن…). والحوار الدائر في الحركة الرابعة من نفس الطور وخاصة الحوار الحاصل بين “أبو يزيد” و”تاجر القيروان” عند مسائلته:
“أبو يزيد: يقول الناس كل تاجر فاجر وأنت كذلك… وكم لك من النساء؟ “.
التاجر: أربع يا سيدنا الحليم! أربع نساء هن زوجاتي ولي عشر جوار فقط!”.
أبو يزيد: إسمعوا يا رعاع إن له أربع نساء وعشر إماء! ما تقولون؟”.
الرعاع: نتزوج النساء ونغتصب الإماء”.
أبو يزيد: (يلتفت للتاجر غاضبًا) أنظر إلى المجاعة في عيونهم… نحن لا نعرف النساء إلا خطفا”.
يتضمَن هذا الحوار حضورًا بالغياب للمرأة على لسان شخصيَات رجاليَة ويحتوي موقفًا من المرأة وعقابا لها وإنطباعًا عاما حول علاقة الرجل بالمرأة.
هذه الشخصيات النسائيَة هن زوجات التاجر وهن في موقف مفعوليَة في الحقيقة (محاكمة التاجر تجعل المرأة تخسر المكانة الإجتماعيَة) لكن العقاب كاشف عن إحتجاج باطني وهو رفض الأسر الذي ينكسر بمجرد تمييَز الصنف (إمرأة متزوجة) وهو يتيح لها إمكانية العودة للهيمنة وإحتلال نفس المكانة بحكم القرب من الرعاع المعلنين عن رغبتهم في الإرتباط بهن في القيروان التي دخلوها فاتحين.
أما الإماء فهن صنف للمرأة النمطية متاع الدنيا ووضاعة الشأن فهي أمة لا تصلح في المجتمع الرجالي إلاَ لقضاء غريزة حيوانيَة آنية والإحتجاج لم يحقق لها سوى الإنعتاق من سلطة التاجر الفرد للحصول على صكَ ملكيَة جماعيَ. فهو إذن إحتجاج يؤصل لعبوديَة جديدة لأنه تذكير وترجيع لسوق النخاسة والعبيد وكأننا أمام وضعية تفاضليَة بين المرأة المتزوجة غنيمة الحرب والأمة التي لا تعرف سيدًا لها غير مالكها.
ثم يأتي الحديث عن نساء القيروان على لسان “أبى يزيد” قائلا: “والنساء؟ نساء أهالي القيروان. (يتقدمن إليه صارخات… يدور حولهن)”.
هذا الصنف من النساء المحتجات يكون الإنطباع عنهن وفقًا للمظهر الخارجي وخاصة الهيئة الجسديَة (يدور حولهن). فيعطي “أبى يزيد” الشقراء لإبنه “فضل” ليصلح بها حاله ويحرمُ منها رجلاً من عشيرته لأنه ضعيف وصحته فانية.
فتكون هذه المرأة إذن بمثابة هبة تقوم على المحسوبية والنفوذ. فهذه المرأة المحتجة من خلال مواصفات الجسد ومقياس الجمال، حيث أنها فقدت زوجها المأسور في الإغارة على مدينة القيروان لكن تبقى لتحتج وترفض فجمالها يخدم موقفًا شخصيًا ويحقق رغبة فردية فتتحول إلى زوجة إبن القائد “أبو يزيد” مركز النفوذ والحكم لكن تتحطم فكرة الإحتجاج على فقدان الزوج الحامي وتغييَره بمتسلط جديد يوفر الحماية والبقاء على قيد الحياة بعد الفتح. فالإحتجاج يتحقق بواسطة إفتتان فئة رجاليَة مكبوتة لا ترى في الشقراء غير الجمال.
إما الزنجيات فهن للعتق، لا فائدة تُرجى منهنَ، فاللون إذن يُحقق إحتجاج وإنتصار عرقيَ بغيض فيه حرية تُشرَع لإستثنائهن وحرمانهن من شرف الإنتصار بفتح القيروان.
وإما السمراء فهي هبة مشروطة من “أبى يزيد” إلى إبنه “يونس” ليتنعم بها لكن إياه أن يكثر. هذا الصنف من الشخصيات النسائيَة تستطيع تحقيق القضية أصل الإحتجاج من خلال إجبار الإبن “يونس” على الإكثار وإمتصاص رغبته وإستثمار قدراته الجنسية فتتحول إذن من رمز نعمة وسد لرغبة جنسية بالأساس إلى نقمة ذلك أنَ تغيَب الإبن “يونس” عن مناصرة أبيه ربما سيكون سببًا لتجاوز وتحدي رغبة القائد وشرطه لأن كلامه مسموع، إذ يفند أحد الرعاع هذا الرأي قائلاً: “طاعتك واجبٌ يا شيخ المسلمين المعظم”.
أما الأبن “يزيد” فينعم عليه الشيخ بامرأتين من “الصقالبة” ويفرض عليه الجمع والتمتع بهن لأنه مكثار دون إحترام رغبته في حرية رفض هبة أبيه. وهذا الصنف من الشخصيات النسائيَة يرفض ويحتج عبر الحيز الحواري المخصص له على الجمع بين الأختين لأن ذلك مُحرم. والإحتجاج العلني لم يفد تحقُق رغبة الشخصيَة وإنما تسطو وتتسلط كلمة موزع الأرزاق وفقًا لمقياس العدد دون النظر إلى وجوب الجمع بين الأختين من عدمه. هذا الإحتجاج حقَق الإرتباط بأكثر أبناء “أبو يزيد” قربًا إلى قلبه وحتَم الوقوع في المتعة المحرَمة.
تركيب أولي:
هذه الشخصيات النسائيَة تنتمي إلى فئة السبايا وقرابتها من رموز القرار تتم عبر وساطة هي موقف الشيخ “أبو يزيد” ونظرته للمرأة دون مراعاة شعورها وأحاسيسها ككائن يوازي حضور الرجل.
وهذا النوع النسائيَ يبدو في الغالب شخصيات مسيَرة لا تتمتع بحق الإختيار الحُر وأما إيمانها بالقضيَة أصل الإحتجاج فهو وليد بقائها على قيد الحياة فتكون القضية مسألة مصلحة فحسب ويجوز الحديث عن إحتجاج منفعي وآني. وأما عاقبة إحتجاجها فتبدو واضحة في الرضوخ والموافقة بالإجبار والإكراه المؤكد لتحقق رغبة ذكورية تتلهب لمعرفة الآخر لا لخصاله أو قُدراته على إضفاء التكامل بل لجسده وجماله ومدى قدرته على تحقيق المتعة وكأننا في منطق “ما ملكت أيمانكم” أو قوله تعالي في سورة البقرة الآية 62: “ونسائكم حرث لكم فآتو حرثكم أنَّى شئتم”.
ويتجدد الحضور النسائيَ في الحركة الخامسة من الطور الأول التي تتضمن شخصية نسائيَة أكثر قربًا من كل هؤلاء وهي المرأة زوجة الزعيم والتي تجد مَبررا للإحتجاج على إثر رغبة أو إشتهاء “أبو يزيد” حينما يقول: “أريد أجمل إمرأة في القيروان” فيجيب أحد الرعاع الذي يثير غيرة وحفيظة الزوجة لقوله: “أجمل إمرأة في القيروان ذات عين شهلاء، بيضاء البشرة، ذات شفة من المرجان وقد وقوام…”. فيضيف “أبى يزيد”: “مالي وما للدنيا؟ إني أمقت الدنيا؟ أريد أجمل إمرأة في القيروان وكفى. نعم… لي ألف حق فيها ألست أنا “أبا يزيد”؟”.
إن هذا الإصرار والزهد عن الدنيا وتعداد مواصفات المرأة التي يطلب الزوج ويشتهيها أثارت حفيظة الزوجة وقدَمت لها مبررًا للإحتجاج المشروع ذلك أن تواجد إمرأة بتلك الأوصاف المثالية المذكورة ألهب نار الغيرة والخوف فنراها تقول: “هذا جحُودٌ منك ما هذه الفظائع كيف تسمح لنفسك بإدخال ضرة عليَّ”.
ليصل الإحتجاج إلى كشف بواطنه وأسبابه ذلك أنَ الوفاء هو سبب وجيه يجعل من الزوجة لا تخشى، صريحة وفاعلة على مستوى تسجيل موقف إحتجاجي علنيَ وبحضور الجميع لتنكشف مقارنة صريحة وإستفسار عن جدوى إمرأة ثانية تشاركها لقب زوجة “صاحب الحمار”. وبعد أن تتيقن من فشل محاولاتها في تغيير رغبته وتعنته بعد أن جاءه الرعاع مبشرين :” قد وجدناها! قد وجدناها لك، إنها أشهى إمرأة”. فتنتقل الزوجة إلى تسجيل موقف إحتجاجي علنيَ رسميَ، ومباشر لتتهم زوجها بأنه لا يؤمن بالوفاء وهو شهواني داعر، إذ تقول الزوجة: “ما هذه الدعارة، لن أرضى بهذه الإهانة… إنه قد شاخ”.
وهذه الشخصية النسائية المحتجة والجريئة كانت عاقبتها الإهانة والرفض وتقزيم رغبتها في أن يحافظ الرجل القائد لوفائه رغم اللوم والإتهام الذي أكد وعمَق تمسُك “أبى يزيد” بموقفه وتسلطه فيقول: “أعرف أني تعيس، أعرف أن هذه المرأة تعيسة متشبثة بتلابيبي كالعلقة، إذهبي عني يا إمرأة وخليني… أريد بُنية متفتحة كالياسمين…”.
لننتقل إلى الطور الثاني وخاصة الحركة الثالثة عندما تسجل شخصيَة نسائيَة حضورها لتمثل صنف المرأة الأُم وهي المسماة “سبيكة” والتي ورد في تقديم الشخصيات أنها أمةٌ زنجيَة، يقول عنها زوجها “أبو مُخلَد كيداد”: “…إني من سلالة الرعاع لا أصل لي ولا شرف أما أُمه فهي بغيٌ”. وهذه الشخصيَة النسائيَة تسجل حضورها الإحتجاجي بحكم قرابتها من سلطة القرار فهي أُم القائد الحاكم.
“سبيكة”: “ماذا جرى لولدي؟”.
ومن خلال حوارها تثبت أنها إمرأة قادرة على الإحتجاج من منطلق موقعها فهي فاعلة في حياة إبنها الحاكم النافذ والذي يعشقها لأنها حنون، فهي رغم علمها بكره الإبن لأبيه تحتج وتطالب بضرورة إحترام الوالدين.
إذ تقول:
“سبيكة: إنه والدك يا ولدي… لا تقل هذا! حرام؟”.
فيتمسك “أبو يزيد” بموقفه الرافض لأبيه الذي كان يضرب زوجته وأُم إبنه فتتعارض معه فتعطي الأحقية لزوجها وتجعل خوف إبنها عليها غير ذي قيمة فتقول:
“لكن هذا حقه علي! فهو مولاي إشتراني من بلاد السودان! وأنا أُحب الرجل العاتي”.
إذن يتجلى إيمان هذه الشخصيَة النسائيَة بالقضيَة سبب الإحتجاج من خلال عدم تماشي رغبة الإبن مع رغبتها في الإختيار بكل حرية فيكون الإحتجاج المباشر دون مركبات. فتنمحي رغبة هذا المتسلط الصغير بعد أن تقول الأُم:
“سبيكة: “أُسكت يا وقح… أسكت”.
وهذه اللهجة الآمرة والمكرهة تجعل “أبى يزيد” ينهار كاشفًا عن أسباب إختلافه مع والده والتي تعود إلى أسباب نفسيَة دفينة هي غيرة الإبن من أبيه لإنفراده بحب إمرأة هي ذلك المشترك بين الأصل والفرع فأصبح الإبن من ثمة حاقدًا على أبيه يبغضه. فالأُم المحتجة تصرح بموقف إحتجاجيَ إستنكاريَ تستغربُ بموجبه أن يكون إبنها هذا ذو طباع ملك فتقول:
“سبيكة: ملكًا؟”.
تركيب ثان:
إستطاع “عز الدين المدني” أن يسجل حضورًا للشخصيات النسائيَة المحتجة في نصه “ثورة صاحب الحمار” ولو بطريقة أقل على المستوى الكمي، لكنه حاول أن يوجد ذلك التوازن بين الرجل والمرأة على مستوى الحضور. وأما صورة المرأة التي أوردها فقد كانت وفية لمصدرها الأصليَ “المؤنس في أخبار أفريقية وتونس” لصاحبه العلامة الملقب بـ”إبن أبى دينار” حيث حافظ على نظرة الرجل للمرأة والعلاقة السببية الرابطة بينهما والتي كانت “ثورة صاحب الحمار” التاريخية سببا في تجذيرها وتعميقها.
وهو ما نتج عنه هذا الحضور بصفة الغياب للمرأة المحتجة –علنا أو في الخفاء- على مصيرها وتشظي شخصيتها بين سطوة الرجل وحاجته إليها لإستكمال إستقلاليته عنها وهو ما يولَد سؤال جوهريًا هو الآتي:
فهل هي فعلاً صورة للمرأة في السياق الحضاريَ والإجتماعيَ لتونس الثمانينات؟
إن الصورة التي أوردها “المدني” في نصه المسرحيَ “ثورة صاحب الحمار” كانت وفية لواقع المرأة آنذاك وقد ورد على لسان “سبيكة” أُم “أبى يزيد” على إعتبارها حاضنة لذلك الجيل من الرجال والنساء والتي تُقر صراحة بحقيقة الروابط بين المرأة والرجل، في الحيز الحواريَ الذي أعطاه لها كاتب النص إذ تجيب إبنها:
“سبيكة: لكن هذا حقه علي! فهو مولاي إشتراني من بلاد السودان! وأنا أُحب الرجل العاتي”.
وأما عن موقفه المباشر خارج سياق النص التاريخيَ فقد ورد على لسان بطله “أبى يزيد” شيخ المسلمين في حواره مع أُمه التي يخاطبها قائلا:
“أبو يزيد: ألم يكن في مستطاعه أن يعتقك من الرق، الرجل والمرأة سيان، إني حاقد عليه”.
ويضيف قائلاً:
“يا أخي لا تبالغ، زمان والدي غير زماننا. فكيف له أن يدرك المساواة بين الرجل والمرأة؟ في حين أن ظروف المجتمع لم تمكنه من ذلك”.
فيحاول “عز الدين المدني” أن يؤكد مطلب الحرية للمرأة رافضا صورتها ووضعيتها الراهنة فيتخفى وراء بطله “صاحب الحمار” ليطلق صيحة نداء للحرية فيتراء لنا صوت هذا البطل ذو النفس الكوني الإنساني هاتفا:
“أبو يزيد: تبا لعلم الإجتماع الذي يبرر المواقف والأفكار والأحداث! تبا للحتمية… تبا للتاريخ… أين الحرية يا ناس؟”.
بمثابة خاتمة
يبدو أن حضور المرأة في مسرحيَة “ثورة صاحب الحمار” لـ”عز الدين المدني” مهم لإستكمال نقل الأحداث وتصوير وقائع تاريخية تم الإشتغال عليها ضمن دراماتورجيا إحتجاجية كان للمرأة موقع محوري ضمنها أثبتت من خلاله حضورها وخطابها الإحتجاجي من منطلق قضية حرية المرأة وتردي واقعها والبيئة التي تحيا داخلها فكان لابد من إتخاذ موقف. ومحاكمة جملة الآراء التي تُروج حول طبيعة علاقة المرأة بالرجل ودحض الرؤية الرجعيَة الداعية لبقائها تحت وطأة الضغط الإجتماعي وهيمنة المجتمع الرجالي.
كما عمل “عز الدين المدني” على تثبيت الموقع التاريخيَ الذي إحتلته المرأة في المجتمع العربي الإسلامي كصوت مكتوم وتجسيد ذلك عبر تغييَب المنطوق الحواريَ النسائي أحيانا وحتي إن سمح لها بالكلام فذلك بأمر من الرجل المهيمن وهذا تنصيص ضمنيَ ودلالة أراد منها المؤلف إثبات إسقاطات تاريخيَة وشموليَة لواقع المرأة العربيَة ومحاولة لإيجاد تشابهات وإرتسامات في العقلية لا تزال راسخة في تونس في فترة ما بعد الإستقلال وبناء الدولة الحديثة.
وأثبت “المدني” أيضًا أن واقع المرأة الذي أعاد صياغته لمسائلته وإحيائه فريد من نوعه أوجده الحراك الإجتماعي والزخم الحقوقي وتنامي الأصوات المنادية بحرية المرأة وضرورة مساواتها مع الرجل في الحقوق والواجبات وأن فكرة توافر تشابهات للشخصيات النسائية عند “المدني” مع نظيراتها المحتجات في المسرح الغربي هو طرحٌ يتنزل خارج إطار المقارنة فإذا كانت “أنتجونا” رفضت وإحتجت لأنها عانت وآمنت بقضيتها لأحلال العدالة فإن إمرأة “المدني” إحتجت وعانت لأن منطق العدالة يفترض أن تساوى الرجل في حقوقه وواجباته ورغباته وتقف ندا له لا أن تكون في مراتب دنيا تسير ضد مجرى الواقع وتيار حركة التاريخ.