الهرطقة مع تجارب المسرح العالمي (الجزء الثاني)/ قصي شفيق
(دراسة موضوعية في الأبعاد القيمية)
تمهيد:
مع ظهور الحركات الصناعية دفعت الكثير من المجربين المهرطقين للبحث عن بدع جديدة للعرض المسرحي ومن ابرز ماقام بهذا الدور هي الفرقة المحترفة المهرطقة الجوالة (الكوميديا ديللارتي المرتجلة)* إذ بدأت فرق الممثلين الجوالين بالانتشار في الريف الإيطالي، وراحوا يقدمون عروضهم بعيداً عن عيون الكنيسة، وقد استخدموا العربات بعد أن عملوا على تحويلها إلى منصات للعرض. إفادة الهرطقة فرقة ( الكوميديا ديللارتي المرتجلة). وقدمت إبداع جديد ذو ضرورة وهدف, ولم تكن فرق هواة بل كانت فرق محترفين مهرطقين مكافحين يسعون للربح يطوفون في كل مكان بأعمالهم المرتجلة, ولجعل مهنة الممثل متساوية مع مهنة الشاعر والرسام ولإضفاء سمعة أفضل على طبقة الممثل المحترف راحت الفرقة في تشكيل العمل ألطاقمي والتمرين الجماعي للوصول إلى أهداف وإجراءات ونتائج توصلهم للقناعة الحقيقة للتغيير والإتيان بالبدع المخالفة لنظام المسرح فقد صنعوه المادة المخالفة والمتغيرة لقراءة العرض المسرحي بوسائل جمالية وتقنية عما سبق باختصار كان لابد إن يكونوا منظمين ودقيقين. وإن يرتجلوا ما يكتبون بإعداد مسبق مستندين على وفق الفضاء الجديد والحراك المتجدد بفعل هرطقاتهم المسرحية والبحث والتقصي المتكرر لبدع مسرحية ذات طابع جمالي يطور الحراك المسرحي.
ومع بداية عصر النهضة حتى باتت معروفة لدى المتلقي لكثرة تكرار عروضهم ، كما أن شخصياتها لم تكن تتغير على الرغم من تغيير الممثلين أو تأسيس فرق جديدة ، من قبل الممثلين الذين يفضلون تأليف قصصهم وحواراتهم وغيرها من مستلزمات اشتغالهم للشخصيات.
إلا أن ذلك لم يكن يتم بشكل ارتجالي مطلق، بل على العكس فإن الممثلين كانوا يواصلون التمارين المسرحية، من خلال السيناريو الحركي، الذي يقع على عاتق مدير الفرقة وأحد ممثليها مسؤولية تنظيمه مما أفاده نظام الورشة في التمارين لتجسيد وتنظيم العرض بل كانوا يرسمون الحركة وإيضاح الفكرة العامة لكل مشهد ذلك إنه يحتوي على علامات متفق عليها مسبقاً وكان الارتجال يثبت داخل البروفة. ومن جهة أخرى فإن التمثيل في عروض (الكوميديا ديللارتي) السمة الغالبة في هذه الهرطات هو عنصر الارتجال المنظم المتفق مسبقاً داخل الورشة المسرحية التي أصلت هرطقاتهم المسرحية.
من خلال المراحل التاريخ ونماذج الهرطقة مع تجارب الفن المسرحي هنا وهناك لابد الإشارة إلى مسرح الشرق المتمثل في (الهند اليابان الصين) وفي هذه البلدان ظهرت تجارب للمهرطقين في صناعة نوع مخالف عن السائد والمألوف لتناول المسرح فقد أسست لها نظام مسرحي جديد مستندا للطقس والاحتفال والبدع الهرطوقية التي حولت مسار المسرح العالمي وراح الكثير من المجربين المعاصرين وغيرهم يأخذون مادتهم المسرحية من التقاليد المسرح الشرقي.
يعتبر المسرح الشرقي مسرحاً أنيقاً ومن هذه الأناقة انتقلت العروض المسرحية الشرقية إلى الغرب وأثرت في تراثهم المسرحي”. تميزت المسارح الشرقية, سواء كانت هندية, صينية, يابانية, أو اندونيسية بتطرفها ألزخرفي الأنيق, ويمثل الفعل المسرحي فيها من غير ديكور وعلى مسرح عار. وتكاد تكون جميع أنواع التعبير التمثيلي مقننة وخاضعة لنظام منطقي”(1) .إن سر أشاع الحضارة الهندية هو كونها لا تخضع لتقليد ديني أو شعري فحسب إنما لكونها تتعامل برقة وحساسية كبيرتين مع أسلوب الرقص, وخير مثال على ذلك هو الرقص في جزرتي (جافا , وبالي) *. وان المتفرج في مسرح خيال الظل في جافا على سبيل المثال , يتأمل في ذات الوقت التماثيل الصغيرة وظلالها المنعكسة على السطح والذين يقومون بتحريكها. إن تقديم الفعل المسرح مضاعف بمعنى أخر انه غير حقيقي خيالي أكثر فأكثر. فالمسرح في معناه الأساسي بالنسبة لسكان جزيرة جافا بمثابة أسلوب فني يتميز بالزخارف والحركية والحرية في الشكل ويخالف كل ما هو إتباعي إنه مكان الوهم والخيال (2). فالهرطقة في المسرح الهندي جاءت من خلال الشكل الفني للعرض المسرحي أي ما يسمى (سينوغرافيا)* جمالية بصرية فالجانب البصري في المسرح الهندي طغى في كل العروض المسرحية ويرجع السبب أيمانهم في إن العرض يرى أكثر مما يسمع ولعل هذا أصبح أساس راسخ للمخرجين المهرطقين عندما جربوه في تقنيات العرض الهندي كمادة مخالفة وجديدة من حيث الاشتغال. وانطلقوا من مفرداتها للبحث عن وسائل جديدة للتجربة المسرحية”. إلى جانب مسرح فن الممثل يوجد أيضا وخاصة في القرى والأرياف مسرح الظل ومسرح العرائس التي تقدم نفس القصص إن الميزة الخاصة للهند هي إن سماتها الثقافية والحضارية والاجتماعية لا تزال موجودة وشاخصة” (3) فلهرطقة في مسرح خيال الظل ومسرح العرائس وغيره هو أصول المهرطق الذي حالوا البحث عن قيم ايجابية للتجربة المسرحية الرصينة وفي تصوري أن القيمة العليا في المسرح الشرقي جاءت من خلال الممثل المهرطق لأنه القلب النابض المتجدد للعرض المسرحي الشرقي ويرجع السبب إلى تقنيات الأداء هذا الممثل. “إن التمثيل في الهند مع بداية القرون الوسطى كان أكثر شبهاً بالرقص وأكثر شكلية وتقليدية وأكثر (أسلبه) * وأقل انفعالا من التمثيل الغربي لقد كان التمثيل الهندي فناً مصمماً بشكل فلسفي مدروساً وإنتاجا متمهلاً بعل الإرادة الواعي لم يترك شيء للصدفة في العرض” (4).
يرى الباحث إن ملامح الهرطقة المسرحية في المسرح الهندي تمثل بأتي: ليس فيها وحدة زمان ومكان , طغيان الشكل على المضمون , أسلبه العرض المسرحي , المسرح عاري أي فضاء مفتوح , الأزياء زاهية الألوان , كثيراً ما ترسم العوامل الخارقة للطبيعة , لا تخلو العروض المسرحية من القصص الغرامية والمضحكة في نفس الوقت , يتعاقب سياق العرض من الشعر والنثر الغنائي , مرجعيات ملحمية وأسطورية , رموز تراثية وواقعية.
أما المسرح الياباني: إن المسرح الياباني مثل كل المسارح الأسيوية التقليدية, مستوحى كلياً من المقدس سواء في الرقص, وفي مسرح العرائس ومسرح الممثل وخاصة مسرح النو الذي يعتبر فيه المقدس فضاء العرض نفسه” (5) “إن فضاء العرض في مسرح النو مقدس. إنه يرمز إلى الكون وأن خشبة المسرح فيه ليست سوى حالة ملتحقة في هذا المجال المحدد والمقدس”. (6)
وهنا لابد الإشارة أن المسرح الياباني كان له قصدية وترميز عالي الجمال من خلال الصورة البصرية ولعل المقدس في العرض اليابانية كان السمة الغالبة تجسيد عروضهم الهرطوقية. أفاد أساس المسرح الراسخ للدراما اليابانية أتى من وحي الرقص سمة مشتركة في المسرح الشرقي.” كان المسرح قد دخل حيز الوجود بالرقص وتطورت دراما (نو no او نو- جاكو no-gako)*, وتعني مهارة أو انجازاً من طقوس شنتو (SHINTO) الدينية ومن احتفالات البلاط ومن مختلف لعب التنكر والرقصات الشعبية وقد كان غرض نو هو تسلية العامة في ساحات المعبد” (7) فمعظم مسرحيات (النو) مبنية على رقص – الإله أو على أسطورة محلية ما أو على أطياف روحية أو فيما بعد على مغامرات لحرب والبطولة التاريخية وعادة ما تكون الشخصيات أشباح من ذكريات قديمة وسلبية من حيث أنها موجهة من مؤثرات خارجية لا تستطيع هي إن تتحكم فيها. (8) امتياز مسرح (نو) في وصف الإحداث بل التعبير عن العاطفة والمشاعر.
هناك نوع أخر خرج من المهرطقين اليابانيين هو.(الكابوكي) kabuki نوع من المسرح الياباني هو فرع شعبي من المسرح لمسمى (نو) no ويستمد منه الكثير من مواضيعه وتقاليده في شكل معدل تستند مسرحيات (الكابوكي) إلى الأساطير والخرافات الشعبية أو أحيانا إلى الإحداث التاريخية وتمثل على المسرح واسع (9). هنا أقول أن المسرح الياباني تمثل بالهرطقة من خلال مرجعيات الثقافة الدينية التي اقترنت بمسرح (النو),وعناصر السخرية ومميزاتها التي كانت في عروض (الكابوكي) , فالرقص التعبيري كان جزء حيوي مما شكل الدراما اليابانية.
الهرطقة في المسرح الحديث:
تبلورت الهرطقة في المسرح الحديث مما دفعت أصحاب الواقعية لتغير حال المسرح وتجديده. وفي نهاية القرن الثامن عشر حصل التخصص عندما ظهور الواقعية والرومانتيكية وعندما ظهر الاهتمام بالتجسيد وبالدقة التاريخية. ولغرض الاقتراب من (الإيهام)* بالواقع وصولاً إلى المنظر الصندوقي الذي ظهر في نهاية القرن التاسع عشر لكي يمثل مكاناً حقيقياً بأبعدها الثلاثة. (10) تحققت فكرة تأليف النص والعرض المسرحي من مبدأ الإيهام بالواقع كانت الخطوة الأولى للمهرطقين في المسرح الحديث. تحويل إشكال وأساليب العرض المسرحي إلى ما هو ملموس ومحسوس وما يقنع الجمهور وراح المسرحيون يعتمدون على مبدأ الإيهام أي إيهام المتفرج بأن ما يحدث على خشبة المسرح ليس إلا صوراً تحاكي لما يحدث في الحياة وهكذا انتقل الفن المسرحي من التقليد إلى التجريب” (11) ويرى الباحث أن القيمة الجمالية الرصينة للهرطقة في تجربة المسرح الحديث جاءت من خلال عباقرة مهرطقين فإن أعظم العباقرة هو أكثرهم “دينا للآخرين ليس المهم ما يؤخذ من التقاليد والمصادر الأخرى بل المهم هو التطبيقات التي تستثمر فيها تلك الاستعارة من الآخرين لقد ازداد المسرح غنى لا حدود له في هذا القرن من خلال اتصاله المتزايد ببقية الثقافات وبقية التقاليد”.(12)
فالمسرح يجب إن يكون مكثف مقتصر مفهوم مجدد لذلك كانت مقوماته من خلال ما دعا إليه المخرج العراقي (سامي عبد الحميد) ” فالمسرح يختزل أموراً كثيرة مما يمر في الحياة يختزل الإحداث ويختزل الشخوص ويختزل البيئات ويختزل الأزمنة ويختزل المكان والمسرح لا ينقل لواقع كما هو بل ينقل صورا عن الواقع”(13). وهذا الدور متمثل بدور المخرج المهرطق.
فهناك نوع واحد من الدراما ولكن هناك عدة اتجاهات من حيث المعالجة ، ولا بد إن يكون هناك اتجاه إخراجي مناسب لكل مذهب درامي ، كما يكون هذا الاتجاه ، نابعا من فكر المخرج المهرطق. أما الأثر في تغير بنية العرض من قبل مخرجين ساهموا في تطوير العرض المسرحي وبما إن الإخراج المسرحي فعالية إبداعية مدركة وذو صلة وثيقة بطاقة الخيال، وضوح الصورة التركيبية للعرض المسرحي إلا إن المشكلة تتعلق بإتباع الكيفية الأسلوبية التي على وفقها يصارع إلى تقديم العرض المسرحي الذي تتوفر فيه كل مستلزمات القيم الفنية والجمالية. إن العرض المسرحي هو عمليات اختزالية وان معرفة عنصر أو مفردة درامية من المفردات تمنحنا سيطرة كاملة على العرض المسرحي .ومن مهام المسرح إن يعمل على كشف الواقع ومن هذا المنطق عليه إن يستند إلى نظرية جمالية وفنية تشكل خلفية لعمل المبدع وتعتمد على خزين معرفي تقليدي وتجارب طبيعية ومختبرات مسرحية (14).
لذلك إن على المهرطق ان يشتغل من حيث التشكيل البصري والسمعي والحركي للعرض المسرحي وكل عناصر التكوين والإنشاء هي التي تحققها بعلاقة جدلية استكشافية فذة في فضاءات العرض المختلفة ولعل أبرزها تخذ سمة التضاد. يلجأ المخرج لخلق تأثير درامي إلى وسائل متنوعة مثل التضاد الغير متوقع في نظام العرض. ولعل من أهم التكوينات للعرض البصري للمهرطق المخرج تتمثل.”خمسة أهداف هي الوحدة والتوازن والتأكيد والتنوع والإيقاع”(15) فتركيب العرض المسرحي من ثلاثة أجزاء مترابطة هي: المسرح السمعي والمسرح البصري والمسرح الحركي. ويحتاج المسرح السمعي للكلمة ومكوناتها وكذلك الموسيقى والمؤثرات الصوتية والصمت. ويحتاج المسرح البصري إلى الضوء والى الفضاء,أما المسرح الحركي فيعتمد النظر على الإحساس وهو فن زمكاني ويشمل حركة الممثل (16).ومن الملاحظ في تاريخ الفنون الحديثة أن مصطلحات استعملها المسرح كالفضاء الدرامي أو المسرح البصري مثلا قد أتت من الفنون التشكيلية (المستقبلية، البنائية، التكعيبية، التعبيرية، الدادائية، السريالية، الأسلوبية , الرمزية) ومدارسها المختلفة واتجاهاتها, فالمهرطقة هنا هي الخرق والإتيان بشيء مبتكر من خلال النظريات والحركات التشكيلية في المسرح . ومن تلك المنجزات التي أثرت في تطور العرض التشكيلي كانت منجزات المدرسة التكعيبية التي ظهرت سنة 1908. فقد أغنت التكعيبية في المسرح وتمثل ذلك في اهتمام رساميها بالهندسة في رسوماتهم. وأطرت مبادئها اتجاهات المخرجين الجدليين أمثال برتولد بريخت وكان اكتشاف التكعيبيين للبعد الرابع بوصلة في توجه المسرحيين إلى البحث عن هذا البعد في فضاءات مسرحية تختلف عن القاعة الإيطالية وتقترح ترتيبا جديدا لحيز الممثلين وحيز الجمهور واستنادا إلى هذا التطوير سعى المسرحيون للبحث عن صيغ جديدة تواكب التطور الذي جاءت به التكنولوجيا. ومن الملاحظ أن أغلب الذين اشتغلوا على الهرطقة هم المخرجون الذين كانوا تشكيليين جيدين. وهذا ما يشير إليه البحث تزامن مع ظهور الإخراج كوظيفة مستقلة، جاء من خلال الحركة التشكيلية التي قامت على يد الكبار من الفنانين والتي أعطت للمخرج التشكيلي إن يغزو المسرح بلوحات بصرية جمالية والهدف منها تعزيز الجانب البصري في المسرح ومع رغبة المخرجين في تطوير البحث المسرحي بمعزل عن التقاليد والأعراف الجامدة يرى الباحث في مفهوم المخرج كوظيفة جاء من.”مفهوم المسرح الجديد بعد إن ادعى المخرج لنفسه مهمة مؤلف المشهد Scenic Writer” (17). ولعل في المخرج الطليعي هو الذي أرسا مفاهيم التجربة المسرحية الرصينة “فالطليعية باعتبارها تمثل الحد التجريبي للحداثة قد كرست نفسها لمهمة مزدوجة التقويض والاكتشاف” (18) ومن المؤكد لا قيام العرض المسرحي إلا بالمخرج. المقوض والمكتشف للعملية الإبداعية فقد أفاد الفن التشكيلي طابع جديد وبدع من خلال اللون وتحولاتها الدلالية, فقد تحقق من خلال “وسائل التكوين “بالعناصر أو الوسائل الآتية: الخط , السطح , الكتلة , اللون , الملمس , الفراغ”(19).
فالمخرج هو تلك العدسة اللامعة في بؤرة واحدة لكل مكونات الفن المسرحي، وهو كعدسة جامعة للأفضل دائما، ثم عاكسة له، فانه يصبح كوعاء يضم ويعكس قيم جمالية ومعرفية للمتلقي, ولعل في”الإخراج المسرحي تطور من مجرد نسق متكامل من المعلومات إلى نسق يفيض بالإبداع والخلق. وهذا الانتقال يرتبط ارتباط وثيقا بتغيرات في المجتمع وفي الفلسفة والفنون الأخرى مع الحقبة الأخيرة من القرن التاسع عشر ومع التغييرات ظهرت أسماء جديدة في مضمار الحضارة أسماء في مجال العلم والمعرفة من خلال النظريات المهرطقة التي غزت الفن امثال داروين وفرويد ونيتشة .وتجمع الدراسات المتخصصة أن ثمة مسببات كانت وراء انبلاج المخرج المهرطق. إن أواخر القرن التاسع عشر كانت هي الفترة التي شهدت أعظم التغيرات التي عرفها الإنسان في وسائط الإنتاج الحديثة , فالتصوير الفوتوغرافي ، والسينما ، والراديو، والتلفزيون، والنسخ ، والتسجيل ، كلها كانت تتقدم تقدما حثيثا خلال تلك الفترة التي عرفت بأنها حديثة أساسيا أثر بشكل كبير في نظرة الجمهور والمبدعين لتجربة المسرح السابقة وفي تطورها اللاحق .فترة التنوير المسرحي السينوغرافيا الحديثة. ومن جهود السويسري أدولف آبيا (1862-1928) والإنجليزي إدوارد كوردون كريغ (1872-1966) حيث أسهما في تقديم نظريتين ثوريتين لخلق مبادئ جديدة لتنظيم الفضاء المسرحي في أبعاده الثلاثة.
مما اثمرت مستوى الإخراج المسرحي تجسد بأسلوبي التعاطي مع العرض فهناك أسلوب تركيبي وأسلوب تصويري الأسلوب التركيبي يعتمد على تركيب الإشكال الفنية مثل الرقص وتشكيل الضوئي والحركة والموسيقى في سياق واحد مترابط. إما التصويري ينحو إلى اعتبار المخرج كاتبا تصويريا يشكل من الصورة المرئية نصا له دلالات ورموز وهي تشكل الصورة
المسرحية فهو يرسم بصوره فضاء العرض من خلال العناصر المرئية التي تعطي اللغة المشهدية بين الحين والأخر. إن المخرج ” بالمعنى العميق لهذه الكلمة، يبدأ تماما عندما نشأ الحان “إن قدرة المخرج على خلق الانسجام الهرموني للعرض المسرحي هي من أهم الأمور في فن الإخراج” (20). ولعل المخرج هو الرسام القادر على رسم فضاء العرض بجماليات الإبداع وهذا ما جاء في هذا الرأي. “هو إن الموسيقى والديكور والممثل والميز انسين ما هي إلا مجرد ألوان يرسم بها المخرج لوحته بصورة متكافئة”.(21)
الهرطقة في تجارب المسرح الالماني:
ماكس راينهاردت
يعد ماكس من المخرجين المجربين المهرطقين الألمان الذين رفضوا الواقعية المباشرة وقد راح ماكس إلى الواقعية الجديدة في بداية الأمر أو الميكانيكية الجديدة وصاغ لنفسه أساليب متعدد لتقديم عروض ذات طابع انتقائي , وكان من أهم سماته الإخراجية هي التوليف بين المناهج الإخراجية. يرى الباحث في رأي (مارتن اسلن).”ماكس راينهارت قديس الحرفة المسرحية الأعلى يصف أسلوب راينهارت وعمله المفترضة لم تكن سوى تعبير عن العالمية عن اتساع المدى الذي تحرك فيه.كان مسحوراً بفن التمثيل, افتتن بكل مظهر من مظاهر غريزة التمثيل,المهنة , الحرفة أو النشاط الروحي النبيل أراد لان يحمل المسرح إلى كل زاوية من زوايا الحياة الإنسانية”(22). إفادة الرؤية الإخراجية التي كان يستخدمها ماكس في الإدهاش كانت تعتمد على بيئة كل مسرحية فهو يعطي لها طرازها الخاص ما يتناسب مع فضاءها المسرحية. جرب ماكس أن يجمع بين المسرح الإغريقي القديم، وبين المسرح الحديث بتجاوزه إطار المنصة، بعد أن لمس إمكانات المسرح المدرج. واشتهر (راينهاردت) باستخدامه للمنصة الدائرية المتحركة التي أمكنته من تقديم مشهدين أو ثلاث أو أربعة مشاهد، دون عناء في تبديل الديكور، فقد استعمل في المسرح الدوار.
فقد هرطقة من خلال مفهوم (الربرتوار) *الذي رسخه مسرح ماكس. فقد استندت إلى تنظيم الواقع من خلال التجريد والبساطة للأشكال التي كانت تكشف من قبل الرسامين الانطباعيين.
وفي هذا الوقت أتقن مسرح راينهارت استخدام الشكل الدوار للمسرح أو استخدم أكثر من دوار مصنع لإغراض ذات فائدة وقتية واستخدامات خاصة وهي الأخرى كانت ثلاثية الإبعاد تشاهد من الزوايا والجوانب المختلفة للمشاهد للمتلقي.
يرى الباحث في تعريف الانتقائية لدى ماكس عندما عرفها (سامي عبد الحميد) “الانتقائية تدعوا إلى تعدد الابتكارات والى توسيع الخيال وتفسح المجال للتجريب وتفسح المجال للتبسيط والاختزال وللتحول من التخصيص إلى التعميم. الانتقائية تحرر المخرج من قيود البناية المسرحية التقليدية بان يستطيع إن يخرج من مسرح الإطار إلى مسرح الحلبة ومن مسرح الغرفة إلى مسرح اللسان ومن مسرح المغلق إلى المسرح المفتوح”(23) وهكذا أصبحت الانتقائية الراينهارتية هي مصدر راسخ للمخرجين إن يجربوا من اجل التغير ومن اجل تثبيت تجارب مسرحية رصينة يشار لها بالإضافة المسرحية الهرطوقية.
(ايروين بسكاتور Erwin Piascator )
عندما نذكر هذا المخرج نقول المهرطق الذي وضع إضافاته الإخراجية في المسرح السياسي وهو المسرح الذي يرسخ الموقف الجمالي والإيديولوجي لحالة المجتمع فقد استند (بسكاتور) على الفلسفة (الماركسية) *التي ادلجة المسرح السياسي, ولعل ذلك ما دفع مهرطقي المسرح السياسي (بسكاتور وبرشت) إلى إلغاء قانون التعاطف وثم إلغاء مرحلة الصراع الأرسطي والإيهام في المسرح , باعتبار المسرح الجديد يحاكي الموقف الفكري والحالة العامة لتحشيد العامة وتقديم العرض المسرحي بالصيغة مغايرة.
إن نظرية المسرح السياسي عند (بسكاتور) تتمخض في الكشف والتعرية بطريقة تسجيلية ووثائقية , فالوثيقة التي يطرحها العرض واقعة وحقيقة ولا تقبل الشك أو التأويل بل إنها تؤجج الموقف والحالة لإظهار الحقيقة وتخلق موقفاً مجسد حقيقي لعل نظريته كانت تستند على مبدأ (الاحتجاج) فمسرحه مسرح احتجاج ضد كل القوانين الصارمة. إن مسرح (بسكاتور) يقدح الفكر ثم التصور وصولا للثورة ورغبة في التغيير, وللأسباب ذاتها فقد كان مسرحه احد أهم المسارح العالمية.
. لجأ (بسكاتور) إلى المنهج التركيبي في العرض المسرحي , فوظّف السينما والشرائح المصورة, الابتكارات الميكانيكية التي حققتها المكتشفات الحديثة كافة, وهو منهج يضيّق المسافة بين المسرح والسينما حيث استبدل خلفية المسرح (بالفانوس السحري) وهي شاشات (السكرين) تعرض عليها الأحداث السياسية والعسكرية الكبيرة وتعرض المواد الإحصائية للحروب, وتأثير الحروب وكوارثها بشكل يؤدي إلى توضيح الخطوط التاريخية لقدر الحكومات المتصارعة, راح (بسكاتور) في السينما في مسرحه إلى ثلاث مقومات: التعليم والتحليل , والفضاء الدرامي. فقد أصبح مسرحه قائماً على التشاركية القصدية مع المتلقي بشكل مباشر كما في (المسرح التحريضي)
(بروتولد برشت Berthold Brecht )
من المسرح السياسي إلى المسرح الملحمي , الذي لا يخلو من المؤدلج بالإضافة إلى الولوج في عقلية المتلقي, وما ظهور المسرح الملحمي سوى خطوة مغايرة عن مسرح (بسكاتور) السياسي, بالإضافة إلى انه نوع آخر من أنواع التمرد القائم ضد كل ما هو تقليدي ومألوف, مما أخذ بمبدأ التمرد على المسرح الأرسطي, ليس في بنية النص وتكوينه بل في مقوماته الإخراجية, فلقد كان (برشت) هو احد المجربين في المسرح قد استمد تجربته من تقاليد سابقة للمسرح.
إفادة عروض (برشت) تحولات مستمرة وعلاقات ديناميكية مستمرة بين التعاطف والتغريب والانعزال والاختزال. لعل التحول تلك العلاقات في المسرح البرشتي أعطى قيمة فنية وفكرية للعرض المسرحي الذي يحاول على الدوام المغايرة والتجديد فقد.”أستوعب (برشت) الدراما على أنها عملية جدلية_ اكتشاف المشاكل أو الموقف وبالتالي ، تتوحد مسرحياته بالفكرة وليس بالفعل”(24)
إن المسرح الملحمي هو مسرح سردي لا يمثل الإحداث، بل يعرض بصورة متسلسلة حيث يترك لكل مشهد كيانه المستقل, ويقوم كسر الإيهام وكسر الاندماج الكامل.على الممثل في مسرح (برشت) إن يتجنب الاندماج في دوره، وان يظل مدركا بأنه يمثل دورا ولا يقدم الحقيقة أي إن الممثل يؤدي حواراته على نحو سردي، يسرد أفعالا قام بها شخص أخر في زمان سابق ، فالممثل يجب إن يؤدي دوره بمعزل عن تقمص الشخصية. يحدد معالم مسرحه الملحمي القائم على فكرتين أساسيتين هما (التغريب) كتقنية و (الجست) كإشارة أو صورة. والاندماج, فالجست اختصار للمشهد أو الفكرة الأساسية أو نقطة رئيسية أو نقاش.وغالبا ما يستخدم عنوانا للمشهد أحيانا يوجب استخدام الجست بصيغة الإشارة الحركية والتي تعد ذات مغزي اجتماعي جمعي متفق عليه سلفاً.(25).
هرطقات الروسي فيزفولد ميرهولد
يعتبر فيزفولد مايرهولد Vsevelod Mierhold من أبرز تلامذة (ستانسلافسكي) المتميزين في مجال الإخراج، إلا أنه كان شكلانيا ضد الواقعية. فقد أفاد من مسرح الأستوديو وهو جناح في مسرح موسكو الفني” ولم يكن هذا الأستوديو لا مسرحاً جاهزاً كامل لعدة والاستعداد , ولا مدرسة للمبتدئين بل كان معملاً أو مختبراً “(26) مما راحت هرطقات مسرح (مايرهولد) تأخذ الطابع المختبري والتطبيقي لكل تجربة تقدمة بعد إن تنصهر للوصول الى درجات الهرطقة التجريبية من خلال النظريات في المسرح.
لذلك ينظر إلى نظرية (الغروتيسك) ” كمجرد وسيلة, بمساعدتها يمكننا خلق مسرح مسل ومضحك للغاية, ولكن في حقيقته الأمر إن مايرهولد لا يفهم (الغروتيسك) فقط كونه وسيلة لإظهار حالة التناقض أو السخرية بل وأسلوب لدفع الفنان للبحث عن مضمون جديد” (27). وعلى ضوء ما تقدم أبتدع (مايرهولد) ما اسماه ( المنظر التركيبي) الذي يرتفع أحيانا عن سطح الخشبة ويحتوي على مساحات متعددة والارتفاعات تتصل بها سلالم وتوضع لها أسجية غير منتظمة كما يدخل عليها الآلات المتعددة والعجلات المتحركة ويستخدم لهذا الغرض خلفية ساندة ليمنح حرية واسعة للتحرك عليها إن المسرح الشرطي والمنظر التركيبي يبحث في تنوع فضاءات العرض التجريبي لـ(مايرهولد) يخلق صوراً مدهشة ومبهرة معتمداً على رشاقة الخط وتلوين الأزياء وتحطيم الديكورات الموضوعة بمستوى واحد مما أفاد منهجه للممثل “منهجه في فن الأداء الممثل (البيوميكانك) نظرية وتطبيقاً جنباً إلى جنب مع ريادته لأسلوب البنائي في صياغة العرض المسرحي”(28) ممثل مستقبل فقد قام بإعداد الممثل للأدوار وكان ينتقل (مييرهولد) إلى السرك والبلاستكية التي كان يطلب من الممثل في الفضاء إن يتظاهر بقوة للجسد البشري. إن الرياضة , البهلوانيات , والرقص, والحركات الإيقاعية, والملاكمة, والمبارزة, عناصر مساعدة في دور (البيوميكانيكية) هذه المادة الأساسية والضرورية لكل ممثل (29).
وبهذا السيطرة الكاملة على الجسد فقد” أطلق (مايرهولد) على نظريته في تدريب الممثل على التعبير الجسدي الحركي نظرية الآليات الحيويةbiomechanics والتي تقوم على نوع من التوازن والتناغم بين الطاقة الانفعالية, والطاقة العضلية للممثل لإنتاج ما اسماه (الطاقة الروحية في التعبير)”(30). لقد صاغ (مايرهولد) نظرية البايومكانيكا لأنه رأى إن الكلمات المنطوقة مهما كان تثيرها العاطفي لا يمكن إن تصل إلى دوافع الإنسان سعى بذلك إلى خلق فضاء مرئي سينوغرافي يقنع ويدهش المتلقي فيه من اجل تحقيق الطابع الجمالي في العرض المسرحي.فقد كان ” (مايرهولد) يؤكد أولا على المفاهيم الإخراجية التي يمكن تجسيدها بوسائل بصرية. وبالتالي فقد اهتم بأنه يعامل الممثلين كم لو كانوا دمى متجاهلا الجوانب النفسية للتمثيل”(31). سجل المسرح الروسي معرفته بأن التكنيك هو الطريق إلى حرفية الإخراج الأساسية لأن التكنيك هو الأساس الهام في العملية التطبيقية للإخراج .ويبدأ التكنيك من خلل خلق مدرسة مستقلة غير تابعة لأي فرقة ذات تاريخ منهجي في تمارينها وتكوينها فالمدرسة يجب إن تكون مستقلة وينبغي إلا يعلم فيها الأداء المألوف.(32)
الهرطقة والمسرح الطقوسي .
(أنتونين ارتو Artaud Anton in):
يعد المجرب (ارتو) واحدا من المخرجين المسرحيين المهرطقين الذين رادو للمسرح يبتعد عن الزيف والنمطية السائدة إذ أراد لمسرحه إن يكون أشبه بمحرقة، طاعون بين البشر، ووسيلة التجسيد من خلال صور فيزيقية قاسية مقدماً الهرطقة اساس الطقس.
فلقد دعا ارتو إلى وظيفة جديدة للمسرح فالوظيفة الرئيسة لمسرحه الأوهام والتخيلات والسحر واللاعقلانية والجنون واعتبار المسرح وظيفة نفسية وأخلاقية ثانوية ، لذلك راح باستخدام (الحلم) أمر أساسي في دراما (ارتو) فقد مكنه هذا الأسلوب من استخدام الحوار في إطار مسرحي بعيدا عن مقتضيات الأسلوب الأدبي، ومكنه أيضا من أن يعلل استخدامه للرموز (الهيروغليفية) وسيلة لنقل أفكار معينة عن طريق الاتصال البصري، فضلا عن ذلك باستخدام هذا الأسلوب استطاع أن يقدم الأشباح والدمى وغيرها. ومن اجل ذلك كان مسرح (ارتو) يدعو إلى الأسطورة والسحر والميتافيزيقية. يرى الباحث أن هذا المسرح الذي يدعو إليه (ارتو) مسرح يدري أحداثا غير اعتيادية مسرح يدعو إلى اللاشعور الداخلي من اجل أيقاظ المتلقي. لعل ما أفاد به ارتو من حاجة المسرح للتغير وهذا ما قاله ” إننا في حاجة إلى مسرح يوقظ أعصابنا وقلوبنا, أولا وقبل كل شيء”(33) وبهذا راح ارتو إلى المنظور المتمثل في الاستعمال المزدوج (الانثروبولوجيا) *, يتضح تماما ظهور هذه الأصناف من الأسطوري والطقوسي من جديد في المسرح المعاصر، عبر إعادة استثمار سيرورات الرجوع إلى الأصل إلى المركز وعبر إعادة اقتحام الوحدة.
فانطلاقا من خطاب أرتو فإن ( الانثروبولوجيا ) تمكن من الإحاطة جيدا برهانات مسرح أقل انشغالا بتعريف مقولات جمالية جديدة من أن يقترح تجربة ثقافية مغايرة ومضادة، لذلك فإنه يمكن أن يمنح الممثل فرصة أن يكتشف ذاته وأن يبين للمتلقي الطريق إلى عالم آخر للكينونة.
مسرحه يهز أعصاب المتفرجين بالعمل على الأحاسيس وعلى البدع الطقسية النفسية الانفعالية , وأراد من هذا المسرح لغة جديدة غير اللغة الاعتيادية المنطوقة لغة رمزية لها علاقة بالإيماءات الصوتية والجسد والروح.
فهو يبحث عن خشبة مسرح خالي. ” خشبة عارية هو أمر يؤدي في لنهاية أيضا إلى التوجه نحو الداخل والتركيز على الروح الإنسانية, كما يؤدي ذلك أيضا إلى التجريب على إشكال التواصل العقل الباطني (اللاشعوري) أو التواصل المادي المباشر”(34). ان بحث ارتو عن لغة مرئية لا تمثل مجرد ترجمة للكلمات وإنما شكلاً من إشكال التواصل المباشر من خلال استخدام الأفعال وذلك لتشكيل صور تتبع من ذاتها ولا تستخلص معناها من الموقف ومن خلا هذا يرى الباحث تتشكل نظرية العرض لدى ارتو من خلال ما يطرح ارتو “اللاعقلانية والهذيان كبديلين بإمكانهما تحرير الميول المكبوتة في عملية تطهير عاطفي”(35) ومن هذة البدع الهرطوقية للمخرج ارتو كانت حالة من حالات الجنون والأتيان بالبدع المخالفة للمسرح وهنا يعتبر ارتو من اهم المهرطقين العالميين باستخدام لانثروبولوجيا.
(جيرزي كروتوفسكي Gerzi Grotovski ) :
إن جروتوفسكي مسرحي ذو توجه قيمي لا شكلي مسرحي روحاني علماني كان يركز على التراث المسيحي الكاثولكي يرمي بها مادته المسرحية من خلال مشاكسته الدائمة للأساطير الوثنية والعودة إلى الطقس والى البدائية كان يتخذ طابع العرض الحلمي التخيلي المجسد من قبل الممثل نفسه ” في بحوثه الدائمة عن المسرح ضرب عرض الحائط بكل المفاهيم التقليدية المتحجرة التي تدور حول اهم العناصر الثلاثة المكونة لنسيج العمل المسرحي: خشبة المسرح, الممثلين, المتلقي, مما يؤدي به في نهاية الأمر الى التحرر من المسرح ذالك والوصول به إلى ما يطلق عليه بالمسرح _ خارج المسرح”(36) مسرح قدسي مسرح يبحث في الجذور العميقة. إما عن علاقة الممثل والمتفرج ومحاولة التأكيد على التواصل الإنساني في الحدث الجماعي الذي يشارك فيه الجمهور للتعرض على نفسه بنفسه, في الطقس الاحتفالي المشترك ويتشكل في مضمون يتسم بالحدية والسرية.(37)
يرى (كروتوفسكي) إن المجابهة هي الجوهر. وليس النص جوهر المشكلة، ما يطلق (كروتوفسكي) بأسلوب (الغيبوبة) أسلوب تلاحم كل قوى الممثل النفسية والبدنية المنبثقة من الطبقات المرتبطة بتصميم طبيعة المرء وأحاسيسه. إذن تربية الممثل في مسرحنا ليست قضية تعليمية، وإنما عملية انسجام ونظام محاولة التخلص من مقاومة العملية النفسية . أن (غرتوفسكي) عندما طرح فكرة تغير العلاقة بين (الممثل والمتلقي) تقوم على فعل (التشاركية) فقادته هذة المحاولة بالعودة البدائية والطقسية والأسطورة. وباتت الصلة التي تحكم عروضه هي كسر الحواجز بين المرئي واللامرئي ويمكن تحدد هذه الفترة بمسرح المختبر والذي اهتم بأن تكون القاعة ميداناً للفعل المسرحي. والاهتمام بشكل كلي والذي أسماه فيما بعد (بالمسرح الفقير). معتبراً في الورشة شيء مقدس وان هدف الورشة تطوير قدرات الممثل الجسدية والصوتية وصولاً لان يصبح (ممثل خالق وقديس) ومن هنا الممثل أطلق في بحثه يحاول من خلاله كسر الأنماط السائدة والمعروفة آنذاك.
أن جروتوفسكي قد حاول أن يجعل من المسرح ديناً جديداً, لذا فقد أستخدم مفاهيم دينية يهدف من ورائها إلى صياغة الممثل المقدس.” قد وصف المبادئ الأساسية التي تقوم عليها التدريبات الشكلية التي يقوم بها لممثليه كونها تربط ما هو روحي بما هو حسدي بطريقة تقود إلى تحرير العقل الباطن أو اللاوعي وبالتالي يتم تجاوز الممثل لذاته” (38) وعلى غرار ما جاء به (ارتو) يعتبر (غروتوفسكي) أن المسرح طقس دنيوي المعادل الجديد للاحتفال القبلي البدائي الذي يوحد المجتمع.
لعل من ابرز تطبيقات كانت تشمل في خلق نظرية يستند الممثل والمتلقي بها وهو. يريد خلق نظام مسرحي, يقترب من الرهبة والتقديس, لذا فهو لا ينشد أيضا متفرجاً من نوعية خاصة, لديه احتجاجات روحية عميقة .
(بيتر بروك Peter Brook ):
بيتر بروك يعتبر من أهم المسرحيين في العالم المعاصر فهو ظاهرة تمتلك الجرأة في تغير العرض المسرحي وإلغاء الحواجز بين الممثلين والمتلقي بيتر بروك المسرحي الانجليزي هو مشروع ببحث عن أصول المسرح وعلاقة الممثل والمتلقي,
ويقول مستدركاً: ولكن القيام بالتجريب بشكل عشوائي من اجل ذات التجريب يمكن إن يستمر إلى ما لا نهاية دون الوصول أبداً إلى خلاصة مترابطة منطقياً.(39) يمكن حصر نظرية بيتر بروك بالمنطوق التالي: إن الإشكال الأسطورية والطقسية البدائية التي يخلقها العرض سيكون لها قوة في تفجير اللاوعي الجمعي واكتشاف الذات عند المتفرج بوصفها مشابهة للأنماط الأصلية (40). \كانت أفضل ممارسة في (السكربت). ومن الطرق التي ابتكرها، في معمله التجريبي هي:
1) طريقة (التمرين الجماعي): وملخصها إن الشخصية المسرحية الواحدة لا يؤديها ممثل واحد فقط وإنما تقوم على مجموعة من الممثلين بعرض سلوك هذه الشخصية وصفاتها.
2) طريقة (القص واللصق)، أي (الكولاج collage): أي إن يؤدي الممثل في وقت واحد مشاهد مختلفة ومواقف مختلفة، فالأداء هنا متراكب من عدة لحظات مختلفة، وغير منتظمة، وبمعنى أخر هو أداء اللحظات أو الومضات غير مترابطة، وغير منتظمة.
3) طريقة (الارتجال): فقد نحت العروض المسرحية التي أخرجها (بروك) منحى الارتجال من اجل مشاركة الجمهور ومع الممثلين، فضلا عن الانطلاق النفسي والجسدي للممثل. فمثلا يدخل عشرة من الممثلين إلى المنصة واحدا واحد ليرتجلوا، ويكمل كل منهم اللحظة التي بدأها سابقه وهكذا.
إن الهدف من استخدام وسائل وطرائق جديدة ووصفها بـ (المسرح الفوري) او (التلقائي) الذي يجمع ما بين (المقدس) و (الخشن او الخام) هو والابتعاد عما يسمى بالمسرح التقليدي.
خلاصة القول ان تجارب المسرح العالمي خضعت جميعها على يد المخرج المهرطق الذي عمل جاهدً لمغايرة النمط السائد للتقاليد المسرحية فالمحاولة الاولى عن طريق الهرطقة الابداعية للمخرج العالمي لغزو المجهول والبحث عن قيم مخالفة وجديدة تواكب الحراك المسرحي مما افاد من ديمومة وصيرورة المسرح (فالهرطقة في المسرح هي حالة ذو ضرورة واثر ملحة للمبدع المسرحي فهي إضافة جديدة مغايرة عن السائد والمألوف لتأصيل تجارب المهرطق في الفن المسرح)
** هواميــش:
(*): الكوميديا ديللارتي المرتجلة: كوميديا شعبية ايطالية تطورت فيما بين القرنين السادس عشر والثامن عشر. وفيها يرتدي اللاعبون الأقنعة ويقيمون بارتجال الحوار والفعل انطلاقاً من موجز تخطيطي للحبكة مبني على موضوعات ترتبط بمواقف وشخصيات تتكرر عن مصدر اصلي . ويعني المصطلح حرفياً كوميديا الطائفة الحرفية._ إبراهيم فتحي, معجم المصطلحات الأدبية, ط1، تونس، المؤسسة العربية للناشرين المتحدين, 1986م, ص (292 – 293).
(1) :محمد سيف, المسرح والتطبيقات التي تعارض التقاليد,بغداد,مهرجان بغداد لمسرح الشباب العربي/ الدورة الأولى, 2012م, ص245.
(*): جافا وبالي: جزيرتين من جزر اندونيسيا تفصلان عن بعضهما بمضيق يسمى مضيق بال.
(2): ينظر,محمد سيف, المصدر السابق, ص 249.
(*): السينوغرافيا: خلق فضاء فـوق خشبة المسرح ، وتصف إتجاها كليّـاً لصناعة المسرح من منظـور بصري / هاورد ، باميلا : ماهي السينوغرافيا ، تر / محمود كامل ، القاهرة : ( وزارة الثقافة – مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي ) ، 2004 ، ص5 و ص200 .
(3) : محمد سيف, المصدر السابق, ص 252
(*): الاسلبه, (فهي ابتعاد عن المحاكاة التصويرية للواقع .والاكتفاء بتقديم علامات تدل على هذا الواقع) ينظر,الياس ماري وحنان القصاب:المعجم المسرحي ,بيروت مكتبة لبنان ناشرون .2006.ص34.
(4): أدوين ديور, المصدر السابق, (131_ 132).
(5): محمد سيف, المصدر السابق, ص 266
(6): محمد سيف, المصدر السابق, ص 267
(*): أطلق كلمة (النو) التي تعني المأثرة او القدرة على العمل الحاذق الإنجاز البارع على نوع من أنواع المسارح التقليدية اليابانية الذي ظهر لأول مرة خلال لقرن الرابع عشر والشنتو هي لديانة القومية والعقيدة العرفية لليابان. أدوين ديور, المصدر السابق, ص 167.
(7): أدوين ديور, المصدر نفسه, ص 166- 167.
(8): ينظر ادوين ديور, المصدر السابق, ص 168.
(9) ينظر, جون رسل تيلر, الموسوعة المسرحية,تر سمير عبد الرحيم الجلبي, ج1, ط1, بغداد, سلسة المأمون, 1990م, ص (406 –407).
(*): الإيهام: ا) انطباع أو إدراك لا يطابق الواقع , بل يدفع لقارئ المتوهم إلى الاعتقاد في وسط الرمز. 2) وينتج عن الإيهام , ابتكار عوالم تخيلية وتحقق مصداقية, قد تكون أقوى من الواقع/ سعيد علوش,معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة, المصدر السابق, ص 236.
(10): عبد الحميد,سامي, ابتكارات المسرحيين في القرن العشرين. ص4
(11): عبد الحميد, سامي ، قديم المسرح جديدة وجديد المسرح قديمه, المصدر السابق, ص(100- 101).
(12): أفنز, جميز رووز,المسرح التجريبي من ستانيسلافسكي الى بيتر بروك,مصدر سابق,ص 100.
(13): عبد الحميد ,سامي, المصدر نفسه,ص20
(14): ينظر, كرومي : عوني, الخطاب المسرحي,ط1,الشارقة, دائرة الثقافة والأعلام, 2004,ص 78
(15): عبد الحميد: سامي, من المسرح الشعبي إلى المسرح الشامل,ط1, بغداد, دار ومكتبة عدنان,2013م,ص46.
(16): ينظر, عبد الحميد: سامي , مصدر سابق,ص37.
(17): ديفيد بردبى وديفيد وليامز, تر أمير سلامة,القاهرة, الهيئة العامة لقصور الثقافة, 1997م,ص 13
(18): اينز: كريستوفر, المسرح الطليعي, نصدر سابق,ص20
(19): عبد الحميد: سامي, من المسرح الشعبي إلى المسرح الشامل, مصدر سابق, ص45.
(20): بوبوف: الكسي ، مصدر سابق, ص 29
(21): بوبوف: الكسي ، مصدر سابق, ص 30
(22): أفينز: جميز رووز ,المسرح التجريبي من ستانيسلافسكي الى بيتر بروك, مصدر سابق, ص(100_101).
(*): الربرتوار: تعني الكلمة ما يفهم بالسجل أو الارشيف أو الخيرة التي يتم فيها تنظيم العروض وفق رزمان ومكان معينين حسب الموسم المسرحي لكل عام./ يوسف: عقيل مهدي ، فكرة الإخراج، ط1، الشارقة، دائرة الثقافة والأعلام الشارقة، 2011م، ص94
(23): عبد الحميد: سامي , نحو مسرح حي, مصدر سابق, ص18
(*): الماركسية: في الأساس نظرية في الاقتصاد السياسي وضعها كارل ماركس بمشاركة هامة من فريدريك إنجلز في منتصف القرن التاسع عشر. ان مجموعة العلاقات الإنتاجية هذه يشكل البنية الاقتصادية للمجتمع.أن المركسية لا تفرض قيود على الفن ولكنها ترى من الطبيعي ان يولد فن جديد يضع البروليتاريا أي الطبقة الكادحة في المركز وللفنان ان يعبر عن همومه الشخصية لكن شريطة الا يفكر في الحاضر بعقلية الماضي أي يحترم حركة التاريخ ويؤمن بحتمية التقدم ينظر ميجان الرويلي و سعد البازعي، دليل الناقد الأدبي،ط2، بيروت، الدار البيضاء، ص (2016).
(24): عبد الحميد: سامي, ابتكارات المسرحيين في القرن العشرين, مصدر سابق, ص186
(25): ينظر, التكمة جي:حسين , مصدر سابق، ص69_ 70
(26): أمل, احمد, نظرية فن الإخراج المسرحي,ج1,المغرب, دار النشر المغربية 2009,ص97
(27): الجاف, فاضل ,فيزياء الجسد,ط1,بغداد, دار المدى للثقافة والنشر,2012,ص 86
(28): الجاف, فاضل, مصدر سابق, ص 46
(29): ينظر,مايرخولد, فسيفولد, في الفن المسرحي,ج 2,تر شريف شاكر, بيروت, دار الفهرابي,1979,ص(32_33)
(30): ابو دومة, محمود, تحولات المشهد المسرحي الممثل والمخرج,مصدر سابق,ص42
(31): عبد الحميد, سامي ابتكارات المسرحيين في القرن العشرين, مصدر سابق ص 89
(32): أمل, احمد, مصدر سابق, ص 107
(33): أرتو: انتونان, المسرح وقرينه, تر سامية أسعد, القاهرة, دار النهضة العربية, 1973م, ص 74
(*): الأنثروبولوجيا هي علمُ الإنسان. وقد نحُتت الكلمة من كلمتين يونانيتين هما anthropos ومعناها “الإنسان” و logos ومعناها “علم”. وعليه فإن المعنى اللفظي لاصطلاح الأنثروبولوجيا (anthropology) هو علمُ الإنسان./الشبكة العالمية انترنيت,يوكبيديا, http://ar.wikipedia.org/wiki
(34): اينز, كريستوفر. المسرح الطليعي, مص در سابق , ص21
(35): اينز, كريستوفر. المسرح الطليعي, مصدر سابق , ص113
(36): جرودجيتسكي: أوجست, المخرجون البولنديون التجريبيون الكلاسيك, تر هناء عبد الفتاح, القاهرة, (وزارة الثقافة_ مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي), 2004, ص105.
(37): ينظر, جرودجيتسكي: أوجست, مصدر سابق,ص 116
(38): عبد الحميد: سامي, فن التمثيل نظريات وتقنيات جديدة لمسرح جديد, مصدر سابق, ص70
(39): عقيل مهدي يوسف، فكرة الإخراج، ط1،الشارقة، دائرة الثقافة والأعلام الشارقة، 2011م، ص 69.
(40): حسين التكمه جي، نظريات الإخراج، ط1،بغداد، دار المصادر، سنة 2011م،ص.(95).