(بارانويا ) الهروب من عذابات الحياة بالخلاص الروحي / د. حسن عطية

للعرض المسرحي أكثر من زاوية للولوج إلى عالمه، فمن الممكن لنا النظر للعرض المسرحي الذي يقدمه مركز الهناجر للفنون بعنوان (بارانويا) من زاوية صناعه وتلاقي الأجيال وتفاعل الخبرات الحياتية والمسرحية فيما بينهم ، فصاحبة النص الدرامي الكاتبة الشابة “رشا فلتس” تقدم أول تجاربها على المسرح المحترف لأول مرة، ومحولة أفكارها لوجود حي  في فضاء المسرح الممثلة والباليرينا “ريم حجاب” التي سبقتها لعالم المسرح بسنوات واكتسبت خبرة عميقة في حقل التعبير  الجسدي  الراقي بحكم دراستها لفنون البالية والموسيقى والتمثيل الدرامي، ثم المخرج المخضرم “محسن حلمي” الذي خبر العمل المسرحي إخراجا وتمثيلا منذ ثمانينيات القرن الماضي، والصائغ بمهارة لأفكار الشباب ومعاناته الحياتية في عرض يؤكد على أن الموهبة هي الأساس، والخبرة والوعي هما الداعمان للإبداع الحقيقي .
كما أنه من الممكن لنا أن ندلف لعالم عرض (بارانويا) من زاوية الصياغة الدرامية له، والقائمة على بنية  المونودراما،  أي دراما الصوت الفردي الصارخ في البرية، والقائمة على محوري الحكي والبوح، حكي الوقائع  التي تتعرض لها  الشخصية المتحدثة مع ذاتها، أو مع جمهور متخيل، ويستمع إليها ويشاهدها بالطبع الجمهور الحاضر في العرض المسرحي، فالشخصية الدرامية هنا لا تقدر على العيش في حوار صامت مع ذاتها، بل هي في حاجة دائمة لمن تتحدث معه، سواء وجدته على قارعة الطريق، أو تخيلت وجوده، والبوح له بأشواقها وأحلامها الخاصة،  فالمونودراما هي انفلات من حديث الذات، وهروب من عزلة النفس البشرية داخل معاناتها، ورغبة في التحاور مع العالم، من طرف واحد .
وهذا ما نراه في هذا العرض المنطلق من انعزال امرأة شابة داخل جدران بيتها الصغير، منتقلة في فضائه من أقصى يمينه، حيث توجد أريكة تستخدم للاستلقاء طلبا للراحة أو النوم وإلى جوارها كرسي بلا ظهر (بوف)، لأقصى يساره حيث يوجد  مقعد وحامل مما يستخدمه الرسامون لوضع لوحاتهم، ولكنه يستخدم هنا للإيحاء بوجود مرآة تتطلع إليها الفتاة حينما تبحث عن حقيقة وجودها الجسدي، فالعالم الذي تعيش فيه ينغلق على موضعي نومها وزينتها، فلا حضور لأي موضع آخر يمكن لنا أن نرى المرأة فيه، ونتلمس عبره معاناتها الحياتية، وهى مجرد أنثي قابعة  في غرفة نومها، تستيقظ ذات يوم على صوت يطارد جسدها، ويعلنها بأنه ساكن بأعماقها، ولا يمكنها الفرار منه، ورغم ذكورية هذا الصوت فهو لا يمثل الرجل فقط، وفقا للثنائية التي يستسهل البعض الحديث عنها وخلق وهم الصراع الأزلي بين الذكر والأنثي، حيث يتحول هذا الصوت الفردي خلال العرض لصوت جماعي (كورالي)، متضمنا صوتا نسائيا، وممثلا للسياق المجتمعي  الذي تعيشه المرأة وتكابده، وهو سياق رغم هيمنة الرجل عليه، فللمرأة دور في تدشينه بقبولها لأفكاره وجلدها لجسدها حينما تشعر أنه خرجت عنه، بل وتعمل على فرضه على نسوة مثلها.
كما أن هذا الصوت الذكوري المطارد للمرأة طوال حركتها المتأرجحة داخل حجرة نومها الخاصة، بين سرير النوم  ومرآة التطلع للذات، يتحول بيد الكاتبة في نهاية المسرحية إلى المخلص البادي كبؤرة ضوء في عمق فضاء المسرح،  الذي جسد مسطحا صاعدا في منتصفه، تختفي خلف ستائره السوداء المسدلة على جانبيه أربع دمي، تبدو من وحى خيال المرأة المريضة نفسيا بأنها لرجال تم تشويه صورتهم لاشعوريا، وتظهر حينما يراد لها أن تجسم العوائق المجتمعية  والضغوط  النفسية  التي تحيط بها، وفى النهاية يناديها المخلص لعالمه، مؤكدا لها أنه صانعها، وهو معها، وعليها ألا تخاف، ودافعا لها للانسحاب من حجرتها الواقعية والتراجع للخلف داخلة لعالمها التعبيري المتخيل، صاعدة المرتفع حتى منتهاه
السرمدي، متخلصة تماما من عالمها الواقعي المادي .
وإذا كانت المونودراما هي الصيغة الأمثل للتعبير عن الذات المتقوقعة حول نفسها، فاقدة الحوار الحياتي مع الآخر، والمجسدة لانعدام الصراع الدرامي بغياب هذا الآخر بوجوده المتعين، فإن موضوع المسرحية المتمثل في عنوانها (بارانويا) تعد المونودراما أصلح الصيغ لعرضه، حيث تعانى المرأة في المسرحية من حالة مرضية معروفة بجنون الارتياب  (البارانويا)، ناتجة عن فقدانها الثقة فيمن حولها، خاصة بعد محاولة خالها اغتصابها، وموت جدتها، فتعيش داخل ذاتها متوهمة مطاردة الآخرين لها، و مرتعبة من فكرة التحرش بجسدها إذا ما غادرت قوقعتها النفسية والمادية، التي تظل تدور داخلها، دون تحاور فعلى مع الآخر، يساعدها على إدراك حقيقة مرضها النفسي والشفاء منه، لذا ظلت أسيرة هواجسها، حتى جاءتها الخاتمة من خارج عالمها النفسي المضطرب، وحضورها الدرامي المحبوس داخل ظلمة ذاتها، بتحول الصوت الذكوري  المطارد لجسدها إلى صوت المخلص لروحها المضطربة، يأخذها لعالم ميتافيزيقى غير معلوم، بعيدا عن مواجهتها الحقيقية لعالمها  المادي الذي حولته لغابة من الوحوش الكاسرة.
نص جيد لشابة واعدة، مكن ممثلة متمكنة من أدواتها للتألق، وأتاح لمخرج مخضرم أن يصوغ عرضا متماسكا ومثيرا للدهشة .
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت