مسرح بين الأفول والحضور / عفاف يحي الشب

كلمات شتى ترتعد أوصالها لأنها لا تريد خوض الحكاية كاملة.. الحروف المطواعة تتمرد على السطور وتغير مسارها لأنها لا تود المضي إلى عالم التزلف والمراءاة وشخوص المسرحيات يقفون في طابور الانسحاب كي لا تتدنى مساعيهم في صناعة مسرح سوري هادف ومقروء.. واعد ومسموع..
له هدير أمواج البحار وحفيف وريقات الشجر التي تهمس في فضاء الحقول المزهرة وثمار شهية محلاة بأجمل المعاني البليغة الفتية تنتظر جني القطافات…
هم لا يريدون أن تكون عروضهم المسرحية زوبعة في فنجان ولا مجرد دوائر أوهام تحصل  نتاج القفز على خشبة المسرح بلا معنى ولا إنجاز و لا يحبذون أن تكون الأضواء ضائعة تائهة بين عتمات قد تطول، وبقعة من ظلال تدور شاحبة ثم تزول بينما صدى الزعيق يملأ المكان لأن الممثل المسرحي  في المسرحيات السقيمة اعتاد الاتكاء على الصياح بحواراته غير المتوازنة المستنزفة لحيوية مسرح أخاذ والهادرة كعاصفة هوجاء بما يجعل السمع ضائعاً والفهم غائباً والوعي في حالة هلع وانفصام.
أنا لا أحاول الإساءة إلى  المسرح ومن يعمل به ويهواه في هذا المقال، بل العكس أريد للمسرح السوري الاستيقاظ من سبات الادعاء والتحكم بموارد العطاء الحقيقي بما ينعش النفوس والقلوب والأبصار.
إن الجماهير الذين جاؤوا من كل حدب وصوب يريدون رؤية  لوحة فنية.. فقرة نقد اجتماعية.. لدغات سياسية.. عقصات اقتصادية.. مشاهد ترفيهية من خلال حكاية حب مخطوفة من قصص ذات شفافية عالية وأهداف غالية ممزوجة بلمسات من ماء الحنين مستقاة من أداءات غنية بالقيم والأمثال التي  تمنح المشاهد قبضات من العزائم  والآمال.
أيها المسرح السوري لا تغضب فما شهدته منذ سنوات لم يعد يدفعني لحضور أي مسرحية حتى النهاية لأني أخرج فورا لأشرب كأس عصير الليمون بالسكر الزائد.
إحدى المسرحيات التي حضرتها مصطحبة معي ابنتي الشابة الصغيرة برفقة زميلات وزملاء  إحدى الصحف حينها  أصابني انفصام ثقافي وأنا في مسرح العمال والجمهور الحاضر كان واعيا  بالمجمل وشكسبير يتجول بالدراجة الهوائية على مسرحنا السوري. تبا لتلك المسرحية ولهامليت ومن معهم حين نحاول تعريب ما نشاء ونغرب بعيداً بمن نشاء وهنا ما عدت تعرف من شكسبير ومن هو ذاك الممثل المرتدي ثياب البهرجة  الفضفاضة القصيرة الحواف.
تلك المسرحية أفقدتني أعصابي  فخرجت من المسرح ووقفت في انتظار الرفيقات والزملاء كلهم كانوا يعانون صداعاً غربياً على عربي.. في اليوم التالي كتبت مقالا في صحيفة سورية محلية أقول فيها كفانا.. كفانا من تلك الهزليات التي لا تشبهنا وإن كانت عالمية ولنا في قصص ابن زيدون وولادة وزوجة المعتمد بالله ورقص السماح والموشحات الأندلسية وتاريخنا الجريح ألف حكاية بأجنحة هادفة فيها غرام وحرب.. فيها صدق وخيال لكن في النهاية فيها ما يريده  الجميع.
وقبيل  الحديث عن أفول اجتهادات أبي خليل القباني وسط التواءاتنا المسرحية ظهرت مجموعة ما سمي مسرح الشوك لمؤسسه عمر حجو، وكان هناك محمد الماغوط وممدوح عدوان والممثل القديم المسافر دائما إلى إبداعاته الأستاذ دريد لحام مع حسام تحسين بيك وصباح جزائري وغيرهم، عندها ارتدى الناس ملابس الخروج ووضعوا على صدورهم الشالات الصوفية لحضور تلك العروض السخية بكل حب وأريحية.
وهكذا استمرت موجة المسرح الهادف من مسرحية كاسك يا وطن وضيعة تشرين وغربة وغيرهم لنصل إلى المسرح الاستعراضي الذي شخص التاريخ على أجساد الممثلين فافتتنت  قلوب المشاهدين الذين كانوا بهم معجبين والذين وفقوا  لهم  طويلاً وهم يصفقون، ولكن أين المزيد من تلك الاستعراضات لا أدري ولا أدري أين هذه الفرقة الاستعراضية الآن!
بعد غياب العمالقة عن إثبات وجودهم على خشبة مسرح -أتمنى أن يقارب مسرح (برودواي) قدر الإمكان- ولم يندفع أهل المسرح بجميع أشكاله  لصناعة هذا الفن المباشر انكفأت شعلة المسرح وصارت كل مجموعة صغيرة العمر والخبرة  تعتقد نفسها نابغة في الأداء المسرحي فتدلو بدلوها حتى راح المسرح يصيح بصوت مبحوح: ابعدوا عني أيها المتمسرحون.
هنا ومع بداية الأزمة ظهرت نشاطات فردية  خجولة  لإفراز مسارح حقيقية على شاكلة مسرح دريد لحام فما استطاعوا، كانوا ضعفاء في نصوصهم، فقراء في عروضهم مع احترامي لمحاولاتهم لكن التحدي لا ينطلق بمحاولات راغبين متحمسين أو مقلدين باحثين عن الربح المادي، لا.. فالمسرح عشق وفن ووجود وجمهور.
أيها المسرح السوري كن رجلاً احمل حقيبة همومك ولا تسافر بها إلى خارج البلاد بل اجعلها سيمفونية عشق لسورية وأرضها.. كن مسرحاً حياً  لبعض مفاصل الأزمة تصدى لحكايا حب مجنونة وحرب ملتهبة ولا تكن خشبة استعراض لمكياجات فاتنة وشعر يضاهي شعور نساء القرون الوسطى وما بين حركات اهتزازية وأصوات مدوية وغبار طائر تصبح مصعوقا مرتبكا لا تدري أين أنت!
من هنا أقول: لا تكن كالدراما السورية حين تستفيض بك ثلاثين حلقة فيها الطرب والغناء والأسى والثياب  ولكن لم  نشاهد حتى الآن محاولة لترويج ثقافاتنا وطرح قضايا إيجابية أو ترفيهية ذات ومضات ثرية.
أيها المسرحيون الحقيقيون مسارحكم فارغة تنتظر إبداعكم ونقل مفاصل من أوجاعكم إلى الخشبة ليخرج الناس  من توترهم وقلقهم وكأنهم هم المقصرون بحق المسرح. الجميع يدركون أن  حب الوطن غال وعليه يجب أن تجسده خشبات المسرح في كل مكان.
مسرحنا السوري الكبير يحتاج الوعي والنور لعودة الأمان والسلام وهنا يجب أن تكون خشبات المسرح جاهزة لعرض أجمل مسرحية شعبية تاريخية خالدة لا يجاريها شكسبير وغيره من قريب ولا من بعيد.
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت