الدراما ..القانون الوضعي والإلهي/ د.منصور نعمان
هل الدراما تطرح موضوعات تعتمد القوانين الوضعية أم الالهية؟ وهل الأبطال جزء من تلك القوانين أم أدوات لتنفيذها حسب!؟ وكيف يتم البحث عن فحوى تلك القوانين على الرغم من مساحات مفارقة بين زمن إنتاج تلك النصوص في عصور مختلفة وبعيدة، وزمن تلقي النصوص ذاتها، والمتغيرات عاصفة في الحياة العصرانية؟ تساؤلات كبيرة في حقيبة الباحث، والذاكرة تسترجع صور الأبطال، والمواقف الرهيبة التي يواجهونها في السر والعلن، أمام البطل ومرايا نفسه والآخرين، أو أمام (الآلهة)- القوى الميتافيزيقية – أيُ خيار يختاره البطل، عندما يكون عليه أن يختار بين أمرين/ موقفين، لابد له أن يرجح أحدهما على الآخر، وفي نفسه أن كلاهما وإن اختار أحدهما، فأحلاهما أمر من الآخر.
ففي مسرحية (أوديب ملكا) يصمم الآلهة مسارا للطفل الذي لم ير النور بعد، والنبوءة تقول: إن الطفل ما أن يكبر ويشتد ساعده حتى يقتل أبيه ويتزوج من أمه. لكن البطل أوديب ما إن علم بالأمر حتى وضع القانون الوضعي منهجا، فترك مدينته كورنثه واتجه إلى طيبة، متجنبا تلك النبوءة التي يقشعر لها البدن. ويلاحظ، إن اوديب تحدى الإرادة الإلهية، باختياره عصيان تنفيذ النبوءة، وهو بذلك إنما يفرض الإرادة البشرية وجعلها شريعة له، لكن الآلهة من الدهاء إذ جعلته منفذا لأرادتها على الرغم منه، وبالتالي فإنه يقتل أباه ويتزوج من أمه وينجب منها أطفالا، وبذلك فإن اصطراع القانونين كان حتميا. من هنا نتفهم طبيعة الصدام العنيف بين القانونين، وتجلى ذلك بقوة أكبر في مسرحية (انتجونا) للمؤلف نفسه، إذ يقف كريون في مواجهة البطلة (انتجونا) نازلا فيها أشد أنواع العقاب، ألا وهو الموت لأنها تحدت إرادة القانون الوضعي المتعلق بمنعه دفن جثة أخيها، الذي مهد للانقضاض على المدينة، لكن كريون يُقرع ويلام لأنه نقض قانون ألهي، والجوقة/الشعب، تقف مع البطلة ضد كريون، بالتالي ازدادت خسائر كريون بفقدانه ابنه هيمون الذي كان يعشق انتجونا فيقتل نفسه حزنا على موت حبيبته، وزوجة كريون تموت حزنا على موت ابنها هيمون، فيحس كريون بالهوان ويقرع نفسه لأنه اتخذ من القانون الوضعي منطلقا لحكمه. غافلا القانون الإلهي، بل ومتحديا له، فانهالت عليه الخسائر تترى تباعا.
وفي مسرحية (هاملت) التي كتبها شكسبير، تأتي الفرصة لهاملت في أن ينقض على قاتل أبيه الملك كلوديوس، لكنه يُرجيء تنفيذ الأمر لأن القاتل كان يصلي في تلك اللحظة، وخشى هاملت أن قتله سيدخله الجنة بدلا من النار، وبذلك تألق الصراع بين القانونين. وفي مشهد آخر كان هاملت يواجه به حبيبته اوفيليا، التي صارت تتسقط أخباره وتشي به إلى أبيها بولونيوس وبدوره ينقلها إلى الملك كلوديوس غريم هاملت الذي يحزن ايما حزن لما وصلت إليه اوفيليا، فيصرخ غاضبا منها إذ يقول: اذهبي إلى الدير وترهبي. هنا مكمن الصراع بين قانونين: الوضعي والإلهي. فهاملت يتبع اللحظة هذه قانون الهي، بوصفه يبحث عن الحقيقة وسط طلاسم الظلام، إنه يؤكد قانونه وأحقيته، باعتبار القاتل كلوديوس نفذ قانونا وضعيا، ولابد من عقابه بينما اوفيليا العاشقة لهاملت حد الجنون، عاشت لحظات درامية عاصفة، إذ وقعت فريسة بين قطبين يشكلان قانونين هما: الأب والحبيب. فإن امتثلت لأبيها نفذت قانون الهي الذي يقضي بوجوب طاعة الأبناء للآباء ويجنبها العصيان، وإن امتثلت لحبيبها تكون عاصية من وجهة نظر أبيها، وبذلك تكون عاصية للقانون. إن الرغبة الجامحة تقف أمام الواجب فتتكسر، وبذلك صار الصراع بين الوضعي والسماوي في ذات البطلة يشكل ميسما متعرجا، وباختيارها الواجب على حساب الرغبة، أفقدها حبيبها هاملت، الذي صار ينفر منها، فيوصلها الاشتباك بين القانونين إلى الجنون دون وعي .
وفي مسرحية (الأب) لمؤلفها سترندبريج، يتألق الصراع بين الزوجين عندما تفجر الزوجة فكرة، أن المرأة لوحدها تعرف من يكون أبُ ابنها. وهنا أيضا صراع بين القانونين، وإن تلبسه الغموض بعض الشيء، غموض التشكك بما هو شرعي يخضع للمنطق السماوي، إلا أن إرادة البشر تشكك به، فيتحول السماوي إلى قانون وضعي مليء بالغموض والسرية. ويتخذ برتولد برشت في مسرحية (دائرة الطباشير القوقازية) صراع القانونين، بتجلي كبير، فالخادمة تقف أمام السيدة التي ولدت الطفل لكنها تركته ونسته عندما دُوهم القصر فأخذت ملابسها ومجوهراتها وهربت من القصر مسرعة مع رهط من خدمها وحرسها، لكنها نست طفلها أو تناسته. أما الخادمة فقد رفعت الطفل وهربت به وأنقذته من موت محقق، لأن من استباح القصر كان يبحث عن وريث العرش ليزهق روحه وإن كان طفلا. وعاش الطفل بكنف الخادمة التي كانت ترعاه بوصفها أمه وليست الخادمة، ولكن ما أن عادت الأمور إلى نصابها، وعادت سيدة القصر إلى قصرها، وشعرت بحاجاتها لطفلها الذي افتقدته الآن، وما أن علمت أنه بكنف الخادمة، وإذا بها تطالب بالطفل أن يعود لأحضانها. إن القانون الألهي يفرض أن يكون الطفل للأم الذي ولدته، لكن (برشت) يعيد تقيم القضية من زاوية جديدة، إذ يأمر القاضي أن ترسم دائرة حول الطفل، وتقف المرأتين المتنازعتين خارج الدائرة متقابلتين، والطفل يقف في مركز الدائرة، وباشارة من القاضي عليهما سحب الطفل والتي تشد وتسحب بقوة يكون الطفل من نصيبها، الملكة لم تتورع من سحب الطفل بشدة وعنف وإن كلف ذلك أذيته، غير مبالية بما يحس به الطفل المهم سحبه والفوز به وتنتصر، هنا يقف القاضي أمام القانونين، فيرجح القانون الوضعي وينتصر للخادمة لا لأنها أنقذته من الموت يوم كان البحث عن الوريث هدفا لمن استباح القصر حسب، بل لأنها خافت على الطفل من شد سحب الطفل من الدائرة، فحبها للطفل دفعها لأن تفلت يده خوفا وحرصا عليه. انتصر القاضي للخادمة، انتصر القانون الوضعي على القوانين التي تعتمد السنن الشرعية، وبذلك انتصار لقوانين البشر في كيف يعالجون مشكلاتهم دون خوف أو تردد.