نص مسرحي:"بنات نعش"/ تأليف: فاتن حسين ناجي
( طرق على الباب يتزايد شيئاً فشيئاً، ثم يتحول إلى ضجيج وكأنه دوي سلسلة من الانفجارات، يهدئ الصوت لبرهة ثم تتساقط ثلاث أجساد من سقف الغرفة على الأرض)
زمان: لـِـمَ المفتاح دائماً في عتمة زوايا ذاكرتكن؟
دنيا : أنا متأكدة أني أحضرته معي ووضعته بين أناملي خشية عليه من الضياع
زمن : لكنه ضاع !
حياة: وأنت يا زمان .. أين هو مفتاحك ؟
زمان: امتلك الكثير من المفاتيح.. عبثاً باءت محاولاتي بأن أجده بين كومة ذلك الحديد الصدئ.
دنيا : لا تتفاخري بكثرة مفاتيحك، امتلكتها يوماً، وها أنا اليوم لا املك سوى مفتاح واحد أخبئه بين طيات جوارحي ودائماً يختفي عندما أكون بأمس حاجاتي إليه .
حياة : وأنا خبأته يوماً بين أكوام الغبار المتراكم ومع أول هبة نسيم جاف تطاير مع رذاذ السنين.
زمان : (تتطلع صوب المكان ) ليس هناك سوى هذا الكرسي .
دنيا : نعم إنه كرسي واحد، كنت أظن أنها ثلاثة كراسي كما أخبرتنا صاحبة المكان
حياة: لو كانت الكراسي ثلاثة لما وجدنا الباب موصدة
دنيا : ماذا تقصدين؟
زمان :دائما لابد أن يكون هنالك ثمة كرسي واحد لتشكل الصراع حول السلطة الأبدية.فإن تعددت الكراسي تعددت السلطات بحد ذاتها
حياة : أظنها أرادت أن يكون هذا الكرسي لمن تمتلك مفتاح الدخول
دنيا : ولمن تسقط من السماء دون أن تكسر ساقها .
زمان : سأتفحص هذا الكرسي إن كان صالحا للجلوس .
دنيا :(تهب من مكانها معترضة طريق زمان ) بل أنا من سيتفحصه .
زمان : ابتعدي عن طريقي.
حياة : أنا الأكبر والأكثر خبرة، وعليه أنا من سيتفحص صلاحية هذا الكرسي .
دنيا : ومن أعطاك خبرة التفحص .
زمان : وإن كان لك خبرة في التفحص لما لم تتفحصي كومة الأرائك التي ارتمت فوق طريقك الكبير كما تدعين؟
حياة :(تفتح كلتا ذراعيها ) لن تمر إحداكن من هنا ومن تحاول المرور، سأقتلع رأسها عن رقبتها .
دنيا : ( تركل حياة بقوة تسقطها أرضاً تحاول زمان أن تستغل هذه المشاجرة لتصل إلى الكرسي تمسك حياة بساقها تسقطها بالقرب من الكرسي تبدو صورة الثلاث وكأنها مقطورة تتشبث الواحدة بالأخرى بغية عدم الوصول )
زمان : اتركيني أيتها العجوز، من أين لك هذه القوة على العراك وأنت بهذه السن؟
(تزحف حياة بجثتها الممتلئة بسرعة نحو الكرسي، تضعه خلف ظهرها وتبدأ بالرجوع إلى الخلف بغية ايصاله إلى زاوية المكان )
دنيا : إنك تتجاوزين حقوق الأكثرية هنا.
حياة : لقد تجاوزت الأربعين بعد أن تجاوزتني عجلة الحقوق!
دنيا : وأنا على مشارف الأربعين .
زمان : وأنا أخشى أن أتجاوز مشارف العشرين وأجدني استجدي عجلة الزمن.. إن لا تطفئ لي شمعة عام جديد .
دنيا : كنت أقبل بقايا العجل أن لا ينثر غباره فوق شعري الأسود ويغدوا بلون فراشي
حياة : أنت تخشين وأنت تقبلين وأنا لم يعد لي القدرة على الخشية أو حتى القبل … إذا أنا لي حق امتلاك هذا الكرسي
زمان : ومن أعطاك الحق .. وأنت لا تجيدين حتى القبل؟
حياة : ومن قال لك أني لا أجيد القبل؟
دنيا : ومن قال أنك تجيدينها؟
زمان : إذا … نحن الآن أمام رهان من تكسبه سوف تأخذ هذا الكرسي .
دنيا : وما هو رهانك ؟
زمان : من تجيد التقبيل أفضل من الأخرى سوف تكسب الرهان!
حياة : ( تضحك بقوة ) ومن سنُقبل؟ لا تقولي إني سأقبلك !
دنيا : هذا رهان فاسق !
زمان : بل سنقبل هذا الكرسي .
دنيا : وإن وافقناك على تقبيل هذا الكرسي فكيف سيكون الرهان؟ هل سينطق الكرسي ويقول إن إحداكن قبلتني أفضل من الأخرى؟
حياة : افترض أنه سيقول إن قبلات زمان كان هي الأكثر إثارة من بين جميع القبلات.
زمان : بل سيكون الرهان بهذه ( تخرج ثلاث أقلام أحمر شفاه من حقيبتها ) الأحمر القاتم لي والأرجواني لدنيا والبني لحياة.
حياة : وماذا بعد؟
زمان : ومن ستكون طبعة شفاها أكثر من الأخرى سوف تفوز بالرهان .
دنيا : أنا موافقة .
حياة : أنا اعترض على هكذا أسلوب رخيص في التعامل مع الحقائق .
زمان : وهل في هذا الكرسي أي حقيقة .
حياة : ما هكذا تقاس الأمور .
دنيا : أنت خارج الرهان يا حياة وأنا وزمان من سيتنافس على هذا الكرسي .
( تبدأ دنيا وزمان بوضع أحمر الشفاه بكثرة فوق شفاههن وتهلعان نحو الكرسي تبدآن بتقبيله بشراسة وقوة وكأنه قطعة لحم يتصارع عليها الجياع وبين حين وآخر تعاودان وضع أحمر الشفاه حتى تكون مساحة اللون أكبر)
حياة : اختلط الأحمر بالأرجواني لم يعد هنالك فرصة للرهان .
(تبتعد دنيا وزمان عن الكرسي بعد أن أصبح اثر الشفاه وكأنه اثر أقدام )
دنيا : إنه رهان فاشل .
حياة : لا رهان على الشفاه اليابسة .
زمان : وكيف لنا الفوز بهذا الكرسي إن لم يكن هنالك من رهان؟
حياة : الرهانات كثيرة لا يمكنها أن تكون حصراً على الإثارة والقبل .
زمان : وهل تستجدي المرأة رجلاً إن لم يكن محور استجدائها تلك الإثارة والقبل؟
حياة : أنت مراهقة لا تفقهين من الحياة شيئاً سوى الإثارة
زمان : وهل تفقهين شيئاً عن الزواج سوى هذه الأشياء يا أنشودة الإثارة؟
حياة : أشم بين ثنايا سطورك عفن من السخرية
دنيا : دعينا الآن من العفن والإثارة .. ماذا سيكون الرهان الجديد؟
زمان : أنا اقترح أن يكون ( تقاطعها حياة )
حياة : لن تقترحي شيئاً بعد الآن، باء اقتراحك الأول بالفشل لا نريد أن نخطوا وراء فشل أفكارك غير الناضجة خطوة أخرى .
زمان : هل تتهمينني بعدم النضوج؟
حياة : لا مجال لتبادل الاتهامات الآن، أنا هنا لا حصل على هذا الكرسي وأخرج حاملة معي ما سيخلد وجودي
دنيا : بهذا الكرسي ستخلدين وجودك؟ كم هو بهي ذلك الوجود الذي يخلده كرسي
حياة : ومن سيخلد وجودك إن لم يكن هنالك من كرسي
دنيا : أنا من سيجعل لوجودي خلودا
حياة : أفكارك خاطئة
دنيا : وأفكارك لا تتعدى نقطة الانطلاق
حياة : خلودك لا معنى له مع منطقك الساذج
دنيا : خلودك معلق بأطراف واهنة من خيوط الواقع
زمان : ( تتطلع تارة صوب دنيا وتارة صوب حياة وهما تتناقشان بحدة .. تصرخ زمان ) أشعر أن كلكامش سيسقط من السماء ويجلس على هذا الكرسي ويعود من جديد ليخبرنا بقصة انكيدو ونخرج نحن من هذه الباب حاملين معنا بقايا وادي الرافدين … ألا تكفان عن لعبة الاستجواب والاعتراف هذه؟
دنيا : أنا لم ارتكب جرماً لاعترف .
حياة : ولم يوجد ولن يوجد على سطح الأرض من باستطاعته استجوابي
زمان : ما زلت هكذا يا حياة واثقة الخطى، لماذا لم تحصلي على زوج كل هذه السنوات؟
حياة : لأنني لم أجد رجلا مواصفاته في رأسي
زمان : وما هي مواصفاته؟
حياة : لا أتذكر .
زمان : لقد وجدتيه الآن ( تضحك وتصفق بحرارة ) لقد وجدتيه
حياة : الرجل؟
زمان : بل الذي يستطيع استجوابك ( تضحك )
حياة : تزدادين غباء
دنيا : إن نتلحف الاتهامات ونوجهها نحو بعضنا الآخر. هذا لن يؤدي بنا إلى كسب الرهان ولن يخلق لنا رهان من الأساس
زمان: أنا لم أوجه نحوها اتهام فقط .. أردت استجوابها
حياة :ومن أعطاك حق استجوابي (تقترب حياة نحو زمان وتدفعها بقوة ) من أنت لتستجوبيني؟
زمان : لا تضعي يدك على جسدي (تركض ضاحكة نحو دنيا ) من أعطاها الحق لتضع يدها على جسدي (تضحك بقوة ) مازلنا في طور الأنوثة، لم نتعدى هذا الطور إن كانت حياة قد تعدت خطوط الأنوثة.
حياة: (تركض مسرعة نحو الكرسي تحمله بقوة وترمي به صوب زمان ) هذا هو رهاني الآن، من ستحطم رأس الأخرى بهذا الكرسي ؟
دنيا :هل جننت يا حياة سوف يتحطم الكرسي ولن تتحطم سوى أحلامنا
زمان : نعم أنا أوافق على هذا الرهان وسأسحق رقبة حياة هنا وفي هذا المكان
( يحتدم الصراع بين حياة وزمان، زمان تصوب ركلاتها صوب وجه حياة. حياة تحاول أن تقتلع شعر زمان بكل قوة، الصراخ يعلو الشتائم لا فضاء يتسعها ) ….
دنيا :(تسحب الكرسي بهدوء من بين الاثنتين تضعه في زاوية الغرفة، وتجلس فوقه وتضع ساقا على ساق وتصفق) أنا من كسبت الرهان.
( تتوقف حياة وزمان عن العراك فجأة تزحفان كالأفاعي نحو الكرسي، تتماسكان بقوة به تحاولان إيقاع دنيا من فوقه، تسقط دنيا بقوة على الأرض، سكوت لبرهة من الزمن وكأن الثلاثة يتنفسن الصعداء بعد صراع طويل، الكرسي مازال شامخا في الزاوية وكأنه عين تترقب تلك الإناث الثلاث النائمات على الأرض )
دنيا : أحسست وأنا أجلس فوق الكرسي أن ظهري يستند إلى جدار قوي يحميني من طعنات الخواء.
حياة : تبحثين عن رجل ليكون لك سندا لانحناء ظهرك
دنيا : ومن منا لا تبحث عن هذا في الرجل؟
حياة : أنا ..نعم أنا لا أريد منه حماية، أنا من ستقدم له الحماية إن شاء
دنيا : مع كل قوتنا نحتاج إلى من يسند تلك القوة أن صفعها الضعف يوما
زمان :وما هو احتياجك للرجل أن يكن قوة لك ؟
حياة : احتاج منه جذور تتشبث معها قوتي في كل مكان …احتاج إلى سند استند عليه ليكون جزءا من ضلوعي.
زمان : (تتأمل في الكرسي طويلا ، تزحف نحوه ببطء تعانقه ) احتاجه بين أضلعي ..أخشى أن اضطلع عدة أضلاع وأعود خاوية بلا جسد نظيف، لا أريد أن أتشبث بكلمات العابرين وانسجها قصة أطفأ بها ما تجتاحني من نيران
حياة : نيران عابرة
زمان : لكنها قد تأكل منك اللحم والعظم إن لم تستطيعي أن تتجاوزي حروقها
دنيا : أخمديها يا زمان ، لا تجعليها هدفا لأفكارك.
زمان : وها أنذا أحاول أن أخمدها بهذا الكرسي، لكن لا أحد يسمح لي حتى بعناقه
حياة : مخطئة من تتصور أن نيرانها ستخمد بكرسي واحد. إن لم تخمدها هي وبمبدأ لا أجزاء له .
دنيا : المبادئ لا تتجزأ يا زمان .
زمان : تتكلمن عن المبدأ والأجزاء بكل ثقة .. وأنتما تتنافسا معي على هذا الكرسي أين هو المبدأ في الدخول بمنافسة غير شرعية معي؟
دنيا : ومن أعطاها مسمى اللاشرعية؟
زمان : أنا في جل حاجتي إلى من ينتشلني من بين جمع الأرائك، أنا بحاجة إلى كرسي واحد لا غير .
حياة : وأنا بحاجة له أيضا، ليس لي في الأرائك رغبة .
دنيا :وأنا أخشى الأرائك، أريد أن انزوي معه في نهاية المطاف هربا من جمعها .
( تتقدم حياة نحو الكرسي تجلس في الأرض تجعله أمامها وكأنها مرآة تتطلع صوبها تحاكي ذاتها )
حياة : إنه يقدم لي الأبدية التي ستجعلني أمد جذوري في هذه الحياة (تتخيل طفل بين ذراعيها تحاول إرضاعه.. تقبيله …لا تجد سوى الخواء ) أنا أريد أن أكون …قدمت كثيرا في حياتي لكني لا أجد نفسي ..فمهما قدمت لها ولبقائي فلن أقدم لها أعظم من كائن يجعل مني أم (تحضن الكرسي بقوة ) أمي أنا جائع …أمي أنا خائف …أمي أنا أحب ..أمي …أمي ….أمي … أنا بحاجة إلى أن أكون .
(مازالت حياة تحتضن الكرسي تتقدم نحوها دنيا تجلس على الكرسي تتكأ على مسنده بهدوء)
دنيا : عاصفة هي الرياح ..متوحشة بتقدمها نحونا دون عوارض تمنعها عن حفر بواطن أقدامنا ..تكتشف قدمي بكل خطوة أخطوها إنني انزلق نحو الهاوية دون أن أدرك أنها هاوية لابد أن يكون هنالك عارضة على الطرق الوعرة مكتوب عليها ……توقفي هنا تكمن الهاوية …احتاج إلى تلك العوارض أبحث عنها بقدمي قبل أن أجرد نظري بالبحث عنها أشق الهواء من أمامي بنعومة أظافري باحثة عن تلك الكلمات … ..ها أنا اليوم احتضنك (تخاطب الكرسي ) أجد فيك عارضا لتلك الرياح بل لابد لك أن تكون عارضا لتلك الرياح الهوجاء ..إنها تفتك بنا مهما تقدمنا وتحررنا وصرنا نصف المجتمعات ..مازالت هذه الرياح تصوب جل غضبها نحونا ..إننا نحاول أن نتنفس دون غبار ..كن أنت ذلك الهواء …(تصرخ ) بل لابد لك أن تكون.. لابد لك أن تكون .
زمان : (تزحف كالأفعى فوق الأرض تتلوى بهدوء تدخل تحت الكرسي ) ولماذا الخجل من أن أقول إني أنثى بحاجة إلى رجل يقول لي في لحظة أنني أنثى (تهمس بهدوء ) لالالا ليس القول دائما فهنالك لحظات لا تحتاج إلى قول لحظات لا أشعر بعدها بالندم بل أشعر بالحب ولاشيء غير الحب ..لماذا نحاول أن نخفي حاجتنا الأولى والأخيرة وهي الشعور بالحب إنه يزرع بين الضلوع أبدية العيش بأمان ..
(لحظة صمت تتوقف فيها الثلاثة عن الكلام تبقى كل واحدة في مكانها تتأمل الكرسي )
زمان : وماذا بعد؟
حياة : وماذا بعد؟
دنيا : وماذا بعد؟
زمان : الرهان .
حياة : الرهان ؟
دنيا : الرهان ….لكن ما هو الرهان؟
حياة : هو من سيختار .
زمان : من؟
حياة :الكرسي .
دنيا : كيف؟
حياة : من سيعانقها بشدة ستكون هي صاحبة السعادة !
دنيا : وكيف له أن يعانق ؟
حياة : نحن من سنجعله يعانق ويجيد العناق أيضا .
( تتعالى أصوات موسيقى صاخبة جدا تبدأ الثلاث بتسريح شعورهن والتمايل مع الموسيقى تتقدم حياة إلى الكرسي تسحبه بتمايل تضعه في وسط الغرفة)
حياة : إنها الحروب .. تلك البراكين التي لا تنفك أن تأكل الخشب فلا يعود هنالك مصنعا للكراسي .
( تصعد فوق الكرسي ترقص بجنون وكأنها برقصها تحاول الهروب بتمايل من سهام تقصدها من بعيد )
زمان : (تدفع حياة من فوق الكرسي تصعد فوق الكرسي وتصرخ ) أنتما يا نساء الرغبات .. لم تتركا للحب ثغرة يتنفس بها الصعداء .
(ترقص رقص شرقي على موسيقى يمتزج بها الصخب والهدوء)
دنيا : تشابهت لديهم النساء ولم يستطيعوا أن يميزوا بين جمال الجسد وجمال الروح .
( تنزل زمان من فوق الكرسي لتعتليه دنيا راقصة بشعرها فقط تميله مع ريح الموسيقى تارة ومع ريح نيرانها تارة أخرى.. تتعالى أصوات الموسيقى تختفي أصواتهن لا يظهر من بين الأجساد الثلاث سوى الصعود والنزول من فوق الكرسي وكأنه أصبح منصة للرقص تتسارع الأجساد بالصعود والنزول والتدافع فيما بينها، تتعالى الموسيقى لأكثر فأكثر، تتشابك الأجساد فوق الكرسي أكثر فأكثر إلى أن تتساقط الأجساد الثلاثة على الأرض. صمت لبرهة ثم صوت ضحكات جنونية تتعالى شيئا فشيئا تنزح الأجساد الثلاثة لنجد أن الكرسي قد تكسر إلى أجزاء عدة ) .