هيمنة سلطة الأداء في العرض المسرحي (إعزيزة)/ حسين رضا حسين

أولى دلالات العرض المسرحي (إعزيزة) هو اشتباكه الفاعل مع مكان العرض، أو على وجه الدقة أمكنة العرض وفضاءاته في خلق مناخات خاصة ليس في استعراض الحكاية، أو في اكتشاف طاقات أداء الممثل، أو حتى في اللعب مع الوسائط المختلفة، بل في إشراك المتلقي في صناعة العرض. فالأداء هنا رسم آلية محددة لحركة المتلقي للكشف والمشاركة في منصات العرض داخل الغرف، أو في فضاءات منتدى المسرح الكائن في شارع الرشيد في بغداد، إذ يتم عرض مشاهد تنطوي على هواجس متعددة تستجيب الى إحساس بالتمزق والقهر في جوهر الحكاية كما هي في جدلية التلقي في طرح الأسئلة مباشرة لإنشاء شبكة من العلاقات ليتم احالتها الى استجابات متنوعة من الفرح، أو الأستفهام، أو الأستغراق العاطفي، أو حتى في التحريض ليس في المشاركة في طرح المشكلة بل الإسهام بالتغيير، عن طريق طاقة التغيير.
سلطة الأداء هنا تقدم مقترحاتها في تشكيل بنية العرض بأداء يتسم:
أولا: بتوزيع المشاهد على أمكنة وغرف مختلفة.
وثانيا: قيادة المتلقي إلى المشاركة برسم المشهد داخل كل منصة عرض.
وثالثا: وضع المتلقي وجها لوجه في صناعة الحدث المسرحي حين يصبح هو طرفا رئيسا في استكمال صناعة المشهد، وهو هنا لم يعد هو المتلقي المستغرق بأحداث العرض، أو المشدود إلى أداء الشخصية وتحولاتها، بل متلقٍّ، ومؤدٍّ في آن واحد.
ففي إحدى المشاهد، في إحدى منصات العرض التي تستعرض الأحداث بحكايات منفردة ولكنها متصلة بالاطار العام، يترك المتلقي أمام المرآة مصحوبا بعبارة “انظر الى من دمّر بلدك” ها انت وبدون سابق إنذار وجها لوجه أمام وجودك وحريتك، الوجود المحطم، والمدمر، والسؤال موجه لي أنا المتلقي “من دمّر بلدك!!” وأنا أنظر الى نفسي عبر المرآة. في محاولة لإحداث اختلال في كينونة المتلقي ذاته للبحث عن إجابات تخصه لوحده. فهو في انتهاك وجودي مباشر بإشارة واضحة ودالّة، وهذه هي احدى ملامح سلطة الأداء الفاعلة في جعل المتلقي طرفا مسهماً في بناء الفعل وتعقب أثره.
إن طريقة اشراك المتلقي في عملية المشاهدة هي جزء من سلطة الأداء، ففي باحة المنتدى كانت عملية المشاهدة تفرض الوقوف على المتلقي وليس الجلوس، في حين داخل الغرف تصبح عملية التلقي عن طريق الجلوس، وبذلك فان منظومة التلقي واشتراطاتها تستجيب لمنظومة المشاهدة التي صممت لهذا العرض في اختبار بناء هذه المنظومة وتفعيلها كفرضية أدائية مغايرة ، وفي الوقت ذاته وظفت هذه الفرضية عن طريق استلهام الموروث الشعبي في عنونة العرض (إعزيزة) في محاولة اشراك الجميع للتخلص من آثار هذا الشؤم الذي وقع على الجميع،  ومن ثم انعكس هذا الشؤم على كل الحكايات التي طرحها العرض سواء في غرفة رقم 1 التي تنتقد التطرف الطائفي، أم في غرفة رقم 3 التي تناولت بغداد الحلم الجميل، وخرابها، أو ما طرحته الغرفة رقم 4 من انتقاد إلى موضوع العنف ضد المرأة، وهكذا بقية منصات العرض في الغرف الأخرى. استعارة شكل (الواقعة) في تقديم هذه  التجربة المسرحية يستجيب إلى تمظهر الفرجة في خلق طقس اجتماعي في تثوير جوانب الأداء بكل أشكاله بما فيها أداء المشاركين، ذلك أن العرض المسرحي بطبيعته ذات طبيعة طقسية. أو كما يسميها المخرج بروفورمنس لخلق التفاعل بين المتلقي وفريق (إعزيزة).
والواقعة هي أحدى الاشكال المسرحية العالمية الذي تجذّرت عند المسرحي الأمريكي (الآن كابرو) في مسرحيته (18 واقعة في 6 أجزاء)، ومن ثم تم توظيفه من قبل مخرجين متعددين ومنهم البولندي (تاديوس كانتور)، إذ تتميز الواقعة بسمات متعددة منها، ان بؤرة الحدث مرنة ومتنوعة، والعرض يتم في أمكنة متعددة، بمعنى مغادرة العمارة المسرحية التقليدية، ومظهر العرض يصبح جزءاً جوهريا من التجربة الأدائية، احساس الممثل بانه لا يؤدي دورا، إنما يبقى هو نفسه في نسيج التجربة، وهي كلها سمات أسهمت في الاستحواذ على اهتمام المتلقي، ومن ثم الأندماج في أداء التجربة. أي ان المسافة الجمالية هنا بين الطرفين تصبح تفاعلية من مشاهدة الى مشاركة. والمشاركة هنا ثنائية، آنية أي في لحظة المشاركة في صناعة العرض، والمشاركة المؤجلة التي تبقى أثرا محمولا في بنية المتلقي التكوينية. ان المشهد الأول الذي جرت وقائعه في باحة المنتدى والذي تم تأسيس مشهديته بشكل قصدي بغرض تفاعل المشاركين جميعا بصريا، وحركيا، وثقافيا، وبكسر كامل للمسافة الجمالية بين الطرفين عن طريق الأغاني العراقية ومن ثم مجموعة أحداث متحركة تنطوي على مشاجرات وألعاب تصحبها مؤثرات موسيقية صاخبة تنطوي على ايقاعات راقصة تحمل مؤشرات للدخول في اشتباك مع الملفات التي سيتم عرضها في المشاهد التالية. وبعد انتهاء هذا الفصل والتمهيد للمشاركين عن طريق التراكيب البنائية في خلق مرئيات تعبيرية بفعل مهارة الأداء لكل العناصر المفاعلة، ومن ثم امتداد الخطاب بمدركاته الجمالية لتبدأ رحلة الانتقال الى أمكنة العرض الأخرى في غرف منفصلة يقودهم المؤدون لعرض حكايات العرض المنطوية على هموم يعاني منها الجميع ومن ثم الاحتجاج والتمرد عليها. إذ اختفت بنائية الحبكة التقليدية، واختفى البطل الذي يقود الأحداث لتحل محلها اشتراك المجموعة في بناء الحكايات المتعددة وعرضها في مشاهد متنوعة لخلق طقس درامي واجتماعي في توظيف كل الوسائط المختلفة من مؤثرات صوتية، وموسيقية، واستخدام شاشات العرض وغيرها بالتزامن مع تعددية أمكنة العرض للمشاركة الجماعية. إن كسر أفق التوقع لدى المتلقي، واشراكه في ملء الفجوات والثغرات في سردية العرض كانت إحدى ملامح جماليات التلقي في أداء هذه التجربة المسرحية. إن شفرات العرض تم تصميمها لتحرير المشهد من كل ممكناته التصويرية والذهنية بغرض تأسيس منظومة مرئية وحركية متداخلة يسهم المشاركون في صناعة الأثر الجمالي المترتبة على ذلك. إن إرادة الاحتجاج والرفض الذي انطوت عليه ثيمة العرض في السرد الحكائي، بملفاتها المتنوعة في تعرية الانتهاكات التي يتعرض لها الانسان يوميا، وفضحها تمفصل في السرد المرئي والحركي والعاطفي والمعرفي بين اللاعبين جميعا، فريق العرض والمتلقين. سلطة الأداء في (إعزيزة) قد هيمنت في مدّ جسورها الى المتلقي، ومن ثم في إغرائه بالدخول في لعبة العرض والاشتباك في الموضوعات المطروحة، وبعضها موجه إليه بشكل مباشر بغرض بناء منظومة التلقي عند المتلقي كونه مشاركاً رئيساً في بناء العرض المسرحي بالتداخل مع المنظومات البنائية والعاطفية والجمالية التي تبنتها (إعزيزة) في إذكاء روح الرفض، والاحتجاج على هذا الوضع المدمر لوجود الإنسان في إنسانيته ومن ثم التمرد بدافع التغيير.
 
حسين رضا حسين (اكاديمي-العراق)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت