ثقافة الصورة في عرض مسرحية (ملف مغلق) / قراءة د.شاكر عبد العظيم
إن السمة التي يتشكل منها العرض المسرحي الراهن بشتى نصوصه، سواء نص العرض أم النص المكتوب السابق للعرض وآليات مسرحته وانتقاله من حيز / خطاب / لقارئ إلى حيز خطاب لمتلقي يعتمد الحواس السمع / بصرية وفق آليات تلقي / تشارك مع مجموع متلقين ربما تختلف مرجعياتهم المعرفية ويحدث التصادم الفكري والمعرفي سواء في الاتفاق أو في اللا اتفاق ، فان سمة العروض الراهنة غير مهادنة ولا تنقل الراهن ببراءة ، بل هي تشكل إدانات لهذا الواقع وتحاول تشكيله وفق وعي ثقافي، فروعة الحياة ناتج عن روعة الثقافة فيها، ولأن الكلمة لم تعد منذ زمن هي الوسيلة الوحيدة المعبرة إذا ما عرفنا أن دروس اللسانيات والبنيوية بكل أشكالها ( سوسير، لاكان ،التوسير ، شتراوس ، رولان بارت ، وغيرهم ) ثم مابعد البنيوية (دريدا ) وقبلها ظاهراتية (هوسرل ، باشلار) قد فتحت الباب على مصراعيه لتأشير لغات حياتية متعددة، ما أدى إلى تفعيلات لغوية غير قارة كما اللغة الملفوظة نفسها، وهو بدوره وبكون المسرح الذي ديدنه التأثير والتأثر قد استقطب استثماريا كل تلك الرؤى والطروحات لا الحداثية ، بل ما بعد الحداثية ، ليتمترس خلفها أنواع من أشكال عروض مسرحية (الجسد ، الكيروغراف ، الرقص الدرامي ، التشكيل المسرحي ) . وعرض مسرحية (ملف مغلق) اقتباسات من علي عبد النبي الزيدي وعدي المختار ومخرجها الفنان ( حليم هاتف ) والتي عرضت ضمن مهرجان المسرح العراقي الأول ضد الإرهاب ، يتناغم وهذه الأشكال المسرحية التي تمثل روحية الحاضر وتكنولوجيته وديناميكيته ، هذا العرض الذي أخفى الجسد كوسيلة تعبير لا مجال إلى التخلي عنها اتجه نحو وسائل أخرى، هي الصوت وتعبيرات الجسد المتماهية مع قماش ابيض يستنطق وجوه وأجساد الممثلين عبر التصاقه بهم في الكثير من أحيان العرض (ملف مغلق ) فكان القماش هو الممثل وكان الممثل هو القماش عبر مجموعة أرواح لشهداء قضوا بسبب إرهاب شراذم أوباش يمقتون الحياة و الإنسان ، ويعشقون إراقة الدم البريء، فكان الشهداء يمثلون وثيقة إدانة تاريخية لتاريخ الإرهاب والفكر التكفيري. وبرغم هيمنة القماش، إلا أن الممثلين مع المخرج كانوا على وعي تام بوجودهم خلف مفردة قد تشكل بطولة على حساب أداءهم الشخصي ، لذلك فقد عمدوا إلى تشكيلات حركية تستظهر براعة أداءهم ومقدرتهم الجسدية والصوتية معا ، لذلك كان القماش وسيلتهم للوصول إلى روحية أدائية فاعلة وحاضرة اودت بالقماش إلى أن يكون تاليا لفعل الممثل وحضوره الثقافي / الفني ، كانوا أرواحا وأجسادا مشتعلة، متوهجة، باثة للصورة على مدى 20 دقيقة متواصلة وهنا تمتشق الصورة المسرحية المتشظية وفق تناثرات زمكانية تجلت في مجموعة الشخوص و (ليس المقصود هنا صورة مسرح الصورة الذي نعرفه ) التي تنتمي إلى بيئات مختلفة وأعمار مختلفة، فالصورة المسرحية متناقلة في بيئات مختلفة باختلاف أماكن الممثلين وتشكيلاتهم الصوت / حركية، ولم يكن القماش دلالة متوقفة تشير إلى أنهم شهداء أو كدلالة كفن كمناخ لأرواح هؤلاء الأبرياء، بل العكس تماما، إذ أن الصور التي استنطقها المخرج عبر رؤيته النافذة حركت القماش وأصبح مولدا للصور المتشظية والتي لا يجمعها إلا توحد الأداء الذي يتوحد أحيانا ليشكل فعل إدانة ، ويتشظى بفعل فرش هموم كل شخصية ومعاناتها ورفضها للموت والإرهاب ، وكان الوعي بتشلات صورية ناقلة للواقع بطرقة فنية مبهرة هو من أهم ميزات هذا الفضاء السينوغرافي الأفقي مرة بفعل القماش والعمودي مرة أخرى بفاعلية الموسيقى والضوء، فكان كل ممثل يمتلك مجموعة من الصور التي يشكلها مع القماش / صورة الموت / الرغبة بالحياة / الرفض / اللا مهادنة / الحضور / الغياب / الواقع السياسي المتلكئ / الواقع الاقتصادي المتردي / الوجود / البقاء / العدم ، وصور أخرى كثيرة بنسقها الهارموني . الذي كان التوفيق مرافقا لها لأنها شكلت حضورا احتفائيا من قبل الجمهور ، ثم صوت المرأة العراقية المغلوبة على أمرها والمضحية أبدا .صوتها المفجع / الذي أثار مرارة التلقي وعذابات الواقع، المرأة التي أعجز عن الكتابة عنها، لأنها أكبر بتضحياتها من قلمي . كان الجميع محلقا بالوجع العراقي ، مبدعا لأنه يدين هذا الوجع النتاتج عبر حثالات الدهر ، إرهابيو الحياة ، كارهو الجمال والحب والخير للإنسانية . فهذا العمل يلعنهم بروح الثقافة والفن العراقي / الديواني ، ويشكل ضربة لكل إرهاب في الحياة . العرض المسرحي ( ملف مغلق) كان منفتحا على مبثوثات صورية رائقة وجميلة قدمت قبح الإرهاب عبر جماليات رؤية مسرحية امتلكها المخرج حليم هاتف ببراعة .