محلاك يا مصري وأنت ع الدفة.. والنصرة عاملة في القنال زفة / د. حسن عطية

عن: الكواكب المصرية
 
بحناجر رقيقة ، وقلوب دافئة ، وحشود متجمعة فى أفنية مدارس عاشقة للمعرفة ، كنا نهتف على دقات الطبلة ونغمات الأكسلفون : “دع سمائى فسمائى محرقة ، دع قنالى فقنالى مغرقة ، وأحذر الأرض فأرضى صاعقة ” ، فترتج السلالم الصاعدة بنا لفصولنا ، ونستعيد معها صوت “فايدة كامل” الهادر فى المذياع طوال اليوم بكلمات الشاعر “كمال عبد الحليم” وبلحن “على إسماعيل” المزلزل والرافض للعدوان الثلاثي عام 1956 على القناة ومدينتها الباسلة “بورسعيد” .
كنا نبدأ عامنا الثاني في المرحلة الابتدائية، فرحين بتأميم قناة السويس واستعادتها لأصحابها الذين ضحوا في حفرها وحمايتها، منتشين بأبناء الوطن من المرشدين المصريين الذين نجحوا في إدارة القناة العائدة إليهم، وإرشاد السفن بدقة، بعد مؤامرة انسحاب المرشدين الأجانب فجأة عقب قرار التأميم، مغردين مع صوت “أم كلثوم” الصادح بكلمات “صلاح جاهين” وألحان “محمد الموجى”: “محلاك يا مصري وأنت ع الدفة، والنصرة عاملة فى الكنال زفة، يا ولاد بلادنا تعالوا ع الضفة،  شاورولهم  وقولولهم،  ريسنا قال ما فيش محال راح الدخيل وابن البلد كفى”،غير أننا سرعان  ما علمنا بالقاهرة أن القوات الإنجليزية والفرنسية قد أنزلت قواتها في منطقة قناة السويس لمحاصرة الجيش المصري في سيناء، التي  اجتاحتها  القوات  الإسرائيلية، احتجاجا على تأميم القناة واستعادتها، وتأمرا لإعادة احتلالها مرة أخرى، تآمر فشل بصمود أبناء القناة وإرادة وطن عرف السير  في طريق الحرية، وأبى أن يتراجع عنه.
كان العدوان الثلاثي على الوطن أواخر عام 1956 محطة من أبرز محطات حضور قناة السويس الأولى في حياتنا، سبقتها محطة الحفر بالسخرة للشعب المصري البادئة 1859 ومستمرة لعشرة سنوات كاملة لتفتتح  في حفل عالمي مهيب عام  1869، وتلتها محطات ترتبط بمحاولات غزو الوطن في هزيمة 1967 وإغلاقها لنحو عشر سنوات، ثم ونصر  أكتوبر  1973 وإعادة  افتتاحها عام 1975، وأخيرا محطة شق قناة موازية جديدة ستفتتح بعد أيام قليلة.
** بانو .. بانوا  
شقت القناة كممر مائي ضخم بأيدي مصرية، لتربط أوربا بآسيا،وتمزج البحرين الأبيض والأحمر،  وتجذب العقيدة القتالية للجيش نحو الدفاع عنها باعتبارها أول بوابات الدفاع عن الوطن شمالا وأسرع ممر مائي عالمي، يتحول لمطمع دولي،  ويثير المخاطر حوله، لذلك تعمق وجود القناة في الوجدان الشعبي، وتأسس حضورها في الفنون والآداب المصرية بمحطات تاريخها المتعددة، وتبرز في محطتها الأولى، المتعلقة بحفرها وافتتاحها ثلاثة أعمال درامية، يتقدمها فيلم (شفيقة ومتولي)  الذي  أخرجه “على بدرخان” عام 1978، عن القصة الشعبية المعروفة والتي صاغها “أحمد شوقي عبد الحكيم”، وكتب له السيناريو والحوار “صلاح جاهين” برؤية جديدة ترى في شق القناة بالسخرة وبثمار يحصدها المحتل الأجنبي، تراه انتهاكا لجسد وروح الشعب المصري متمثلا في الفتى “متولي” الجرجاوى وشقيقته “شفيقة”، مغيرا في زمن أحداث القصة الشعبية ليتفجر حدثها الدرامي مع بدء الحفر في القناة لتمتد عملية تسخير الشباب للعمل دون إرادته لكل أرجاء الوطن، فيهبط العسكر (الغز) قرية “متولى” (أحمد زكى) الفقيرة (جرجا) ليصطادوا بالأنشوطة الفلاحين من حقولهم وبيوتهم كالكلاب، لدفع النابه منهم إلى التجنيد بالجيش (الجهادية) وقوى الساعد للعمل بحفر القناة، مستثنية منهم فقط من يدفع المقابل النقدي لعدم تجنيده (البدلية)، ويقع “متولى” بين أيديهم، فتفصل القطرة عن بحرها، ويبعد الفتى الفقير عن أخته التي هي في أمس الحاجة إليه، ويساق لمنطقة القناة، يشرف على عمليات الحفر اللإنسانية، فيعترض عليها، ليجازى بالجلد على ظهره العاري بالسوط (القمشة)، والتي يعبر عنها الراوي (صلاح جاهين نفسه) بقوله “وكل جلده على ضهرك يا متولي، ترسم قنال السويس أم الجراير سود”، لكنه يصر على تحدى ظروف وضعه الجديد، وينمو وعيه تدريجيا باحتكاكه بطبيب الموقع الواعي “صبرى عبد المنعم”، ويسرق من مخزن السادة أدوية لمعالجة الفلاحين من وباء الكوليرا الذي اجتاح المنطقة ومصر بأكملها، والذي يرى الطبيب أن “مصر زى المنصابين دول” مرض يستهلك جسدها وأدوية غير متوفرة وروح معذبة.
على الجانب الآخر تقع “شفيقة” (سعاد حسنى) في بلدتها فريسة الفقر والجهل والغواية، تلتقط في البداية من بين تراب الحقول حبات القمح المتبقية بعد الحرث، كي تصنع منها رغيفا تتقاسمه مع جدها المنهك، ساقطة فيما بعد في غواية ابن العمدة (دياب) “محمود عبد العزيز” في حمى المولد وإغراءات الغوازي، لتهرب من بلدتها لمدينة أسيوط الكبيرة مع  مغويها  “دياب” الذي سرعان ما يتركها تقع بين براثن “أحمد الطرابيشى” بك (أحمد مظهر)، مقاول الأنفار وتاجر العبيد وموردها من السودان إلى القناة، بدلا ممن ماتوا في الوباء، وبأوامر من “يسرى” باشا (جميل راتب) أحد  رجال  خديوي مصر الأقوياء، فيحملها معه لعاصمتى انجلترا وفرنسا، استخدم المخرج هنا الصور الفوتوغرافية القديمة للندن وباريس لتجسيد الرحلة، فتنبهر بها وبه، لكنه حين العودة للقاهرة يسلم جسدها للباشا “يسرى، مقابل انفلاته من جريمة تجارة العبيد، فتسخر منه، وتحط من شأنه في أغنيتها الشهيرة (بانوا بانو) وسط ضيوفها من علية القوم في طقس انتقال الضحية من مالك لأخر، طقس تصنعه كلمات “جاهين” الواعية وألحان “كمال الطويل” شديدة الحساسية، وصوت العبقرية “سعاد حسنى” المعبر بدقة عن المشاعر المختلطة داخلها في لحظة تنوير بارعة، وفى الفراش تكتشف أنه شخصية سادية، لابد وأن تجلده ليتألم قبل أن يحتويها بأحضانه ويحقق متعته بها، غير أنه يظل حيا وقويا، كما يظل “الطرابيشى” حيا وقويا، فجريمة تجارة العبيد وموتهم في الوباء ألصقها بتابعه الغبي “بلبل” (يونس شلبي)، والعمدة والد “دياب” قد تم الاستغناء عنه فيساق ابنه للجهادية، وينقل لمنطقة حفر القناة، وهناك يجد نفسه مع “متولى” ويكتشف الأخير صورة أخته  الموشومة  على ذراع “دياب”، فيقتله، ليعود إلى بلدته لغسل عاره من أخته ألمنتظره له كي يخلص روحها المعذبة بجسد تعطش يوما للحياة الرغدة، لكن ما أن يهم بغرس خنجره بصدرها، تسبقه رصاصات السادة الذين أدركوا أن “شفيقة” قد عرفت الكثير عن أعمالهم المشينة .
** الحلوانية 
حفر القناة الأولي بالسخرة كان عند “جاهين” و”بدرخان” مساويا لانتهاك جسد الفتاة الفقيرة ووئد روحها – شقيقها – في الصحراء القاتلة، وبعد ذلك بأربعة أعوام يقدم “محفوظ عبد الرحمن” والمخرج “إبراهيم الصحن”  مسلسلهما المتميز (بوابة الحلوانى) بأجزائه الثلاثة، من إنتاج (قطاع الإنتاج) بالتليفزيون المصري، والذي يفتتح الجزء الأول من الثلاثية عام 1992 ، بمشهد اقتياد الجنود لشباب القرية للعمل في حفر القناة دون إرادتهم وبمقابل بخس، مما يحدد لنا زمن بدء وقائع المسلسل، فنحن أذن في أبريل 1859 ، في زمن حكم الوالي “محمد سعيد باشا”، الذي وافق للمهندس الفرنسي “فرناند دي ليسبس” على مشروع حفر قناة السويس، وحصل على موافقة الباب العالي بالآستانة باعتبار أن مصر كانت حتى ذاك الوقت ولاية تابعة رسميا للخلافة العثمانية ، وبموجب هذه الموافقة منح الوالى الشركة الفرنسية حق استغلال القناة لمدة 99 عاما، وواجب على الحكومة المصرية توفير عمال الحفر لها، منطلقين في الحفر من جهة البحر المتوسط، بالقرب من مدينة (الفارما) ، وتعنى بالقبطية بيت الإله آمون، والتي أكد كبيرها “شلش الحلوني”على القول السائر بأن اللي بني مصر في الأصل كان حلوانيا، ومن أنشا مدينة الفارما أيضا هو كبير عائلة الحلوانية، وهى مقولة مجازية، وتؤكد عليها أغنية (تتر) المسلسل، للشاعر “سيد حجاب” والملحن “بليغ حمدى” والمطرب “على الحجار”، وأستمر الحفر لسنوات عشر، ظهرت خلالها المدينة الأولى على مدخل القناة ومنحت أسم ميناء الولي سعيد، وصارت تعرف ب (بورسعيد) ووصلت لمدينة السويس الأقدم بين مدن القناة الثلاث ، ثم ظهرت مدينة الإسماعيلية إلى الوجود مع افتتاح القناة عام 1869 ، وأنشئت أساسا لتكون مركزا وسطا بين مديني بورسعيد والسويس، ومقرا لشركة قناة السويس العالمية للملاحة. و ينتهى المسلسل في حلقته الثالثة العشرين بالوالي “إسماعيل” الذي تولى الحكم بعد موت “الوالي “محمد سعيد” عام 1863 ، ولم يكن بعد قد حصل على رتبة الخديوية واستقلاله نوعا ما بمصر، وحفل افتتاح القناة  التاريخي في نوفمبر 1869،  أستخدم  المخرج “إبراهيم الصجن” لتجسيده مرئيا  رسومات  الفرنسي “إداور ريو” المائية لافتتاح القناة .
** تأصيل المأثور 
صار مسلسل (بوابة الحلواني) في جزئه الأول ، المتعلق تاريخيا بحفر القناة ، فى خطين أساسين يدور الأول  منهما  في مدينة (الفارما) وعمليات حفر القناة، ويدور الثاني في القاهرة، مركزا على حياة ولاة مصر وهموم قصورها والحياة الاجتماعية والفنية والطموحات السياسية زمنذاك، بينما جاء مسلسل (حكاية مدينة) من إنتاج قطاع الإنتاج أيضا  1995  للكاتب “محمد أبو العلا السلامونى” والمخرج المبدع “أحمد خضر”، مركزا على إنشاء مدينة بورسعيد، موسعا من دائرة أهلها، بالامتداد لغرب بحيرة المنزلة، وراصدا التغيرات التي طرأت على المكان خلال السنوات العشر الأولى من الحفر،  في قراءة واعية لعلاقة الإنسان بالمكان، وقدرة المصري على التصدي للمحن والتحديات الطبيعية والسياسية باستجابات خلاقة تجذر أصوله في أرض الوطن، وتفتح أفق طموحه على كل العالم، وحقق المخرج من خلاله نقلة نوعية في حقل إخراج الدراما التاريخية بإمكانيات مادية ومجاميع بشرية قليلةجدا، خاصة أننا لم نكن بعد عرفنا ألاعيب الفوتوشوب .
يؤصل المؤلف الواعي قصة المدينة التي نشأت في ركن خال بالصحراء،  كما توضحها لنا أغنية التتر، التي غناها “محمد ثروت” بكلمات “سيد حجاب” وألحان “ميشيل المصرى”، الذي غاب عنا طويلا ، وعاد هذا الشهر مع المسلسل  الإذاعي  (التنظيم  السري) بالبرنامج العام، يؤصلها  في  طبيعة أهلها، الصانع لها، والقادم من قرى غرب بحيرة المنزلة، بعد أن هاجر من قبل من صعيد الوادي لشماله، مما يشير إلى أن البنية العرقية لأهالي بورسعيد هي بنية صعيدية، يؤكدها أيضا فيلم (شفيقة  ومتولي)، بل ويفسر تقاليد بورسعيد الشعبية، وبخاصة طقس حرق الدمية، الذي اشتهرت به المدينة حتى سنوات قليلة، تحرق خلاله دمى تمثل كل الشخصيات التي تكرها المدينة عامها، وتحتفل المدينة بعملية الحرق في كل شوارعها وعلى شواطئها في ليلة شم النسيم، استقبالا لفصل الربيع، عقب محاكمة شعبية لكل المخطئين في حق أهالي المدينة، وحمل طقس حرق الدمى فيما بعد اسم  (حرق اللمبي) رفضا من أهالي بورسعيد لأوامر “أدموند للنبي” القائد الأعلى لقوة  التجريدة المصرية البريطاني، والمعارض لتوديع البورسعيدية للزعيم “سعد زغلول” الذاهب إلى منفاه في مالطة عام 1919 ، فتظاهروا ضده، وصنعوا دمية على هيئته وأحرقوها بميادين المدينة. كما راح الكاتب يعمق الشخصية الرئيسية  في  مسلسله بمنحها اسم “الغريب” (نبيل الحلفاوى)، عقب ظهورها في المنطقة فجأة، لنعرف فيما بعد أنه “سعيد البلطي”  الذي حاول مأمور القسم بأمر الباشاوات إغراقه في البحيرة منذ عشرين عاما لتمرده عليهم، ففقد وعيه ليعود متزوجا من أخرى، ومنجبا أبنا صار شابا ثوريا، أصبح له ولشباب القرية أبا روحيا بشجاعته وحكمته وعمق رؤيته، وبخاصة لثلاثة من الشباب لمتمرد، الذي يتتبع المسلسل رحلة تسخيرهم في حفر القناة، وهروبهم المتكرر منها، وعودتهم في كل مرة ليواجهوا الحياة بقلوب صلبة وسواعد قوية.
وتمضى الأيام، تتحرر البلاد، وتمتلك إرادتها، وتعرف طريقها، وتتوحد لمواجهة كل من يعارض طريقها نحو التقدم، وشتان بين حفر القناة الأولى الذي تم بالسخرة وتحت راية الاحتلال، وحفر القناة الثانية اليوم الذي تم بالإرادة الشعبية، وتحت رايات العزة والكرامة، وحتى لا ننسى هل يمكن للتليفزيون المصري أن يعيد تقديم هذه الإعمال الدرامية المتعلقة وغيرها بحفر القناة الأولى، خلال الأسابيع القادمة، كي تعرف الأجيال الجديدة بالمقارنة كيف يمكن لها أن تفخر بصناع المعجزة الجديدة في عام واحد ؟
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت