قراءة نقدية لعرض "بقعة زيت" / صادق مرزوق (العراق)
نبوءة لواقعة كونية بداية دلالية موفقة للمخرج عبد الرحمن التميمي وهو يجعل من بقعة الزيت منزلقا وقاعدة رخوة قد تؤدي ببطل المسرحية لان يتهاوى ويتهالك في أي لحظة, بقعة الزيت تحاصر البحر وتداهمه بدلا من أن يحاصرها البحر , وما الذي يتبقى بعد ذلك الحصار ..لا البحر ولا بقعة الزيت تمثل المكان الآمن ,كل شيء يوحي بالخطر, كل شيء يؤدي إلى الموت ,والعطب والإحباط, وهذا الحال يؤطر معظم نصوص المونودراما وهي بمثابة الفخ لصانع العرض , لأنها قيد للمخيلة الإبداعية والخلاقة بصريا ,وذلك بسبب الهيمنة التي تستهوي كاتب النص ليبث كل معاناته في شخصية واحدة تجسد مراحل زمنية متعددة وتحولات مكانية مختلفة, تمثل بؤس الحاضر وقيود الماضي و أوهام المستقبل .
لم نجد مونودراما إلا ما ندر تخرج من هذه السمات, يحاول المخرج عبد الرحمن التميمي أن يتملص من سطوة كل تلك المرجعيات لنصوص المونودراما لينقض مبكرا ومنذ البروفات المسرحية, لأن يطيح بنص الكاتب ويؤسس لنص العرض بما يتوافق مع معطيات جمالية وإحالات دلالية ظرفية تؤسس لـ (بقعة الزيت/بقعة الدم) , وبالرغم من محاولة المخرج التملص من سطوة البؤس والإحباط والمعاناة التي تتميز بها الشخصية المونودرامية إلا أنه يقع فريسة في بعض مشاهد العرض للتشكي من موت معلن وحياة معطوبة من خلال شخصية البطل التي أراد لها صانع العرض أن تكون ضبابية لأجل الاشتغال عليها ضمن مسارات العرض باعتبار أن تلك الشخصية المبهمة هي أيقونة تحولية تحمل شيفراتها وأسرارها لبثها تدريجيا مع تنامي الحدث ,وما يرافقه من تحولات نفسية لشخصية سيزيفية تحمل أثقالها كي تتخلص منها ثم تعود لتحملها مرارا , أثقالا لا تنتهي , واكبر تلك الأثقال وأقساها هو ( الآخر) الذي يداهم ( الأنا) , مثلما يداهم الموت حياة رثّة …( الأنا / الآخر) ربما هو الصراع أزلي أبدي منذ قابيل وهابيل وحتى آخر إنسان . الآخر هو الخوف القادم الذي يتسع أو يتمدد ليحيل الحياة إلى نبوءة لموت قادم , وأخطر هذه الصراعات وأقساها عندما يتلبسنا الآخر , لتكون الحياة حينها عبثية لا تؤدي إلا إلى المزيد من القلق والترقب, يشعر الإنسان حينها بفعل الاغتراب حتى عن ذاته ,وتصير الذات هي الآخر .. الآخر هو الذات , استعمار ومقاومة , الذكورة تعلن احتلالها لأنوثة لا تقوى على المقاومة , بقعة الزيت الصغيرة تتسع تتمدد لتمارس سطوتها على البحر , كل هذه الأفكار التي يشي بها النص المعد عن المؤلَف الأصلي للفنان محمود أبو العباس . يحاول معد ومخرج العرض جاهدا أن يقاوم سطوة الكلمة وقسوتها مثلما يقاوم وجه البحر بقعة الزيت , الكلمة منزلق ربما تطيح بصانع العرض وخصوصا في عروض المونودراما , حيث يهيمن عليها الملفوظ ويقع صانع العرض في عروض المونودراما صريعا بين سطوة الكلمة ومحاولات الممثل الأوحد الذي يحاول أن يستدعي كل قدراته الأدائية ليكون أو ربما لا يكون, هكذا هو فن المونودراما يعتمد الإزاحة المخرج يحاول أن يزيح هيمنة النص , , كذلك هو الممثل غالبا ما كنا نشاهد في ثمانينات وتسعينيات القرن المنصرم عندما يهيمن عليه نص المؤلف ليختفي ذلك الممثل المسكين خلف الصياغات اللفظية للنص المكتوب التي تخاطب عاطفة المتلقي وتغازل منظومته السمعية , وطالما كنا نسمع كلمات وهمهمات الإطراء من الجمهور آنذاك لصياغة اللفظ وعمق المعنى , عندما كانت الكلمة هي المركز والصورة هي الهامش.
في عرض “بقعة زيت” تحرر المخرج والممثل من نمطية استدراج التلقي , باتجاه الهدنة التي عقدت بين أطراف العملية الإبداعية (معد/مخرج/ممثل) ليقولوا بأنهم الآن هنا , محاولات حثيثة تكللت بالنجاح في بعض المشاهد من مخرج العرض لصناعة مشهدية صورية تتناغم مع واقع المسرح الذي أخذ يتجه نحو هيمنة الصورة وانحسار الكلمة التي بدأت تشيخ في أغلب العروض العالمية والعراقية , الصورة لدى دكتور عبد الرحمن التميمي لم تخترق مجال التوقع , وكان العرض متصالحا مع المتلقي ولم يكن صادما ومستفزا بما يتناسب مع عمق الصراع بين ( الأنا/الآخر) .. الممثل محمد هاشم وبإمكانياته الأدائية كان مؤثرا وصاحب حضور مهم, بما يتلاءم مع المزاج المشترك بينه وبين المتلقي , النص المعد هو الآخر له حضور يتناغم مع مفردات سينوغرافيا الفنان سهيل البياتي .
بقعة زيت عبارة عن منزلق تهاوت عليه بقايا كيانات مبعثرة ومبهمة , وهي أيضا تشبه الهيئة التي ظهر بها محمد هاشم بطل المسرحية وهو يقتحم المكان بشخصية لا تشير إلى أي دلالة مكانية أو زمانية لنتلمس من مجريات العرض. إن المخرج أراد لنبوءة تمدد (بقعة الزيت /بقعة الدم) أن تكون كونية, هنا يهدف المخرج إلى كوكبة المؤسسة الحربية , التي تحاول تكوير ثقافة الموت وتركيزها على أنها الحقيقة الباقية والمتمددة كتمدد بقعة الزيت في البحر وكأننا أمام كلمات محمود درويش (أحاصر دائما شبحا يحاصرني)