السموّ المطلق … في (ملف مغلق)..جماليات الصورة في مواجهة الموت/ حسن عبد الحميد
يقف مفهوم(الذاكرة) -وفق مبدأ تفكيكية ميشيل فوكو- على ثلاثة مساند (الهوية/القوة/والسلطة)، ومابين ثوالث هذه التمهيدات الشائعة-إلى حد ما-،وما يرتبط بينها من علاقات وتواشجات، تسعى لكي تجاور ما يطلق عليه بـ(الطيف القصصي) في مجال العلاقة مابين(القصة والتأريخ) بحسب توصيفات (روبرت شولتز)، و(الطيف المسرحي) في محراب الفنون-إن صحت الاستعارة…هنا…من قبلنا- استئنافا لدخول قصدي يداني عوالم واستمكانات اللغة البصرية المدهشة في ثنايا ونسيج مسرحية (ملف مغلق) التي قدمتها فرقة مسرح محافظة الديوانية على خشبة المسرح الوطني (11حزيران/2015) ضمن مهرجان المسرح العراقي الأول ضد الإرهاب، وهي من إخراج الفنان المجتهد (حليم هاتف) عن اقتباسات تكافؤية من نصوص كل من(علي عبد النبي الزيدي)و(قاسم مطرود).
لا يعدو أن يكون الاقتباس في أحايين كثيرة- كما في هذا العمل- مجرد عتبات ترتقي وتسمو بالنص المعروض والمتجّسد، ضمن مهارة أسلوب ونزعة جمالية محكومة بعدة عوامل وظروف تأريخية مشتركة ومتشابهة، تحددّها معطيات مكانية أو زمانية-أو الاثنين معا- تهيب بـ(ثيمة)الموضوع أن تكون وحدة متفاعلة ومنسجمة مع حيثيات وجودها، ومسبباتها، وأحيانا خواطرها وشجنها الإنساني العالي والمسكون بهواجس وامتدادات أبعد من قيمة النص المنسجم مع وحدة الهدف وطبيعة المسعى.
المدار المغلق… المفتوح
استنارات لاقتباسات تواءمت مع النسق الذهني والجمالي والمعرفي لرؤية المخرج في بناء وحداته التحريضية وتماهياته البصرية على نحو ما أرادت المسرحية كشفه من ذلك الملف المغلق والمفتوح معا، من حيث سطوة الواقع ومراراته القاسية والمتلاحقة، وتطوراته التأريخية، ثم من حيث افتراضات صانع النص(المخرج-المعد) عبر تطويع سبل مقاصده بتكفين أبطاله بقطعة قماش كبيرة بيضاء بلون الموت غطت مشاهد العرض بأكمله، من البداية وحتى لحظات تحايا نهاية هذا العمل المغامر، المشفوع بدراية حدس وعي مدرّب، وثبوت رهان حفل يفاوض على براعة وهندسة الحركة المحسوبة والموزعة من قبل طواقم تجسيد العرض سواء أجاءت تراتيلاتها مباشرة ويقظة على وفق ما تجسّد فوق الخشبة من قبل رهط متجانس من ممثلين ممتلئين حيوية رافضة للظلم ونبض داخلي يمور وهو يؤشر لحياة أفضل، أم ما قد تتسلّل متوافدا من ملاك براعة التقنيات، متمثلة بـ(سينوغرافيا) بلاغة الضوء وحكمة ثقة المؤثرت الصوتية ورذاذ المقطوعات الموسيقى، وبعض من مختارات أغاني مسموعة ومعروفة، تساوقت باللعب والشجن الحاني على ذائقة وذاكرة المتلقي، وهنا تحقّقت شرعية المسند الأول من مساند مفهوم الذاكرة لدى فوكو-كما أشرنا في الاستهلال-، من حيث مثول(الهوية) بخطوات تقدمها على باقي تلك المساند، والتي رأيناها-هي الأخرى- تتقدم لاحقا في سمو المطلق الذي تناوبت فيه حركات أبطال العرض المتخفي تحت دثار الموت جراء جرم وظلم (السلطات) الجائرة في تفّرادت ابتكارها لفنون الموت على نحو عدة مناحٍ وأشكال، فيما تتناسل (القوة) من رحم الحلم بالحياة الحقة، وتجاوز عثرات الموت المحدق بنا جميعا، وبدون استثناء، من خلال فعل وعمل الذاكرة، التي راح ينسجها (حليم هاتف) على منوال توازن وتوازي حركات الأبطال-الموتى، وهم يلوذون ويحتمون بمواضي أحلام، وتطلعات أحلام أخرى أخذت تتوالد وتنشد لوجودها بحركات تعبيرية عميقة، طيعة ومؤثرة، ساق وصمم امتداداتها واستطالاتها المخرج بنفس روح حيّة قادرة على تثمين الفعل الداخلي والغور إلى أعماق الشخصيات دون أدنى اعتماد على تفاصيل وجه الممثل واستجاباته الآنية والمتوقعة، متجاوزا بذلك سياق فهم تقليدي أضحى سلفيا في قاموس الحداثة و ما تلاها من تحديثات، ذلك الفهم المتوارث الذي كان يرى في عدم ظهور وجه الممثل عيبا كبيرا وغير مبرر، وليعطي(حليم) للمتلقي مساحات وفضاءات أوسع وأبعد للتأمل وتأويل، ومن ثم فعل المشاركة الفاعلة ما بين جميع عناصر العرض.
مباغتة المطر
لقد استطاع المخرج- المعد، وبرغم قسوة وفزع وحشة فعل الموت الجماعي- بهذا الاجتراح الفني، المهيب والمدروس بعناية وعي تراتبي، باذخ الروعة، طرّي الأناقةـ أن يطوي مسافة مهمة -جديرة بالتقييم والإشادة- من عمر مغامرة يتسع أمدها- من الآن، لكي يمتد- إلى أكثر من ربع قرن كان قد خاض غمارها المبدع الكبير د.صلاح القصب في مسرحيته الشاخصة (لير)، فيما ناور(حليم هاتف)واجتهد كثيرا في تقليب أوراق وصفحات ملفه المغلق-المفتوح ويفوز بتجاوز فخاخ التكرار ومطبات المراوغة المصطنعة، كما لو أنه راح يسير على هدي عبارة شعرية للراحل محمود درويش مفادها يقول؛ (لقد تعلمت مباغتة المطر) وليسمو-بعدها- بوثوقية عمله بخطف ملامسة حانية وساحرة استمدت شرط قوته بالكفن الذي الذي افترضه (هو)وليس كما افترضه (القصب/لير) وليكون هذا الكفن حاضرا على طول وعرض مسرحيته، وبطلا توثيقيا لمجريات ما جرى في عراق الخوف ومتواليات الموت المجاني، بشقيه (المفرد والجمع) ولم يكن الكفن مجرد غواية تعويضية لواحدة من شروط الإدهاش وكسب انتباه وثناء الجمهور، حيال جرهم نحو ذروة نهاية صاعقة أو صادمة، بل تعدى ذلك عبر مهارات مساقط الضوء التي أدار دفتها بحس وتلذذ خشوع وهيبة الفنان (أحمد سامر) فيما تعامدت الموسيقى بمحافل ذائقة ودراية الفنان(علي الساهر)، وبما يثير شهية اللّون واستثارة خلجاته العاكسة للجوانب النفسية والاعتمالات الوجدانية والمشاعراتية، دفقات التحسس الأنيق والعالي من لدن مصمم السينوغرافيا المبدع المتواصل (علي السوداني)، وتجليات أداء الممثلين وصنّاع العرض المبهر هذا(حسين ربيع/أركان فائز/جاسم كاظم/ أحمد محمد/علي حازم/صدام الشباني/سيف الدين علاء/أحمد العراقي/وزمن علي)، وبما ضمّن من قصديّة مسرحية (ملف مغلق) بإزاء وعي متبادل ما بين أطراف ملاك هذه المغامرة المجدية والتجربة المضافة وشروطها المتقنة، بمقادير الظفر بمسك خيوط ليست سهلة، وليست عصيّة-أيضا- في مجمل نزاعها الإبداعي من ناحية المقدرة على قيادتها بالشكل والمضمون الذي أتقن به المخرج عمله، لكنها-بحق- تقف على خط متواز من أعمال مسرحية كبيرة وراسخة في الضمير الجمعي لأثر المسرح العراقي، من تلك التي قدمتها فرق مسرحية محترفة في بغداد، لو تماثل العمل برمته واستمال أكثر وأعمق في مقاصده من ناحية اللجوء إلى وقت أطول- نسبيا-مما تم عرضه في المهرجان المذكور، بغية اتضاح الرؤية، وتمتين أواصر الشكل مع متممات الحركة والإيماءات المشغولة بعناية فائقة وأفق جمالي رصين.
الغياب … بتوقعات الحضور
كان للغياب القسري لجميع أبطال العرض، عدا الشاب وشخصية الدفّان والمطربة، جلال حضوره وتذبذبات توقعاته، وهذا ما زاد من قوق الشد وهواجس الترّقب لدى المتلقي، وتلك طاقة مرهونة بطول بال ونواهل صبر، سعت بالوصول إلى تمهيد حالات وحركات بصرية، تناسلت فيها غابات الأصابع، و تسلقت بها روؤس الممثلين واشرأبت قاماتها لتقص سفر عذابات ومحن وذكريات مرّة، صدحت تفرض فعل الموت بهذا القدر المحتوم والمتّورم برغبات ونزعات الحُكام والجنرالات ومن هم بمنزلتهم وتقريعاته، من سلالات العسكر على مختلف الأزمنة والعصور، فثمة استيضاحات وتواردات ووأد أحلام، غيّبها الحضور المادي- الشخصي بلوازم حضور قماشة الموت الكبيرة التي هيمنت منذ البدء وحتى جرس النهاية على جميع المشاهد،حيث تناوبت الشخصيات ما بين أشكال قبور تارة، وما بين تشكيلات متنوعة الأشكال والترميزات الحسية و الدلالية، والإشارات والمعاني.
ولعل الشرح وسرد مقاطع من حياة الأبطال-الموتى سيفسد الكثير من هيبة نسق اللوحات ومهابة ذلك العرض المتنوع، والمتدّرع بجملة من تخريجات بصرية وصورية باهرة ومكتنزة بجمال روحية عالية الوثوب والمستوى الذوقي والبلاغي، شاء لها أن تنتخي بفنون(التشكيل /التصوير/ والموسيقى) مجتمعة على خطوط متوازية تصبو لخدمة صالح المشاهد الحيّة في رحاب تلك التنويعات الحسية والبصرية الواعية لدور وأثر اللون متعشقا بالضوء، في خلاصة الوصول إلى مبتغى عرض، فاجأ الجمهور الكبير الذي غص به المسرح الوطني، بعد رفع الخامة البيضاء(الكفن) عن مؤدي هذا العرض بأن جميع الأبطال كانوا جنودا-تحديدا جنودا مهزومين- في بلاغة تورية على عسكرة المجتمع، وأن في الحرب ما من منتصر على الإطلاق، غلق المخرج (حليم هاتف)على ملفه من أجل أن تبوح أوراقه لنا عما يسكن في دواخلنا من خوف وظلم وطمس لإنسانية الإنسان.
عرض كان بحق يستحق جائزة تليق به من جوائز مهرجان المسرح العراقي الأول ضد الإرهاب، ولكن جرت الرياح بما تشتهي لجنة التحكيم، لكن(حليم) فاز بجائزة الجمهور الذي ظل مبهورا ومتابعا ومحلّقا في التشكيلات والفضاءات التي خلقها طوال عرض ملفه المغلق والمفتوح معا.