تراجيديا عراقية وأداء كوني / مبعوث مجلة الفرجة صادق مرزوق (العراق)

على مدى سبعة أيام كانت الفرق المسرحية لمحافظات الوسط والجنوب تتنافس على جوائز “مهرجان المسرح العراقي ضد الإرهاب ” للفترة من 9-15 حزيران. قدمت ضمن هذا المهرجان عروض متفاوتة في المستوى الجمالي ولكنها اتفقت من حيث المبدأ على الالتزام برسالة المهرجان في الوقوف مع الحشد الشعبي في حربه المقدسة ضد الإرهاب, وأن يكون الجمال في مواجهة قبح الإرهاب.. عرض مسرحي ترجم هذه المفاهيم , وكان المصداق الأقرب لما أراده المهرجان. إنه عرض مسرحية ” هل تسمعني.. أجب” لفرقة ميسان. وهو من تأليف: ماجد درندش وإخراج خالد علوان. كان هذا العرض تراجيديا عراقية بامتياز, لم يعتمد التلفيق في استدراج عاطفة التلقي , كان تعاطف الجمهور وبكاءه عفويا .. لحظة صادمة اعتمدها العرض , في مشهد الطفل وهو يبحث عن الأب الشهيد ليخبره بنجاحه في المدرسة. المؤلف هنا توقف عن السرد, المخرج عاجز عن خلق صورة مبتكرة تتساوق مع هذا الحدث, الطفل فقط وحمله للشهادة وهو يبحث عن الأب يكفي لإنتاج تراجيديا عراقية غير مستوردة أو ملفقة . تراجعت عند هذه اللحظة آلياتنا النقدية في البحث عن جماليات تفكك هذا الفعل الحركي لتحيله إلى مرجعيات نقدية .. الكل كان عاجزا عند هذا المشهد, لأننا كنا أمام تراجيديا عراقية مبتكرة. هذا ما كنا نكتب عنه في مباحثنا حول مسرح ما بعد 2003. فقد كتبت حينها في صحيفة الصباح الجديد مقال بعنوان ” المسرح العراقي وتداعيات الحرب” ضمن بحثي في (العرض الشعبي والتجريب) والذي نشر على شكل حلقات في بعض الصحف العراقية الورقية والالكترونية ,ثبتُّ من خلال المقال ملاحظة مفادها أن اغلب التوجهات والمدارس الفنية والأدبية هي وليدة الأزمات , حيث أنها ظهرت بعد الحروب الأهلية في أوربا وبعد الحربيين العالميتين.
ونحن في العراق وبعد حروب متناسلة وحصارات وأزمات متواصلة , أما آن لنا أن نؤسس لمسرح عراقي يبتكر توجها فنيا وأدبيا, وأن نكف عن الركض خلف آليات فنية وأدبية وافدة .. تأخرنا كثيرا لأن نكتشف, ربما يكون هذا المهرجان هو لحظة الاكتشاف لتأسيس توجه عراقي خالص في الأداء الفني. وقد تكون مسرحية ” هل تسمعني.. أجب” منطلقا لو وضعت ضمن دراسة مختبرية واعية, وأن يكون المسرح العراقي له هويته العابرة لحدوده الجغرافية, أن ينطلق العرض بلمسات ثقافة شعبية تمثل التنوع الثقافي العراقي الذي ينسجم مع الثقافة الكونية.
الاكتشاف الثاني في هذا المهرجان وهو الأهم ,أطلقت عليه ” الأداء الكوني الحر” للفنان حسين ياسر الممثل والمخرج في مسرحية” سيكزوفرنك” لفرقة مسرح كربلاء. هذا الممثل شكل ظاهرة بعبوره لمنطق الحالة, لأنه صار محطة اتفاق الجميع , ممثل تفرد بأداء حر, لا يشبه أي أداء عراقي عبر مشاهداتنا المتواصلة. التمثيل العراقي ثابت غير متحول في الغالب, ويشكل توجهان في الأداء المنمط , الأول يعتمد استعارة الصوت وقوته في مسرحيات وافدة وأن كتبها مؤلف عراقي, فهي تستدرج الممثل لأن يكون ملفقا كما هو الحال في مسرحية ” سفينة آدم” حيث وجدنا أحد الممثلين وهو يضرب بصولجانه على الأرض ويطلق كلمات مدوية تشبه بيان البيانات وكأنه عريف الحفل في مهرجان المسرح العراقي ضد الإرهاب. الصوت مستعار, لم نشعر بالاقتراب من العرض لو لا لمسات وخفة الفنان خالد احمد مصطفى.. النمط الثاني الذي يعتمده الممثل العراقي وهو الاشتغال على الجسد الوافد أيضا من عروض “مارسيل مارسو” في فن البانتومايم , أو في عروض فن التصميم الحركي الغربية. ولم نرى استثناءات إلا ما ندر. فنون الجسد العراقية معظمها وافدة وإن اعتمدت حكاية عراقية ولا أقول نصا عراقي. فللنص اشتراطاته.  ما فعله الممثل “حسين ياسر ” أثناء عرض مسرحية “سيكزوفرنك” جعلني أهمس أثناء العرض في أذن الفنان خالد ايما لأخبره بأن هذا الممثل هو المخرج, تأكد لي هذا الإحساس عندما وجدت أن حسين ياسر الممثل يقود عناصر العرض بنظام المخرج, إحساسه عالي بالزمن الافتراضي للعرض, عينه مع مجموعة الممثلين وسمعه مع موسيقى العرض, ممثل يبتكر حركة حرة, وأداء حر.. كان لي حديث بعد العرض مع الفنانة ألاء حسين وسط دهشتنا بهذا الممثل الذي لم نراه ولم نسمع به من قبل قلت لها كنت أرى فيه ملامح من الممثل التونسي في أداءه الحر. قالت نعم إنه يذكرني بالممثل التونسي والبرازيلي أيضا. ربما تأثيرات أوغستو بوال كانت ظاهرة على أداء هذا الممثل .. كذلك الحال هو في مشاهداتنا لعروض روبرت ولسن ربما نرى مقاربات لها وليس تقليدا نمطيا في أداء حسين ياسر. اتفقنا مع الفنانة آلاء حسين وأغلب الفنانين الأكاديميين: أن هذا الممثل له خصوصيته في الأداء يتكأ على مرجعية رصينة لممثل يحمل ثقافة عالية ووعي مستفز على الدوام وبصيرة ثاقبة. بالرغم من هذه التأثيرات لكن أداء حسين ياسر لم يحيلنا إلى النمط الأدائي الغربي , كان الأداء يرتكز على الحركة الحرة العابرة لجغرافيا المكان حركة تؤسس لهوية كوزموبوليتانية ,تخاطب كونية الإنسان بمشاعر عراقية, وتعتمد تكوير الثقافة وكوكبة المشاعر العراقية لتقدمها بآليات جسدية متحررة . حصاد مهرجان المسرح العراقي ضد الإرهاب لابد أن يكون منطلقا لتأسيس فن مغاير وأداء حر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت