إلى أين تأخذنا الدراما التليفزيونية ؟/ د. حسن عطية

                                         الدراما الاجتماعية خارج السيطرة
 
بعد أن توقفنا في المقالين السابقين عند أبرز المسلسلات التي توجهت نحو عالمي الخيال والتاريخ، دون أن تغادر واقعها الذي تعيشه وتعبر عنه وتتوجه إليه، نقف اليوم مع أنضج مسلسلات التوجه الثالث والمعبرة عنه الدراما الاجتماعية المرتبطة باللحظة الراهنة، والتي يجد فيه الجمهور نفسه وقضاياه دون ترميز أو ارتداء أردية وأقنعة تاريخية أو خيالية .
يشغل هذا التوجه نحو سبعين في المائة من الأعمال المقدمة في شهر رمضان، بعد إخراج التوجهين الخيالي والتاريخي، وكذلك الأعمال الكوميدية المصنوعة من أجل الضحك فقط وسقطت في التهريج مثل (الكبير)، أو التي مالت نحو الجدية فلم تحقق أهدافها مثل (أستاذ ورئيس قسم). وأول ما يعكسه هذا التوجه الثالث فيما يتعلق بطبيعته هو ميله لتجسيد العنف والابتذال صورة وحوارا على الشاشة، وهو اختيار – بوعي أو بلا وعى – من صناع هذه الدراما للموضوعات التي يعالجونها ويقدمونها لجمهورهم، ولأن الأفكار والموضوعات، كما قال القدماء، موجودة على قارعة الطريق، والمهم هو الاختيار والصنعة والرسالة، أي انتقاء الموضوع من بين آلاف الموضوعات المثارة في الشارع، وإعادة صياغة هذا الموضوع بحرفية تختلف من مبدع ممتلك لأدواته لآخر لا يجيد صنعة الإبداع، وأخيرا الرسالة الموجهة للجمهور المتلقي، خاصة في حقل الدراما التي تبث تليفزيونيا لجمهور عام لا يذهب إليها، ولا يحتاج لمستوى تعليمي معين، بل تذهب هي إليه وتقتحم بيته وعاداته وتقاليده، فتتسلل تدريجيا لعقله عبر تلقيه الوجداني، فيبدأ تدريجيا في تغيير سلوكه وعادات حياته وتقاليد ممارسته لها، مكتسبا أفكارا جديدة لم يكن يتصور من قبل أنه سيمتلكها .
هذا بالإضافة إلى أن الدراما التليفزيونية كفن تقوم بتعميم الخاص، فتنقل عنف بعض الشوارع ليصبح عنفا في كل الشوارع، وتجسد مظاهر الفسق والفجور والتخلف في بعض الأماكن فتبدو وكأنها صارت سمة أساسية لكل المجتمع، وتستخدم حوارا مبتذلا بين سفهاء في الحواري فيتحول على الشاشة وكأنه لغة المجتمع، وهو ما أجج هذه الحملة الحادة على الدراما هذا الشهر، واقعة بدورها في ذات الموقف الذي ترفضه، وهو تعميم الحكم على (كل) الأعمال المقدمة، دون فحص لها، والكشف عن مبررات تقديمها بهذه الصورة الفجة في شهر واحد.
** الحدث والحادثة:
ثاني ما يعكسه هذا الاتجاه ويتداخل مع ما سبق هو ما يتعلق بالصنعة أو السبك أي بحرفية الكتابة والقدرة على الصياغة الدرامية للموضوع المختار، والتي تحول الموضوع الواحد لدراما مختلفة عند كل مبدع يعالجه، والخطأ الذي يقع فيه العديد من كتاب السيناريو اليوم وورش كتابته، هو الخلط بين انطلاق الدراما من حادثة يتم التقاطها من صفحات الحوادث، تعرض في البداية لتصبح مسيرة الحلقات كلها البحث عن الفاعل، وقيام هذه الدراما على (حدث) متكامل تتصارع داخله الإرادات والقوى المتكافئة إلى أن ينتهي الحدث الدرامي بانتصار إرادة أو قوة ما، يوحى به المبدع إلى القوة أو الإرادة أو الفكرة التي يدعمها ويأمل في بثها بعقل جمهوره.
والمتتبع لغالبية الأعمال الدرامية التليفزيونية هذا الشهر، سيكتشف بسهولة أنها شغلت نفسها بحادثة أو جريمة ما، مثل مقتل الابن في (الكابوس)، أو خطفه في (ذهاب وعودة) أو إعلان قتل الصحفي (بعد البداية)، كما امتلأت الحلقات بمشاهد تعاطى المخدرات وحقن الهيروين والضرب والتعذيب، رغم أن الدراما تسمو بالتلميح الذكي، وتهبط بالتصريح المباشر، ولا تعرف المشاهد أو الحوار المجاني، وتنقل للمتلقي دوما رسالتها برقي لغوي، وحسن قول، ورهافة إشارة، والإيقاع أمر مهم جدا في صياغة الدراما المرئية بوجه عام، وفى الأعمال التشويقية التي يتصور البعض من الكتاب أنه يكفى أن تقع جريمة غامضة، حتى يظل الجمهور منتظرا طوال الوقت معرفة السر الرهيب، وهو سر لابد وأن يتكافأ مع زمن الانتظار، فإذا قلت قيمة السر عن حجم حلقات الانتظار المتوقعة فقد الجمهور متعة الاكتشاف، وفقد المسلسل جمهوره، وفقدت الدراما مبرر استمرارها، ولذلك انهار الإقبال علي العديد من هذه النوعية من المسلسلات بعد الحلقات الخمس الأولى منها .
يمثل مسلسل (تحت السيطرة) الذي أجمعت معظم الاستفتاءات الصحفية على قدرته على جذب الجمهور لمتابعته، يمثل نموذج حالة للمسلسل المتميز، المؤسس على حدث درامي متكامل، والذي كاد أن يفقد إيقاعه ومبرر استمراره في منتصف حلقاته، بسبب التكرار لمشاهد ومواقف التعاطي المطولة، لولا قدرة الممثل البارعة على نقل أحساس الجمهور من تتبع مواقف الشخصية إلى الاستغراق في حسن الأداء والاندماج الكامل في إيهاب هذه الشخصية التي تجسدها على الشاشة بأحاسيسها وحركتها وإيماءاتها وصرخاتها ودموعها، وهو ما يحسب ل “نيللى كريم” وذوبانها كممثلة في الشخصية التي تؤديها، وهى فضيلة أدائية امتلكتها بخبرتها ووعيها وطموحها للتميز، وللأسف افتقدتها الغالبية من أبناء الأجيال الشابة، بتصورها أن فن التمثيل هو فقط فن نقل أداء الشارع المتسرع ولغة حواره المدغمة للشاشة، مع عدم استيعاب كامل لمناهج التمثيل الأساسية.
** كتاب الأمس
لمعرفة السيناريست “مريم نعوم” بدقائق صياغة الدراما الرصينة، تدير حدثها الدرامي داخل مجموعة من الأصدقاء، تكاد تتقارب عائليا، وتصنع بدايات هذا الحدث الدرامي قبل بداية وقائع المسلسل بسنوات طوال، حينما أدمنت الفتاة “مريم” (نيللى كريم) تعاطي المخدرات مع مجموعة من أصدقائها، ثم عولجت منه لتسافر مع أبيها إلى (دبي)، وهناك تتعرف على “حاتم” (التونسي ظافر عابدين) ويتزوجا ويعيشا في سلام، مخفية بداخلها سر إدمانها القديم، متخيلة أن ما حدث في الماضي لن يعاود الظهور مرة أخرى، غير أنها ما أن تعود للقاهرة للاستقرار مع زوجها بها، وللمساحة التي تحركت فيها قديما، حتى يعاود الماضي الظهور أمامها بآثاره المستمرة على أرض الواقع، وبأفعال شخصياته الرئيسية، وبخاصة “مريم” ذاتها، التي مازالت تحن لصديقها القديم “رامي” الميت أثر تناوله جرعة مخدرات زائدة، مما يشعرها دوما بالندم، وتذهب خفية عن زوجها لزيارة قبره، والالتقاء مصادفة بأسرته، في موعد زيارتها السنوية لقبره، ينتج عن اللقاء الحاد بين “مريم” والأسرة التي تتهمها بالتسبب في موت فتاها، توتر لأعصابها، يدفعها للبحث عمن يسهل لها الحصول على جرعة مهدئات، بعد أن رفضت الصيدلية أن تمنحها إياها دون روشتة الطبيب، فتتصل بصديق قديم آخر هو “شريف” (هاني عادل)، المدمن القديم والمتعافى مثلها، والعامل على مساعدة المدمنين على العلاج، والذي يرفض عودتها للمهدئات ولماض قاس، ويصر على اللقاء بها، مما يعيد “مريم” للماضي الذي هربت يوما منه، بفتح كتاب الأمس، وتقليب صفحاته صفحة صفحة.
يتفجر الحدث الدرامي الذي صنع في الماضي وسكن لسنوات طوال في الخارج، بعودة “مريم” لمحيطها السابق، وتهاوى إرادتها أمام الوجوه القديمة، واستعادتها لحنينها لفتاها الراحل وشعورها القاتل بالندم عليه، ولجوءها لتهدئة مشاعرها بالمهدئات المؤدية لطريق الانتكاس، واضطرارها للكذب على زوجها فيما يتعلق بأصدقائها القدامى، مما يثير ريبته التي تبدأ في التصاعد برفضها غير المنطقي للإنجاب منه، بينما ترتعب هي من فكرة الإنجاب في ظل محيط يدفعها للعودة للإدمان، وإدراك بأن للمخدرات دور في تشويه الأجنة.
نقطة انطلاق درامية مكثفة، تصوغها السيناريست بذكاء وحرفية، عن قصة لها وللمخرج “تامر محسن”، تؤسس عليها كل وقائع مسلسلها التالية، متحركة على محورين أو حبكتين أساسيتين منغمستين في نفس العالم المنسحب إليه الكثير من شباب اليوم، انفلاتا من حالة الإحباط التي يعجز عن مواجهتها بالعقل المستيقظ، ويفشل العالم الافتراضي في فضاء النت عن أن يكون بديلا له؛ أنه عالم الهروب من مواجهة الواقع. وتتعلق الحبكة الأولى الرئيسية بشخصية “مريم” وزوجها، وتدور الحبكة الثانية الفرعية حول شخصية “هانيا” (جميلة عوض) وزوجها “على” (محمد فراج)، فتعكس كل حبكة تأثيرها على الحبكة الأخرى، فنجد “مريم” في الحبكة الأولى مدفوعة لحالات توتر وشعور بالذنب والندم تجاه الصديق الغائب، وبالكذب والمراوغة تجاه الزوج الحاضر الذي أخفت عنه سرها القديم، فتلجأ للمهدئات وقراءة الكتاب الأزرق الخاص بزمالة المدمنين المجهولين، وأن أعلنت هذه الزمالة أو الجمعية في مفتتح كل حلقة بعد التترات عدم علاقتها بإنتاج هذا المسلسل، كما تحضر اجتماعاتهم الخاصة، التي يحملها إليها “شريف” المشرف مع زميله المدمن القديم لهما “طارق” (أحمد وفيق) زوج “سلمي” (إنجي أبو زيد) شقيقة “شريف”، والرجل الأول في حياة “مريم” ومن أدخلها عالم المخدرات، قبل تعرفها على “رامي”، المقتول بجرعة زائدة، والتي تشك “مريم” أن “طارق” هو المتسبب فيها للخلاص منه، واستعادتها له.
** نفايات مجتمعية
تبدأ العلاقة بين الزوجين تنهار تدريجيا حتى يقوم “حاتم” بتطليق “مريم”، مما يدفعها لمغادرة بيت الزوجية، إلى بيت أبيها القديم بكل ذكرياتها المؤلمة فيه، وباللجوء لصديقتها “أنجى” التي مازالت على إدمانها مع زوجها “معتز”، فتنتكس حياة “مريم” وتعود للتعاطى، حتى تكتشف أنها حامل، فيبرز متغير جديد في حياتها يحفز إرادتها للتعافي، فتذهب للعلاج بإحدى المستشفيات، تخرج منها رافضة العودة لشقة أبيها القديمة وذكريات الأمس الموجعة، ومنتقلة لشقة مغايرة تبدأ بها حياة جديدة، مع وصول الابنة “فريدة” والانكباب على رعايتها وتربيتها تربية حسنة، محققة لنفسها انتصارا على ذاتها وعلى ضعفها.
يتشابك مع هذه الحبكة الرئيسية موضوع “طارق” وعلاقته بزوجته “سلمى”، وتراوح علاقته مع الإدمان بين الانتكاس والتعافى، وإقامته علاقة خائنة مع المدمنة “أنجى”، في الوقت الذي تحمل زوجته “سلمى” منه، ومع ضعف بنائه النفسي، وتخاذل قدرته على التصدي للإدمان، تجهض “سلمي” نفسها، ويتم الطلاق بينهما. وكذلك موضوع مهندسة الديكور”مايا” ابنة خالة “مريم” و”هشام” الذي أحبته وتزوجته، وتقف بحزم إلى جانب “مريم”، ثم موضوع “شريف” المتعافى والواقف بقوة إلى جوار “مريم” في محنتها وصديق “شيرين” (جيهان فاضل) التي ينقلنا المسلسل من خلال علاقته العاطفية القديمة بها إلى الحبكة الفرعية التي تلعب دورها الرئيسي الفتاة المراهقة “هانيا” ابنة “شيرين”، التي تعانى من غياب الأب في بلاد الغربة بذريعة العمل وتحقيق الحياة المرفهة لها، وعجزت الأم عن لعب دور الأب في حياتها، وتصورت أن تعليمها في أرقى المدارس الأجنبية، وتوفير كل سبل الحياة لها، هو السبيل الوحيد للتربية الناجحة، في الوقت الذي تدرك فيه الفتاة المراهقة حجم التمزق الشارخ لعلاقة أمها بأبيها، والمؤدى لعزلتها داخل حجرتها الخاصة، وتضخم ذاتها الصغيرة وتصورها أنها يجب أن تكون الأولي في التعليم والترفيه والجنس، فلما لا تكون أيضا الأولى في المخدرات، فتتعرف على “على” (محمد فراج)، الذي يعمل مع خاله ويسرقه لشراء المخدرات، حتى يكتشف أمره فيطرد من عمله، بينما يرتبط بالزواج والإدمان بالفتاة “هانيا”، التي تحمل هي الأخرى منه، لكنها لا تملك إرادة “مريم” في المقاومة فيسقط حملها، وتتحول مع “على” لنفايات مجتمعية، بعد أن هجرت أمها، وطلق أبيها أمها لعجزها عن تربيتها، متناسيا دوره المفقود في حياة ابنته وزوجته، كما نسى “حاتم” يوما دوره الاجتماعي والنفسي الذي كان يجب أن يقف به إلى جانب زوجته “مريم” في محنتها، ولا يدعها تنتكس أكثر من مرة، وهو ذات الأمر مع “طارق” الذي تسبب في موت صديق “مريم” السابق للاستحواذ عليها قديما، وفى تطليقها من زوجها في الزمن الراهن، وفى خيانة صديقه “معتز” مع زوجته “أنجي”.
بإخراج متقن وصور رزينة وإيقاع متمهل وميزانسين محكم لحركة ممثليه داخل الكادر، يتيح لنا قراءة ما بأعماق شخصياته، يقدم المخرج “تامر محسن” دراما ترصد بدقة تفسخ العلاقات الأسرية داخل الشريحة المرفهة من الطبقة البورجوازية، القادرة على شراء الهيروين بسهولة، والمتخيلة أن المال وحده صانع الحياة الكريمة، وأن الذكاء يستغل فقط للصعود الفردي، وأن عاداتها وتقاليدها المنفتحة دون ضوابط هي السبيل للحياة المتحضرة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت