من تحت الصفر يلعب…يحلم..وأيضا يموت / خالد ايما

ما الذي يحدث عندما يُصفر الوقت والمكان بكونشرتو”جايكوفسكي” السادسة ، وبسيمفونية “موزارت” الأربعين ؟؟ ما الذي يحدث عندما نترك في هكذا وقت مُصفر ومُشفر من تحتيات الصفر؟؟.
الذي يحدث هو ما حدث لنا قبل العرض أثناء ما كنا جالسين نحملق بيقظة تامة لمؤثثات العرض المسرحي التي منحت العرض بعداً فلسفياً وخطاباً جمالياً( صورياً ) يتشكل من” تحت الصفر” بمجموعة من الدلالات والإشارات التي هيمنت على جسد العرض المفتوح بالأمل والحياة (يجب أن نكون سعداء، ستشرق الشمس ذات يوم على ليل العراق الطويل والبائس، ابتسموا من فضلكم …)، وعلى جسد النص المكتوب بكل تفاصيله اللغوية المكثفة ما بين فصحى وعامية وانكليزية اعتمدت لغة الترميز والإشارة التي تفوح برائحة الانفجار, والدمار المحفور في الذاكرة العراقية بمنظومة من الصراعات والنزاعات الإنسانية المرفقة بجدل عراقي متوتر بالخوف والجبانية (انا أخاف، أنت تخاف، الكل يخاف، انا جبان وأنت مخيف) خوفاً من كل الاتجاهات الموشومة بقراءة مفتوحة إلى ماضيات الحرب العراقية (احنه مشينه للحرب) المتناسلة عبر التأريخ بسلسلة من رجالات التأريخ والملوك والرؤساء والجنرالات، وبقراءة فيها شيء من السخرية إلى “هؤلاء في هؤلاء  الذين يقاتلون حتى النصر، والى الذين “سيمضون ونبقى” حسب معتقدات ومؤخرة (أبوعوف) الأيديولوجية التي أثارت جدلاً فاضحاً حول ما قيل وما يقال من شعارات فيها من الوهم والأكاذيب السوفية التي يراد بها تظليل الحقيقة والمتمثلة بـ ( الطرطرية) هؤلاء الذين أنزلونا أسفل السافلين، وبتساؤلات عبثية كانت تبحث من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين عن معنى الوجود الخاوي الذي تلبس بـلعنة الخوف من الذي يأتي: من أنت؟ وماذا تريد؟ كم عمرك؟ أين سأموت؟ وكيف سأموت؟هل تشعر بشيء ؟هل تحلم؟ هل تنتابك كوابيس؟ أين كنت في التاسع من أبريل؟ لكن ما يثيرنا في هذا العرض هو عراقيتنا (الشرقية) الضائعة والمشلولة باليأس والإحباط والتأمل والضياع الذي قادنا منذ قيامة العرض إلى أن نفقد الأمل، ونعيش عزلة العرض بجملة من الأحداث المحمولة ب(هياكل بيضاء) عبارة عن أشباح ماضية واقفة (ميته) زرعت فينا الخوف والفزع منذ أن استيقظت (الأطياف الباردة) من موتها بطريقة غريبة فيها من الخرافة والرعب الهيتشكوكي؟؟ الموت الذي سكر أبوابة وسطوته على مجمل إحداثيات العرض .. هذا الأخير الذي لا يعرف طعماً ولوناً للراحة والطمأنينة جراء ما يحمله لنا من موضوعة نصية مشتته تكاد تهيمن على سياقات العرض المسرحي الذي هو الأخر بدأ مشتتاً وضيقاً بموضوعته التي لا تريد أن تغادر المكان العراقي المفجوع بماضيات تاريخية موشومة بالحرب والهزائم والانكسارات حيث الثالوث المقدس (الخوف واليأس والإحباط) هو من أفترس العرض بمساحات ضيقة منحتنا قراءة ضيقة للمكان الضيق (مكان اللعب) ، وبقراءة مفتوحة للفضاء الافتراضي الشاسع المؤثث ضمن قراءة “عماد محمد” المنتجة والموفقة لنص العرض حسب تعبير بارت (القارئ منتج أخر للنص) أو على حد قول تودروف ( النص نزهة يقوم فيها المؤلف.بوضع الكلمات ليأتي القراء بالمعنى) أو حسب “امبرتو إيكو” الذي يرى “إن النص آلة كسولة تتطلب من القارئ عملاً تعاونياً حثيثاً لملء الفضاءات الفارغة التي لم تطرح أو التي صرح بها من قبل”, وهذه حقيقة نستشفها من خلال معاينتنا للعرض المتخم برؤى بصرية أشبعت العين شكلاً ولوناً وتكويناً وجمالاً لعائدية النص (المكتوب) الذي منح ذاكرة العرض إلى أن يلعب ويحلم ويموت؟، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على إمكانية “الليثي” في قراءة وشم الواقع ضمن لغة الرمز المكثفة التي منحتنا إلى أن نضع العرض تحت عدساتنا القرائية ونبدأ من لحظة انفجار العرض الذي بدء بساعة نحس الكترونية (موقوته) ظهرت على شاشة العرض بأرقام حمراء(87654321000 ) تشير إلى خطورة ما يأتي إلى الذي يأتي؟ معلنتاً عن انفجار الحدث ، وانبثاق الشكل .
** يلعب.. يحلم.. يموت :
كيف لنا أن نلعب ونحلم ونموت؟ كيف لنا أن ندخل منظومة العرض المشئومة بتحتيات الصفر.؟ كيف لنا أن نكون مع خفة ورشاقة (عبد الستار البصري، ويحيى إبراهيم)) التي منحتنا درساً في التمثيل؟ تساؤلات يراد بها أن ندرك حقيقة الصفر أولا… إذن البداية من الصفر. الصفر مدور. البعض يبدؤون من الصفر، وينطلقون من الصفر، ويحددون ساعة الصفر لتحقيق نواياهم الشريرة، والبعض الأخر يدرك حقيقة الصفر(اللاشيء) من تحت الصفر في محاولة جادة وصادقة للبحث عن “المنقذ” أو ما يسمى بـ “الخلاص” ذلك الشيء الذي انتظرناه طويلاً ، ولم يأتي وكأننا في مدخل عبثي افتراضي (لا شيء يحدث… لا شيء يأتي ) أو(لا جديد تحت الشمس). إذن لنبحر في تفاصيل هذا العرض المشحون بلغة اليأس والإحباط.. لغة لا تتردد في كشف وفضح الشعارات السيا.. سوفية ؟؟ المبشرة بإعادة الأمن والسلامة والطمأنينة..لغة وقفت بالضد من الاحتلال والإرهاب والظلم والتحزب ، ولا ننسى (الصفر) وما جاء من تحته بأرقام أخذت تجري بسرعة خاطفة كلمح البصر(0000 87654321) لم نسمع من بعدها سوى دوي الانفجار الذي أفترس العرض بموضوعة “الموت” والدمار والخراب المؤسس له ضمن بقعة مكانية خربة خاوية من معنى الحياة لكن ما يبث الحركة في هذا المكان (المصفر) هو شخصية الذي يأتي إلى ذلك المكان محملاً بتضاريس مدينته التي قتلت بصوت الإنفجارات والدبابات وطيور الحب الفزعة التي لا تعرف طعماً للراحة (ليش الطيور إلي ربت بيه حيرانه؟ ) ليس الطيور وحدها هي الخائفة مما يحدث في بلدٍ نخرته الحروب والصراعات والنزاعات؟؟ بل جميع المخلوقات ومن ضمنها الإنسان الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من هذه اللعبة القذرة التي بثت أفكارها المسمومة على ارض الواقع، ولا أعرف حقيقة الذاكرة التي قادتني إلى أن أعود إلى ماضيات الحرب عندما كنت جندياً خرباً وخرتيتاً بالمرة في منطقة صحراوية جرداء اختفت فيها معالم الحياة .ما عدا حركة الكلاب الفزعة لحظة شمها صوت الطائرات المقاتلة وهي تركض بسرعة مذهلة خوفاً من الموت القادم إليها نجدها تدخل الملجئ (الحفرة) قبلنا لنكون معاً في خوفنا ورعبنا و قدرنا المجهول الذي سيأتي ألينا دون موعد وإنذار مسبق ، وكأنه القطار الصاعد الذي كنت أشاهده في تصحراتي.. ذلك الشيء الذي لا يصدق يظهر فجأة ويختفي بلوعة قاسية تاركاً لنا بصيصاً من الأمل حيث الشمس والسماء، وقصيدة السياب التي هي الأخرى تمر غلت في تصحراتي الذهنية (الشمس أجمل ما في بلادي من سواها… والظلام.حتى الظلام ..هناك أجمل.وهو يحتضن العراق)، وهذه الحقيقة تكاد تقترب من بداية ونهاية العرض الواقع تحت ضغط ثنائي أحدهما يمثل “الموت” والأخر يمثل “الحياة” بكافة أطيافها وألوانها المفعمة بالأمل والحيوية والسعادة. الحرية التي عرضت بطريقة سينمائية فيها شيء من الخصوصية التي كسرت نوعاً ما “عبثية”و”تشاؤمية” العرض)الشمس تشرق،ما زال الوقت مبكراً، الأمنيات السعيدة ،…الخ) وفق قراءة المرجع (النص الأول) المشحون بالغموض الذي جعل من مايسترو العرض”عماد محمد” ان يعيد قراءة النص ويملأ الفضاءات الفارغة على طريقة قارئ “ايكو” ، وهي في الحقيقة كتابة جديدة للنص وفق رؤيا ومكاشفة مفضوحة بثت ترسيماتها منذ يقظة العرض بتقنيات صوتية و صورية وجسدية هيمنت على منطق وعقل الحوار الساخن بشعارات سياسية مباشرة (سيمضون ونبقى، نعيش ويموت الشرف ، نموت ويحيا الشرف(رف)، أنزلونا أسفل السافلين..ولكن بشرف ، ……..الخ) ولكن السؤال الذي لا يجد إجابة حقيقية في مجمل حوارات العرض الهجين هو: لماذا الموت؟؟لماذا نموت ويحيا الوطن والشرف والتأريخ والملوك والرؤساء والجنرالات.؟؟.
** سينوغرافيا العرض: ـ
منذ الوهلة الأولى يكاد يمنحنا العرض فضاءاً مغلقاً ومغايراً لفضاءات النص المقروء الذي حجم ذاته بذاته عن طريق لغة الرمز المكثفة التي لم تستطع أن تفتح مغاليق النص المكاني الذي اثر بسياقاته المتحولة والمتغيرة دائماً على تحديد وغلق جغرافية مكان العرض المسرحي بأرضية مفروشة بالتارتان الرياضي وكأننا في ملعب متعدد القراءات ..مره نجده ملعب لكرة القدم ،ومرةً ملعب لكرة السلة، ومرةً نجده مكاناً للمنازعات والمهاترات ، وحلبة صراع، ومرة نجده خرباً بأشباحه المتدلية التي هيمنت على وجودنا ، ومرة نجده مكاناً مقدساً لا يقبل القسمة على ثاني أثنين: الشرق(البلد المحتل) والغرب(المحتل نفسه)، ومرة نجده مكاناً مغتصباً … وبتعدد هذه الرؤى المكانية الدقيقة والمفصلة للحدث المسرحي بكل اختراقاته وتشعباته التي لم ولن تتجاوز مربعات وإبعاد مستطيلة وأحيانا دائرية تكونت برؤية “عماد محمد” السينوغرافية الذي فهم النص أحسن من الكاتب نفسه كما يقول المفكر الألماني (شلاير ماخر) ، وهذا ما حرك العرض ضمن مربعين مستقرين ما بين جهة اليمين التي أسفرت عن حركة دائمة غير مستقرة ضمن المربع المرسوم لها، وجهة اليسار المتمركزة بحركة سريعة تنحصر من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بحركة مخترقة الوسط واليسار،مع وجود دائرة حمراء في المنتصف وهي بمثابة النقطة(المنطلق) او البداية المتمركزة وسط مكان العرض، القاسم المشترك ،وباعتقادي الشخصي أجد إن هذه الدائرة يمكن أن تكون مركزاً للكون ، ويمكن أن تكون نقطة شعاع دالة على ان نكون ضمن نطاق التغطية ، لا أن نكون خارج التغطية مابين ماضيات (عبد الستار البصري) الرجل العجوز الذي لا يريد أن يكون معه احد لا في الدنيا ،ولا في الآخرة( الجنة) يعيش في خراب الذات والروح والجسد( ما من ملاذ امن لرجل عجوز في هذا الزمان), وبين حاضرات الشاب(يحيى إبراهيم) الانفجار ، والكتل الكونكريتية، والركض حتى الموت( ما من شيء…سوى الموت)بحثاُ عن الحي الشرقي الذي ضاع في سوهو الغرب ،وما بين شرقية المكان وغربية المحتل يأتي الضياع بهذا السؤال: هل هذا هو الشارع(الحي) الشرقي؟؟ ، ولا ننسى التشكيل الضوئي الملون ما بين الأحمر والأصفر والبنفسجي المتربع في ساحة العرض المسرحي ، الذي جعل من العين ان تسمع والأذن ترى فارضاً علينا عطراً ضوئياً نشمه بقدر ما نشم َرائحة الموت والخوف واليأس والانكسار والاغتصاب والعزلة التي هيمنت على ذاكرة (المتلقي) لولا التغيير الذي حصل في المشهد الأخير (اللقطة المصورة) الذي زرع الأمل فينا منذ سقوط المطر، وعملية الاستحمام التي هيئت الجسد إلى أن يغتسل ويتطهر بماء الحياة ،و يرى الشمس وهي تشرق ويتنفس الصعداء ذلك الفضاء الشاسع الذي منحنا إياه المخرج(عماد محمد) من على شاشة العرض السينمائية التي أبعدتنا بعض الشيء عن أرضية وروحية العرض المنغلق وسط عزلة مدمرة وخاوية بماضيات ثقيلة بالهزائم والانكسارات …ماضيات لا تريد ان تتغير ، ولا تريد أن ترى الضوء لولا حاضرات (عماد محمد) المفتوحة للنص واقصد العرض الذي أيقنا من خلاله إن الوقت مازال مبكراً وبارداً ، وان الأمنيات السعيدة قادمة لتكون الخاتمة مشرقة بهذا الحوار: (أنها ثلاث درجات تحت الصفر…لا تقتلوا الورد…لا تقتلوا طفلاً..كلنا سعداء لأننا متشابهون، أسمع أجراس الميلاد…اجتمعنا في الألفية الثالثة ..يا لها من سعادة….مازال الثلج يتساقط ..عالماً بارداً تحت الصفر…نحن سعداء ..لا يمكن أن أتصور مقدار سعادتي …يجب أن نكون سعداء…ابتسموا من فضلكم.
نعم ها نحن نبتسم ونبتسم ونبتسم لنكون معكم جسداً وروحاً طيبه من “تحت الصفر” والى “ما بعد الصفر
How are you
أنا أبو العوف
NO
You are
لا تصرخ
مسرحية:”تحت الصفر؟؟؟ SUB ZERO “ تأليف : ثابت جواد الليثي سيناريو وأخراج : عماد محمد تمثيل: عبد الستار البصري يحيى إبراهيم
 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت