مونودراما:"دماء ساخنة في مقبرة باردة" / تأليف: عباس سلطان
* الزمان: ليلاً، ضوء خجول على ظلمة عمياء
* المكان: جانب من مقبرة، تظهر فيه شواهد ثلاثة قبور متآكلة.
* بيئة العرض: مقبرة قديمة، منسية و قبور متباينة.. برق و زخات مطر.. وأصوات حفيف الشجر العتمة كثيفة و ومضات البرق تشق ستارها أحياناً و بشكل مباغت.
*الشخصيات: محمد، لص المقابر، صوت الأم و السكران.
(رجل أربعيني يحمل كيساً بلاستيكياً متدلياً على كتفه يتكلم بصوت عالٍ وهو يمشي): لابد أن يكون لك قبر، نعم لابد أن يكون لك قبر.. أنت لا تختلف عن بقية البشر، فلابد أن يكون لك قبر.. القبر أبسط حقوق الإنسان حين يموت، فلابد أن يكون لك قبر..الناس شركاء في التراب و في ضوء الشمس و في زخات المطر.. أنا لا أتحدث عن القصور، أنا أتحدث عن القبور.. (بتصميم مباغت يشير إلى قبرين فخمين.. بصوت عالي) فلا يحق لهؤلاء و هؤلاء أن يعيشوا منعمين ويموتوا منعمين ونبقى نحن دائما بلا مأوى.. إنهم يغتصبون كلّ شيء؛ اغتصبوا القصور، و نحن نريد أن نتساوى معهم في القبور.. لا أقصد المساواة بالمعنى الحرفي للكلمة، أقصد .. أقصد أن نحتضن تراب الوطن بعد الموت بشيء من قدسية الاعتكاف السري، بوحدتنا الابديه الرائقة و لا أقصد الرخام الذي يثقل كاهل التراب دون جدوى. إنها يا أخي مسألة الإنصاف الأخير.. لم نستطع العيش فوق التراب لذا يجب أن يكون بمقدورنا أن ندفن تحته. الأرض أمّ الجميع و لن تطرد أبناءها من أحضانها، ولا يحق لها أن ترفض جثث الفقراء (يستمر بالمشي تحت المطر ثم يتوقف فجأة و ينظر للكيس ويكلمه) وصلنا لا عليك. لدينا هنا عقار ثمانون متراً اشتراها والدنا ليظللنا تحت جناح قبره المسالم..لن يطردنا منه أحد..فهذا بيتنا الجديد (يتحسس جيبه) آها.. صكّ الملكية موجود ( يتكلم بسخرية وجيعة ):هل تصدق؟! ..هل تصدق؟!.. أخيرا لدينا عقار! ( يقهقه بشكل يشبه البكاء ): هاهاهاهاهاهاها وأي عقار؟! .. عقار أبدي!.. يعني طابو!.. يؤسفني حقا يا أخي أن أخبرك بهذا الخبر السار متأخرا..قضينا طفولتنا متسكعين.. لابيت..لاوطن!( يضحك مقهقها يكاد يشرق بريقه ) ولكننا تلقفنا السعادة.. نعم تلقفناها.. أتذكر؟!. بل وأجبرناها أن تزورنا بين الحين والآخر..كنا بلهاء..كنا نصنع ما يشبهها ونعيش في وهم جميل كنا حين نصحو نسترسل في صناعة حلم موجع، لا أدري يا أخي لماذا كنا نغص بالحلم؟!. لماذا كنا نغلّف أحلامنا بسرية الصمت و الكتمان؟! ( يرفع يديه للسماء يتحسس المطر و كأنه يربط حواسه بذاكرته) تحت هذا المطر كنا نلهو بعد أن نملأ بطوننا بنصف عشاء تحت هذا المطر كنا نلهو بعد أن نملأ الأمل بحلم كامل أطفالاً صغاراً كنا..أنا الاخ الوسطاني (يقهقه بأسى) و أنت آخر العنقود و آخر العنقود حتى في بيوت الفقراء مدلل أنت المدلل: علاوي ( يستدرك على نفسه بجدية صارمة ) ليس دلالا بالمعنى الشائع. (يحضن الكيس بحنو ) الدلال هنا لا علاقة له بالحلويَات و الألعاب ولكنهم يحبونك أيها الشقي الصغير.. الجميع يحبك..
وأنا في النهاية من عليه أن يتحمل كل شقاواتك البلهاء ..حتى و إن اكتشفوا تلك الشقاوات فإنهم يضحكون (يتكلم بجدية و حدّة ) كنت أمقت كل هذا الهراء!. ربما هذه هي ضريبة كوني الأخ الأوسط.. ربما يشعل مصباحاً صغيراً.. أين هو؟. إلى اليمين قليلاً.. آه .. أين القبر؟! ( ينحني باحثاً عن مكان القبر) إنه بعد قبر أمك و أبيك بنحو نصف متر هذان هما قبرا أمك و أبيك. أحسب أن القبرين اقتربا من بعضهما بعض الشيء!. لا لا .. لا يمكن أن يفعلا شيئاً كهذا!. إنهما حصيفان جداً .. و أمي رحمها الله كانت تخشى المقابر (يستدرك على نفسه): يا عمي .. أيّ حصيفان؟!.. لا حصافة في الجنون! ( يقرّع نفسه و يلطم خدّه ثم يضع إصبعه على فمه آمراً نفسه بالسكوت و التأدب): تحشّم يا محمد، تحشّم رحم الله والديك!. أنت في المقبرة و بجانب والديك في قبريهما! (برق يضييء كل شيء و رعد يشق الأسماع و العتمة الحالكة) أرأيت؟! .. أغضبتَ شيئاً ما! اسكت .. اسكت أيها الأحمق!..و بالله عليك قل لي قبل ذلك: أقرأت الفاتحة على روح أبويك؟!.. ها؟! .. قل أيها العاق!.. أيها الفاسق!.. في الحقيقة .. في الواقع .. أنااا أنت ماذا أيها الحثالة؟!..أنااا .. كنت سأقرأ الفاتحة على روحهما الطاهرة، و لكنني قلت في نفسي: هذا لا يجوز .. هذا عقوق!.. إنهما أمي و أبي يا رجل!.. لا يجوز أن أكون بخيلاً معهما لهذه الدرجة!.. لا يجوز أن أقسم عليهما فاتحة واحدة!.. ينبغي أقرأ فاتحة خاصة لكل منهما!.. أليس كذلك.. ها؟!.. أليس البرُّ بهما يوجب ذلك؟!.. أجبني .. تفضّل أجبني .. أليس صحيحاً ما أقوله؟!..و لكنك ايها العاق التافه لم تقرأ شيئاً.. لا فاتحة و لا فاتحتين و لا إنا أعطيناك الكوثر حتى!.. إنا أعطيناك الكوثر .. لا علاقة لها بالموضوع رجاءً. القصة و ما فيها أنّي سمعت أن الشهداء في الجنة مباشرة، و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون، لذلك فهم ليسوا بحاجة إلى فاتحة ولا هم يحزنون. و لكن .. انتظر!.. أنا سمعت أن الشهداء كذلك، و لم أسمع أن أبويك شهيدان!.. نعم لم أسمع بصراحة شيئاً من هذا القبيل!.س .. ستقول لي: إنهما ماتا جوعاً و مرضاً و كمداً .. من فرط ذلك الحصار الجائر أعرف أنك ستقول ذلك. و لكن يجب أن نكون واقعيين .. فكل الناس في هذا الوطن الحبيب جائعون .. ما خلا شرذمة لو صففتهم ممددين على الأرض بخط مستقيم لم يتجاوزا طول المجارير في عاصمة الوطن. المرض؟!.. أنت أحمق، و قصير نظر.. نعم أنت كذلك!. ولأن المرض لا يكون داءً يجب إيجاد الدواء له إلا إذا كان المرضى أقل بكثير من الأصحاء .. انظر حولك و قل لي بربك: أيهما أكثر؛ أصحاب الأمراض و العلل أم أصحاب الصحة و العافية؟!. الذين لا يشتكون أمراضاً أو أسقاماً لا يكادون يملؤون أسرّة مشفى واحداً من المشافي الآيلة للسقوط!. ماتا كمداً؟!.. ما دليلك على هذا الهراء؟!.. هذه الترهات؟!..
كمداً!.. و الله شيء عجيب!.. ستقول .. اسمع، أنا أعرف ما الذي ستقوله.. ستقول: قتلوا أخانا الكبير يوسف، و اعتقلوك و عذبوك لسبع سنوات حتى قضيت تحت التعذيب، و لم نعرف شيئاً عنك و لم نستلم جثتك حتى، و لا نعرف بأي مقبرة جماعية أنت، و ها أنت جئت لتدفن بعض أشياء لأن فيها بعضاً من رائحتي! (ينفجر ببكاء طفولي) نعم نعم هذا صحيح .. و لكن علينا أن نعترف بأنهم نحجوا في جعلنا نعتاد ذلك. الاستعباد شيء واحد في كل وجوهه.. لا تنخدع بمصطلحات الترويض و التوطين و التمدن و الديموقراطية و العنصرية و الاسترقاق و الاستبداد .. كل ذلك عبارة عن مجموعة من الحيوانات اللاحمة المفترسة الضارية بجانب مجموعة الحيوانات العاشبة الضعيفة يعيشون معاً في غابة الاستعباد. إلام يحتاج الاستعباد؟!.. يحتاج إلى أن أقنعك بأن تكون جامحاً في التمسك بدينك و أن أضطرك إلى تفسيره على نحو يعادي كل البشر ثم جعلك تنقسم على نفسك إلى مذاهب و طوائف لتصير كالنار التي تأكلها نفسها .. قانون: زيادة الضغط تؤدي إلى الانفجار صحيح و لكن ليس انفجاراً بوجه ظالميك؛ إنه انفجار داخلي أشبه بالانتحار لتتمزق أشلاءً ثم يكون كل شلو منك عبداً أصبر من سندان الحداد. ألن يتوقف هذا المطر؟!. ( ينزع عن نفسه رداءه المطري الفضفاض فيظهر شعره مبللا و لحيته طويلة مهملة، ثم ينتصب بقامته واقفاً و ينظر إلى البعيد متلفتاً كأنه يبحث عن شيء ما يسمع نباح كلب ضال فيضحك باطمئنان ): الحمد لله، لا يوجد كلاب!.. نحن بمأمن.( يضرب على جيوب سترته مفتشاً ) سجائري .. أين هي سجائري؟. وجدتك أخيراً ( يخرج علبة السجائر و يربت عليها بتلذذ ثم يشعل سيجارة و يعبّ دخانها بشراهة ثم ينفثه إلى البعيد كمن يتنهد .. يتابع التفتيش في جيب بنطاله الخلفي ثم يستلّ قارورة معدنية و يتلفت حوله كأنه يريد أن يتحقق أن لا أحد يراه) في المقبرة يا أيّها الزنديق؟!.. و بجانب قبري والديك؟!.. خمر؟!.. اتفوو عليك .. و ليس فيها إلا القليل!. ( يرتشف جرعة فيرتعد بقوة.. يحمل الكيس الكبير و ينزوي في ركن المسرح ) فلننتظر هنا.. إلى أن يتوقف هذا المطر.. سيتوقف بعد قليل (يفتح الكيس و يأخذ جرعة أخرى من الخمر و يصيح منتشياً): آه .. لولا الخمر لجننت!. ( يستدرك باستغراب): جننت؟!.. ( يفتش داخل الكيس وهو يقول مناجياً نفسه ): لقد قالوا إني مجنون.. كيف تدفن من لاجثة له ثم من قال لك إنه ميت؟!. إنه في السجن .. هذا مرجح و ليس يقيناً. هناك سجون كثيرة ..سجون سرية .. في وطننا الحر الجديد!. ألم تسمع بها؟!.. و قالوا أشياء كثيرة أخرى، قالوا أنت من تقصر في البحث عنه. و قالوا إنني أريد أن يموت ليرتاح بالنا. و قالوا لا تتعب نفسك في البحث عنه.
نعم هم قالوا إنني مقصر في البحث عن أخي، و قالوا لي لا تتعب نفسك في البحث عنه!.. و اعلم أنه ليس عليك أن تغضب أو تحتد من أقوالهم، بل يجب عليك أن تمنح نفسك فرصة للإشفاق عليهم، بل يجب عليك التواطؤ معهم فيما يقولون بالإقرار بذنبك فيه و تقصيرك الفادح!.. الفقراء يقولون .. هذا كل ما يملكون، ألا تذكر.. ؟!..عندما مات سعيد مؤذن الجامع طعناً بحراب البنادق و هو يدافع عن صبيحة ابنة الداية أم فوزي حين اعتدى عليها مجموعة من الجنود الأمريكان و هموا باغتصابها!.. الفقراء قالوا: إنّ سعيداً هو الملوم و قد رمى نفسه في التهلكة، و لاموا صبيحة أيضاً لأنها خرجت من البيت وقت الغروب لتتسوق الخضار !.. الفقراء واقعيون في كل شيء؛ واقعيون حين يحمدون الله على حالهم، واقعيون حين يعترفون بعجزهم، واقعيون في كل شيء .. كل شيء، يبالغون فقط في قواهم الجنسية! ( يجلس و يسارع بإشعال سيجارة أخرى و يشبك أصابعه يديه فوق رأسه) طيب ماذا افعل؟!. لقد بحثت عنه في كل مكان لم يبق شبر واحد في الوطن إلا وبحثت عنه فيه. ونشرت صوره في كل الجرائد (يستدرك قوله على نفسه): ليس في كلها في معظمها..سافرت في كل الطرق الموحشة.. حتى بطرق الموت سافرت .. هكذا تُسمّى. بحثت بين الجثث عن ملامح لوجه أخي الصغير ولم أجده.. حتى أني لم أجد جثة تشبه نفسها؛ عيون جاحظة و أجساد متفحّمة..إنهم يزورونني في منامي عيون الجثث المطفأة روائح الموت .. ترهق أنفاسي نظرة استسلامهم للموت لا تزال عالقة في ذاكرتي إنه موسم الموت.. والناس تبحث عن ذويها رجال ونساء.. كبار و صغار وكأن الوطن يبحث عن أهله ( يصمت قليلا ثم يهمس بيقين): لكي تكون من أبناء الوطن يجب أن تموت عند أقدامه. لم يكن بوسعك ألاّ تحضر عرس الموت يا أخي و لا تموت. (يصرخ بقوة و هو يحتضن الأشياء أخرجها من الكيس ثم يجهش بنحيب عميق) ألم أقل لك: لا ذهب..! عش عرس الحياة فإن عرس الموت ملاقيك .. ملاقيك (يجيب نفسه وهو يقلد أخاه فيمشي بزهو و يغير صوته):لا تكن جباناً.! لن يحدث شيء.. و على كل حال المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين.(يرد بصوته بعصبية الأخ الأكبر): و المكتوب ما منه مهروب..! و كل شيء مقدّر و مكتوب..! و لا أحد يموت قبل يومه..! (فجأة يصمت ثم يشهق كأنه اكتشف أمراً) قتلوك.. لأنك كشفت عورة ضعفهم الصمت عورة يكشفها الكلام كان لابد أن يقتلوك!.. كلُّ شيء فيك يستفزهم؛ جرأتك، صبرك، زهدك فيما يقتلون لأجله، أحلامك البسيطة التي تشبه الأفكار الممكنة التحقيق.. أم قتلوك لأنك طولك المفعم بالحياة استفزهم؟!.. استفزهم شبابك و عنفوانك ربما!.. أم .. أم بسبب بسمتك العنيدة؟!.. لااعرف إن كان عليهم فعل ذلك؟ (أصوات لأقدام .. يعلو الصوت شيئاً فشيئاً يخالطه غناء متهدج لرجل يترنح ثملاً سكرانَ .. يقترب الرجل السكران من يسار المسرح و هو يغني و يغص بسكره ): لاخبر، لاخبر لا مبتدأ لا.. حامض حلو لا شربت لاخبر، لا دروية بالقبور انتشرت (يعطي ظهره للجمهور و ينزل بنطاله و يبول و هو مستمر بالغناء ثم يتأوه مرتاحاً وهو يرفع بنطاله و يوضبه على نحو عشوائي و يمسح يده اليمنى بعضده الأيسر و يخرج قارورة خمر لم يتبق فيها إلا القليل فينظر إلى السائل و يتجرعه دفعة واحدة و ينفض القارورة فوق فمه ثم يغمض إحدى عينيه لينظر داخلها ثم ينظر إليها ملياً ليتثبت أنها فارغة تماماً ثم يقول مترنحاً): الغش وصل إلى الخمر أيضاً!. المفروض ألا يدخل الغش و قلة الضمير إلى الأمور المحرمة!. الخمر رجس من عمل الشيطان.. أليس كذلك؟!..رجس مغشوش.. رجس فيه قلة ضمير!.. قارورة الخمر تنفد بسرعة هذه الأيام.. أليس هذا غشاً؟!.( يغني من جديد ): لا خمر، لاخمرلا، جفيّةلا، حامض حلو لاشربت قالو سواجيكم بوال انترست ( يتعثر بمحمد فيتوقف عن الغناء هلعاً و يصيح بأعلى صوته): أقسم بالله العظيم نويت التوبة، هذه أول و آخر مرة أشرب خمراً (يكتم محمد ضحكه و يتمادى في إيهام السكران) و لكن لابد أن أقبض روحك الآن.. أنا مأمور بذلك. ( يصفعه السكران بقوة و يقول بتهكم و لامبالاة ):و ماذا تنتظر؟!.. اقبضها حالاً .. ظننتك من المخابرات. (يمضي السكران و هو يغني غير عابئ بشيء ): لا خطر.. لاخطرلا، جنية لا، حافر قبر، لا ( يختفي الصوت في الظلام .. يضرب محمد كفاً بكفّ و يقول متحسراً ): ليس الموتى في القبور تحت الأرض فقط!.(يفتح الكيس كأنه يتحقق من الأغراض التي فيه.. يتنهد من أعماقه و يكمل و هو يحدث الأغراض ): عدت إلى البيت محبطاً، منكسراً، تكسوني مرارة موجعة من أقصى حلقي إلى أقصى أنفاسي..بكيت..و بكيت ولم أجد طريقة أغبى من البكاء لأتخلص بها من هذا القيد الذي يخنقني كنت أخجل من صورة والدي المعلقة على الجدار.. كنت أخجل من صندوق عرس أمي الرابض في زاوية الغرفة و عليه سجادتها التي كانت تصلي عليها. كنت أكلم تلك الصورة و الصندوق و سجادة الصلاة كالمجنون.. ماذا أفعل؟ ( يصرخ و يعصر شيئاً ما داخل الكيس) ماذا افعل؟! ( يقف، ثم ينحني على الكيس، يقلب ما بداخله وهو يدور حول نفسه ) لم أجده..الأيام تجري بسرعة.. ولم أجده السنوات تمر كالبرق.. كلّ ما استطعت فعله أني أسميت ولدي البكر على اسمه.. أسميته علياًّ (يقلّب الأشياء داخل الكيس و يتصاعد لهاثه): لا.. هذا ليس كل شيء.(بصوت عال متقطع) هذا ليس كل شيء لابد أن يكون له قبر.. نعم بدون جثة.. نعم لابد أن يكون له قبر (يصرخ) أنتم أنفسكم لطالما قلتم إن الجثة ليست كل شيء الجسد كتلة لحم سخيفة لا تعني شيئا
بعد الموت..أنتم قلتم ذلك مراراً حتى إن رائحة الجسد بعد الموت نتنة سوف تتلاشى. و قلتم إن الروح هي الأهم .. حسناً .. أنا أحمل روحه..الروح أهم من الجثة..أنا أحمل روحه..أنفاسه ما تزال تعطر قمصانه الجميلة أنا أحمل ذكريات الطرق التي سلكها و أملك أشعاره المكتوبة .. في دفتر النسيان هي أيامه .. ولياليه..وكل ساعاته .. وكل تفاصيل دقائقه البسيطة العذبة سأدفن ذكرياته (يقلب الكيس فتتناثر أشياء) هذه رسائله إلى امرأة لم تقرأ بعد..وهذه ساعته الجميلة وهذه زجاجة عطره..ووشاح بنجوم العلم وهذا قميصه الأبيض الذي كنت أستعيره منه خلسة (يفتش في الأغراض) و ألبوم صوره (يقلب الصور) صور رائعة تخلد الأمكنة أرجعه حنينه إلى بلده الذي أبحث فيه الآن عن قبر يحضن بعض بقاياه (يصمت قليلا.. ثم يقول): أحتاج إلى معول أو إلى شيء أحفر فيه .. أيّ شيء (يتلفت يميناً و شمالاً بشكل محموم.. يتساءل ):ألا يمكن أن أجد حفار قبور هنا؟.( يجيب نفسه) لا لا فقد تأخر الوقت ثم إنه سيطلب مني شهادة الوفاة ماذا سأقول له؟!. سيسخر مني .. و ربما يحاول القبض علي الكل نيام .. الكل نيام..حتى الموتى نيام لابد أن أقوم بدفنه بنفسي و فيما بعد .. سأدفع نقودا لأحدهم ليصنع للقبر شواهد منحوتة لائقة و سأعلق عليها أجمل صورة له (ثم يفتش بين القبور، فيتعثر بشيء فيرفعه فيبدو كمجرفة) إنها مجرفة مكسورة و لكنها تفي بالحاجة (يحفر بعزم و همة ثم ينتصب و يأخذ نفساً عميقاً ثم يقول متذمراً) إن رائحة البخور مقرفة يا للباعة الجشعين .. إنهم يغشون حتى الموتى ( ثم يتأمل القبور.. و يخاطبهم ) أيها الصامتون.. يا أحباب الماضي..أعتذر إن أزعجتكم.. لن يطول الأمر (يكلم قبر أمه ): أمي لقد أرجعت صغيرك إليك. أبي لقد وفيت بعهدي الذي عاهدتك عليه ( يكمل الحفر) لابد من بعض التراتيل على الموتى تلاوة بعض السور القرآنية .. أو بعض الآيات .. لا أحفظ شيئاً منها. لابأس .. ادع بعض الأدعية التي تخطر على بالك أو بعض الوصايا و يجب أن ترش المكان بشيء من ماء الورد .. أو أي سائل عطري (بينما هو منشغل بالحفر و مناجاة نفسه ينتهز لص المقابر ذلك و يسرق الكيس.. لتفت محمد إلى كيس الأغراض فلا يجده .. فيصرخ بهلع ):أين الكيس .. أين اخي.. أين هو.. أين ذهب؟!. (يدور حول نفسه كالمجنون ثم يدور بين القبور.. موسيقى سريعة و صاخبة.. ظلام .. صوت صافرة حارس المقبرة.. يتوقف اللص لحظة و الكيس على كتفه ثم يسرع مبتعداً حتى يختفي .. صوت الأم: امرأة تتكلم بشكل حاسم ): لا تدفنه.. القدر لا يريد أن يدفن، يريد أن يبقى شاهداً على الجريمة، يجب أن تبقى دماءه ساخنة ..كفاك معاندة للقدر..(ظلام اشتداد الصوت المطر و كذلك البرق و الرعد و نذير عاصفة قادمة).
تمت بعون الله