إلى أين تأخذنا الدراما التليفزيونية؟ / د. حسن عطية

           (2) ما الذي حدث لليهودي المصري وما الذي حدث منه؟ 
 
من السهل إدانة المسلسلات المعروضة حاليا على شاشاتنا  التليفزيونية، بالتوقف عند مشاهد الفراش وتعاطى المخدرات، وإبراز جمل الحوار  المسفة والمبتذلة وإدانتها، وقد شنت يعض الأقلام خلال الأسابيع الثلاثة الماضية حملة شرسة ضد الدراما المصرية، مغلفة برؤية أخلاقية، بدء من حلقة فى برنامج لإعلامي كبير، هاجم قبل رمضان بيومين الدراما الجديدة، منطلقا مما شاهده من لقطات فى (البروموهات) التى تعلن بها القنوات عن المسلسلات التى ستعرضها، وتختار فيها أكثر المشاهد عنفا وأشدها إغراء، لجذب الجمهور والإعلانات لشاشاتها بعد أن دفعت الملايين استحواذا  حصريا وغير حصرى لها، ووصولا لأن يكتب الأسبوع الماضى أحد الكتاب فى مجلته الوقورة مقالا يسب فيه هذه (الدراما) مستخدما  فى عنوانه نفس اللفظة القبيحة التى استخدمتها ممثلة فى مسلسلها !!  وتغافلت هذه الأقلام عن وجود مسلسلات جادة وسط هذا الركام من الأعمال، ولم تنتبه إلى أنها تدين مشاهد ولقطات مقتطعة من سياقها الدرامي والفكرى، كما أنها تناست أن البعض من هذا المسلسلات المليئة بالعنف والبذاءة المرئية واللفظية هو امتداد منطقي لأفلام العنف والبذاءة التى عرفتها السينما المصرية خلال السنوات العشر الأخيرة، ودشنت نمطها المنحط شركة إنتاجية، جذبت بقية الشركات الصغيرة لمجاراة نمطها، بل ودفعت غالبية الفنانين والفنيين للإسراع للعمل لديها، بحثا عن لقمة العيش فى زمن غابت عنه “أسيا” و”رمسيس نجيب” ومؤسسة السينما التى أغلقوا أبوابها لأنها خسرت ثمانية ملايين جنيه فى إنتاج أفلام (هادفة) فى الستينيات.
يعنى هذا أن ثمة عوامل اجتماعية وثقافية أدت لقيام صناع هذه المسلسلات ل (اختيار) كتابة وإخراج وتمثيل هذه الأعمال الهابطة وإنتاجها وترويجها، فالفن عامة، والدراما التليفزيونية حديثنا هنا خاصة، هو اختيار كما أشرنا فى مقالنا السابق، يختار فيه المبدع موضوعه ورسالته وسبل صياغته وطبيعة إنتاجه، وفقا لوعيه وثقافته وتحديده لدوره  فى المجتمع، وانتهازيته أحيانا التى تجعله يسخر موهبته لتقديم الغث الذى يطلبه السوق وتجاره، أو مجاراة نمط نجح فى جذب جمهور معين، فيصوغ أعماله على ذات النمط، مستهدفا نفس الجمهور، وهو ما أدى فى السينما إلى انحسار الخطاب السينمائى وتوجهه لشريحة محددة من الجمهور الباحث عن التسلية ومشاهدة الأجساد العارية التى كفنها المجتمع فى الأردية السوداء، والتنفيس عن مشاعر العنف الكامنة داخله بمشاهدته دمويا على الشاشة، فيلتقي عنف المشاعر مع عنف الصور داخل ظلمة صالة العرض، منتجة عنفا أكبر يتبدى دوما جليا فى سلوك هذا الجمهور خارج السينما .
**صياغة العنف: 
هذا ما دفع هؤلاء التجار لترويج بضاعتهم وبنفس الطرق على شاشات التليفزيون، مما لا تكفى الإدانة و(الشتم) فى مواجهتهم،  ويا ليتهما نجحا فى حقل السينما، وإنما لابد من إدراك أن ما يفعله التجار على الشاشات التليفزيونية هو زيادة حجم شريحة الجمهور المنجذب لهذه النوعية المزيفة لوعيه، والمطلقة لنوازع العنف من داخله فى  سلوكه اليومى، والصانعة فى النهاية لشخصية عنيفة، من السهل اصطيادها باسم الأخلاق أو العقيدة لكى تدمر مجتمعها، فالإلحاح المستمر على الفساد الأخلاقي للدراما المقدمة على الشاشات المصرية، والذى يرى الوعي المغيب أن الدولة تدعمه ما دامت توافق علي بثه، يؤدى لظهور نغمة هجوم على الدولة، تتحول على الإيدى المدربة لصرخات مناهضة للوطن وعرفات مفخخة لرموزه فى شوارعه.
من هنا لابد لنا أن نفرز هذه الأعمال المقدمة، وأن نتوقف نقديا أولا عند الجاد منها، حتى لا نسود الدنيا حولنا، واضعين كل الإبداع فى سلة واحدة، وإذا كنا قد توقفنا فى مقالنا السابق عند أحد أبرز توجهات دراما هذا الشهر / العام، وهو التوجه نحو الأساطير والحكايات الخرافية، فأننا نتوقف هنا عند توجه آخر أرتبط كثيرا بشهر رمضان، وهو ما عرف بالدراما التاريخية والدينية، والتى حبسها البعض فى قصص الخلافة وسقوطها وفى سير المتصوفة والمتعبدين، مع أن الدراما الدينية لا تستلزم أردية دينية، بل هى دراما القيم الرفيعة التى يحق لها الغرس فى كل المسلسلات، وأمامنا الآن نموذجا لها هو (دنيا جديدة) للكاتب “مصطفى إبراهيم”، مع كل التحفظات على شحنها بالمأثورات الدينية بصورة إرشادية، كما أن الدراما التاريخية ليست هى حكايات الأمس البعيد، وإنما يمكن أن تكون تاريخنا المعاصر، الذى أفسد التعليم خلال العقود الأربع الأخيرة عملية تدريسه، وشاركت مؤسساتنا الثقافية والإعلامية فى بلبلة عقول شبابنا، فلم يعد بقادر على الفصل الفكرى بين الثورة والانقلاب، ولا على إدراك حقيقة اللحظات الحاسمة فى تاريخنا الوطنى الحديث والمعاصر.
**حارة اليهود: 
من وسط هذه البلبلة الفكرية انفجرت ردود الأفعال الأولي تجاه المسلسل المتعرض لتاريخنا المعاصر (حارة اليهود)، وانحسر السؤال حول رسالته: هل هى تقديم الصورة النمطية لليهودى المصرى التى اعتادت دراما ما بعد العدوان الثلاثى على تقديمها ؟ أم تنقية هذه الصورة وتقديم الصورة الصحيحة له؟، ورغم أن لا أحد ممن كتبوا وساءلوا المسلسل لم يقل شيئا عن هذه (الصورة الصحيحة) عن اليهودى المصرى، بقدر ما كان ينتظر صورة مغايرة، تساعده فى عملية هدم الصورة الذهنية التى قدمتها الثقافة والإعلام لليهود المصرين خلال الستين سنة الماضية، هدما للأنظمة السياسية التى حكمت البلاد خلالها، بعد أن قامت هذه الأنظمة السياسية ذاتها بهدم بعضها البعض، فسرى الشك لدى الأجيال الشابة تجاه ما حدث فى تاريخها، لذا لجأ البعض من المتشككين  فى المسلسل لآخر الشخصيات اليهودية الحية العائشة فى مصر حتى اليوم، ومازالت ذكريات الأمس البعيد والحاضر المضبب عالقة بذاكرتها المجهدة عن الحارة التى عاشت فيها وتركتها منذ سنوات طوال، أو لكتاب د. “محمد أبو الغار” (يهود مصر من الازدهار للشتات) لكى يثبت أنه لم تكن هناك غارات جوية على القاهرة عام 1948، عام بداية وقائع مسلسل (حارة اليهود).
ومرة ثالثة أو رابعة لأن الفن اختيار وإعادة صياغة لما اختاره المبدع من وقائع الحياة فى بناء درامى له منطقه الداخلي، فما يقدم فى هذا المسلسل ليس تأريخا لما حدث فى حارة اليهود منذ عام بدايته حتى نهايته، فالسيناريست “مدحت العدل” لا يقوم بدور المؤرخ، وأن رجع لمراجع تاريخية، ولا هو يقدم فيلما تسجيليا يوثق فيه بالمصادر والوثائق ما حدث لليهودى المصرى زمنذاك، بل هو يقدم دراما تاريخية لإحدى الحارات المصرية فى الفترة من 1948 حتى 1956 ، حملت اسم (حارة اليهود) ولكنها لم تكن بدروبها وأزقتها مخصصة فقط لليهود، ولا (جيتو) منعزلين داخله عن محيطهم الحياتى المصرى، حيث كانت غالبيتهم تقيم خارجه، ولذا فحارة “مدحت العدل” هى واحدة من الحارات المصرية التى وجدت فى مصر وقتها، هى مثل حارات “نجيب محفوظ” و”يوسف إدريس” وغيرهما  من كتاب هذه الفترة الذين عايشوا الحياة فى الحارة المصرية قى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى، كل ما يفرق هذه الحارة عن بقية الحارات هى وجود عددا من اليهود الربانيين والقرائين يعيشون داخلها، ويحكمها منطق العادات والتقاليد والفكر الذى كان يحكم الحياة المصرية وقتها، وهو فكر كان يبحث وقتذاك عن هويته الوطنية، متحررا فى مجمله من أية نوازع تطرف عرقية أو دينية، فالمهم عنده الانتماء لهذا الوطن المتحرك للتحرر وتحقيق استقلاله الوطنى السياسى والاقتصادي من المحتل الإنجليزي .
أخرج المسلسل “محمد جمال العدل”، يلإقاع تأملى ولغة سردية هادئة، تسمح بتأمل العلاقات الإنسانية داخل الحارة، التى صممتها “شرين فرغل” مستلهمة روح الحارة وقتذاك وحميمية العلاقات داخله، وتعدد طرزها المعمارية من الخارج والداخل معا، وحدد المسلسل بداية وقائعه بتاريخ 1948 على الشاشة، مع غارة جوية على القاهرة وأحيائها الشعبية، ومنها (حارة اليهود)، فالحارة لم تكن مقصودة، بقدر ما كان المقصود التعبير عن إرهاب البسطاء فى المجتمع، وليس مهما فى هذه (الدراما) أن تكون القاهرة قد تعرضت لغارات جوية إنجليزية أم لا، ولا أن الحارة قد عرفت سير الجنود الإنجليز فى طرقاتها، وتحالف بعض سواقط بلطجيتها مع قادة المعسكرات (الأورنس) لتسهيل مهام تجارة (الرابش) والإبلاغ عن الوطنيين مغتالى الجنود الإنجليز، وإنما المهم هو حضور العدو الإنجليزي فى وقائع الدراما، فهو العدو (الأجنبى) الذى يتصدى له كل المصريين باختلاف أعراقهم وعقائدهم، وهو المثير الخارجى الذى يفجر ردود فعل الداخل بالحارة نحوه ويكشف عن معادن الشخصيات، وهو المتمركز تاريخيا فى معسكراته الأخيرة بالعاصمة بميدان التحرير (الإسماعيلية سابقا)، ويتحرك جنوده بوسط البلد عابرين لمنطقتى (العتبة) حيث توجد حارة اليهود و(كلوت بك) حيث يوجد درب طياب وحارات الداعرة.
قصة الحب ين اليهودية المسالمة “ليلى” (منة شلبى) والضابط  المصرى ابن حارتها والبيت الذى تقيم فيه “على” (إياد نصر) هى تيمة تقليدية تؤسس عليها الدراما حبكتها، وتقدم قراءة عصرية له، فهى حكاية (روميو وجوليت) و(حسن ونعيمة) و(قيس وليلى) يتفجر الحب بقلبي عاشقين، ويلعب زمن الأحداث دوره فى تدمير قصة حبهما الرومانسية، وسط ظروف أقوى من حبهما، فقد وقعت النكبة الكبرى على العرب عام 48، باستيلاء يهود العالم على فلسطين، وهزيمة الجيش المصرى، مع بقية الجيوش العربية، أمام الصهاينة والدعم الغربي لهم، وتصاعد دور الموساد مع الجماعات الصهيونية فى مصر فى نشر الأفكار الصهيونية ودفع اليهود المصريين للتعصب دينيا والهجرة للدولة (الدينية) الجديدة، وهو ما بدا واضحا فيما فعله البعض من اليهود من أفعال المناهضة للوطن والتجسس وتهريب الأموال للخارج والهجرة ذاتها للأرض المحتلة،  وبالتوازى غالت جماعة الأخوان المسلمين من حركتها فى إنشاء دولة (دينية)، كما رأينا فى المسلسل، وفعلت التنظيم السرى الخاص ليفجر ويغتال كل المعارضين له، وأبرزهم ذاك العام القاضى “أحمد الخازندار” ورئيس الوزراء “محمود فهمى النقراشى” فى نفس عام 1948 ، وبالنسبة لحارة اليهود عملت على تجنيد رجالها وشبابها لحرق منازل اليهود ومحلاتهم لدفعهم لمغادرة أرض الوطن للدولة العدو، مما أنعكس بدوره على العلاقات الإنسانية الوطنية بين سكان الحارة، وبالطبع على قصة الحب بين “على” و”ليلى”، فانفسخ عقد عشقهما، واندفعت هى بجرح رفض “على” بحبه لوطنه وتصوره أنها خانته اثناء معركته مع العدو الصهيوني، لتضحيتها الإنسانية من أجل إنقاذ أبيها من إعلان “تفليسه”، اندفعت وراء سحر كلام أخيها “موسى” (أحمد حاتم) المتعصب للسفر إلى إسرائيل، مما أشعل نيران الغضب داخله، وزاد من وتيره عمله فى لإنشاء خلية سرية لمقاومة المحتل، سرعان ما يكتشف أن ثمة تنظيما أكبر للضباط الأحرار، يرى ضرورة الاندماج فى حركته .
من مميزات الدراما التاريخية أنها لا تقدم تاريخا صرفا، بل تستدعيه لنرى الحاضر على صفحته، ولذلك فالكاتب الحاذق (يحضر) التاريخ فى عمله،  أى يمنحه حضورا حيا فى حياتنا، فرغم الإطار التاريخي من أحداث وشخصيات وديكورات وملابس وحوار بمذاق الماضى، إلا أننا نشاهد عبره ما يحدث لنا اليوم، لا نقف هنا عند موضوع التسامح الذى أخذنا البعض إليه، كأفلام “أمير رمسيس” و”نادية كامل” ومطالبتهما أن ننسى ماضينا ونثقب ذاكرتنا لكى نسمح لمن ترك الوطن، وانتسب لدولة دينية عنصرية أن يعود ونتسامح معه، وإنما نتوقف مع المسلسل المتميز وحرية الاعتقاد كامتداد لحرية الفكر والتعبير، فى وطن ننتمى إليه جميعا ونتعصب قوميا له، ولا نتحول فيه إلى صراصير تبحث عن مخابئها بعيدا عن نيران الخلاص ممن ينشرون الحقد والتعالى فى الشوارع، ويعملون على تدمير الوطن من أجل دولة دينية متعصبة، تبرر شرعية وجود واستمرار دولة دينية أخرى مناوئة .
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت