محمد ابو خضير: خطاب المسرح العراقي سائر شأن مسارح أخرى في ظل العولمة إلى تحقيق التناقض والتنوع/ حاوره : خضير الزيدي
الفرجة: اسمح لي بالتساؤل عن أهمية وجود مسرح عراقي يتميز بخصوصيته الفنية والتعبيرية وهل تمثل في فترة زمنية معينة؟
د. أبو خضير: أخذت مسميات الهوية والخصوصية أشواطا زمانية ومفاهيمية ومختبرية وجهودا ساسيو_ثقافية من مسرحيي العراق والوطن العربي سيما في أواسط الستينيات اثر ارتدادات الأيدلوجيات وعطبها المؤسساتي . وأحسب أن البحث عن (الهوية) هاجس بات خارج فضاءات خطابات الحداثة وما بعد الحداثة الفنية والجمالية والفكرية إذ تقوضت أواليات التأسيس والريادة والخصوصية المائرة وهو خطاب صار داعيا إلى مهمشات النصوص الفنية لتقود رأس القاطرة الفنية بعيدا عن سلطة التأرخة والطرس الأول . وقد دشن (العاني) ذلك بوعي تراثي في أحجية حكائية (المفتاح) منطلقا من ملحمة برخت فخطاب المسرح له خصوصيته عبر اللاهوية أو ما اسماه (ادرنو) ب (الوعي السلبي) فالهوية عنوة ذات جواهر كافة غير أن المسرح هو (جوهر معتد) فكان خطاب (اللاهوية) صيرورة التحولات في المسرح العالمي ذاته، ولعل في تأكيد الهوية استجابة (هيجلية) بإغلاق التاريخ بأحاديات تعبيرية وهو شأن تقاطعه تاريخيا خطابات الفنون والآداب الأدائية مثل مسارح وفنون وعروض الانثروبولوجيا في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا سواء في آليات الصنعة المسرحية وتقنيات الأداء الجسدي وسبل التراسل وفضاءات العرض
الفرجة: طيب ما الذي يجعل المسرح العراقي يعيش عزلة قياسا إلى غيره من مسارح عربية أو عالمية؟
د. أبو خضير: لا أرى ثمة عزلة حادة تحيط بخطابات المسرحي العراقي غير أننا نؤشر أن واحدة من أهم دلالات العزلة النسبية هو غياب الفرق الأهلية وممن هم خارج المؤسسة الفنية عن حضور المهرجانات العربية والقارية والعالمية وإيكال تلك المهمة إلى المؤسسة العامة للسينما والمسرح وما يتيح لها ظرفها الإنتاجي والسياسي كما أن انعدام التقاليد المسرحية في الإنتاج وعشوائية اختيار النصوص بهدف المساهمة في مهرجان ما، يقفز على ضرورات فنية وهيكلية يمكن لها أن تسهم بدفع خطاب العراق المسرحي إلى واجهة مقبولة ويمكن الانفتاح من اجل تأكيد (عراقية) المسرح على مسارح المنافي لما تحمله من رؤية وتطلع رغم إن اغلب عروضها ذات صيغ ذاكراتية واستذكارية
الفرجة: ساد في الثمانينيات نمط من المسرح سمي بالتجاري هل تعتقد أن تأثيراته باقية إلى يومنا هذا؟
د. أبو خضير: إن طرح المسرح في مشهدنا الثقافي والاجتماعي باعتباره محايثا ل (العقيدة) والوقار الفني والأخذ بنسق القيمية والأخلاقية والتربوية ، أوقف فرص استدعاء وظهور جملة خطابات أخذت بمأخذ (الاستنكاف) الفني وعلى مستويين، الأول مستوى حملة جملة مسميات منها التجاري في تواصله مع شرائح خارج مقصورة النخبة الفنية والأدبية. وثانيا يأتي المستوى هذا فيما طرقته مقولات (التجريب) سواء في عروض عرضتها طوال عقود اقبية منتدى المسرح وورش كليات ومعاهد الفنون الجميلة وبعض الفرق الأهلية وأحسب أن مشهدية المسرح ليس وقفا على خطاب دون آخر رغم تفاوت منسوب الجمالي والفني في مرسلات التواصل مع المتلقي وفي عصر شهد إشهار خطابات ما اسماه (هارفي) بخطاب (الانحطاط) في منظومة الفنون والآداب عموما. لذا بات من المؤكد حضور المسرح (التجاري) الذي امتلك حسا في الاستجابة لوقائع المنفعية و(التسليع) الفني في تواصله وتسويقه مع المتلقي عبر نوافذ وقنوات عدة فإغلاق المسارح هذه له ما يستعاف به من (ميديات) ووسائل إعلام ورقائق سينمائية ونصوص (فيديو كليب). إن المسرح التجاري بات فقيرا في تجارته قبالة فنون المابعد حداثوية القائمة على ما هو مشكل جمالي ومهمش فني وجماليات القبح ذاته .إن خطاب المسرح العراقي سائر شأن مسارح أخرى في ظل العولمة إلى تحقيق التناقض والتنوع لا الانسجام، فالتاريخ المسرحي آخذ بانفرادات الذائقة الأكاديمية من المخرجين العائدين في عقود الخمسينيات بحمولة مشهدية (الآخر) المسرحي لتكون الأيقونات التجريبية تكبيلات لمجمل الخطابات والعروض اللامعة ولا يؤثر هذا إطراء للمسرح التجاري ولكني أجد أن ثمة فضاءات متسعة للتعبير والتواصل الجمالي خارج متون المدارس والاتجاهات الفنية القارة في دروس الإخراج والتمثيل والذاكرة البصرية.
الفرجة: هل تعتقد أن النقد الجمالي والفني وبعض المناهج وخاصة السينمائية منها قد أسعفت الرؤية الإخراجية لبعض مخرجي النصوص المسرحية من العراقيين ومن خلالها قدموا مسرحيات تبقى خالدة في ذاكرة المتلقي؟
د. أبو خضير: وفق (فوكو)ثمة (لحظة تاريخية) جامعة وقاطعة دون تواصلات وسابقاتها التعبيرية أو المفاهيمية على أن التواصل لدينا محتوم بأفقية التاريخ وتراتبيته وحضوره يتقطع بين فني وآخر . فمعرفة (الأب) سابقة للحظة (عزلة) وفي لحظة الثمانينيات تعرضت الثقافة على اتجاهات فنية ونقدية أوقفت مدد وإمدادات عتمة (حزيران) وما لاحقها من منتج أدبي وفني وما رشح من ثيمة حرب واقعية عايشتها الذات العراقية بعد حرب ذات نسق (أرشيفي) فكانت لحظة تجريب وتطلع نحو الذات وخارج رقائق ثيمات مقرورة. فكان للفنون عموما نظرتها إلى الماضي ب (غضب) فني وجمالي بنمط حر وتشييع منهجي ورؤية نقدية فكانت تجريبية (منتدى المسرح) عام 1984 في مواكبة الاتجاهات النقدية في المشهد العراقي من سيميائية / تفكيكية / ومسميات الشعرية وكان للذائقة الواثبة من عروض منتدى المسرح محايثتها لتلك الاتجاهات التي بدأت لتستقر في بعد وفق رؤية فنية وجمالية أخذت بها الأساليب الإخراجية سواء في بناء المنظومة العلاماتية وخاماتها التي لم يتح لها الوقوف داخل فضاء المسرح أو في انساق التراسل والمتلقي ذاته إذ تخطت عروض منتدى المسرح تعويل المتلقي على الحاضنة السيميائية وتعليمية المسرح الملحمي طارقة محنتها الاجتماعية عبر الذات المنتجة ولان الاتجاهات النقدية من سيميائية / استقبال / تفكيك / لها انساقها الأدائية العملية (براكسس) فكانت الأقرب إلى فعل الخطاب المسرحي المشخص وأبعاده العلاماتية في التواصل مع المتلقي وذلك ما منح خطابات العروض المسرحية منظومة علاماتية كليانية وشتات مفاهيمي وبنائي هو تواصل ومقولات (تكاملية) العرض المسرحي، فكانت (شعرية) العرض موضع (جدة) رؤيوية بعد استنزاف العرض ذاته لعلامات ذات تمركز وشمولية فلم يعد النص وحمولته الغوية وملفوظيته موضع تواصل أحادي وتفعيلي ولم يكن الفضاء (توقعة) مهندسة بتقليدية جغرافية مغلقة بعلامات الأشغال والتأثيث والعرض وللمتلقي حضوره في سيميائية خطاب العرض ووحداته البنائية وفق سعيه إلى (كتابة) لغته الذاتي وفق إجرائية فينوفيو لوجية وما ينتجه ذلك وفق (دريدا) من (سوء قراءة) بتعدد قراءات او كتابات العرض المسرحي دون الوصول إلى (جوهر) ثيماتي أو جمالي فالغائب هو الحاضر.
الفرجة: أود أن تضع لي مقارنة بين ما قدم من نصوص مسرحية في عهد السبعينيات والثمانينيات وما قدم خلال أعوام الحصار والحروب الأخيرة؟
د. أبو خضير: يستجيب السؤال إلى نسق (التسجيل) و(التحقيب) الدلالة الكبرى للثقافة العراقية المؤسسة على توالي (العقود) وما يحفره كل عقد من (فنادق) وأسيجة شاهقة .شاهرة قطيعة مع السابق واللاحق ورغم فضائل النسق (التحقيبي)هذا في مجمل دلالاته وإعلان منظومة حائزة بعينها إلا أن الخطابات الفنية والأدبية لها نسق ثقافي مستتر تتواصل به مع ذاتها رغم خصوصيتها واجد مع (ادونيس) وبعيد عن أحصنة (الكيتو) بأن الثقافة العراقية ذات محمولين أولهما (تعقيلي) يعتمد أبعاد الاستئناس والطمأنة بالواقع والمحفل التراثي والموروث وذخائر المتحف الثقافي وثانيهما (تخييلي) مستشرف للآتي دون متعاليات ونواميس حاكمة ويمكن افتراش ذلك على مجمل مسارات المشهد الثقافي دون خصوصية ل(عقد) أو حقبة فثمة غلبة ل(مسار) على آخر بين ذائقي أو فني. إذ يمكن إدراج خطابات السبعينات في مسار أو المستوى (التعقيلي) اثر جملة عوامل ساسيوسياسية وثقافية شهدها هذا العقد بأثر الثورة النفطية الأولى المستثمرة من قبل المؤسسة السياسية السابقة للتبشير بخطاباتها الأيدلوجية الإغوائية فما تزال تلك الخطابات جامعة لمسميات مثل خطاب (الملامة) والنواح على فقدان الذات لوجودها بأثر تركات أفكار عقد الستينيات واجد في عقد الثمانينيات في منظومة الفنون والآداب العراقية من (تشكيل / مسرح / شعر /قصة / رواية / موسيقى) ذات تطلع لتقويض (المعطى) الفني أثر نيران الحرب وما يتيحه ذلك من غاية إجرائية في الإطاحة بالمركوز والسائد والمؤسس وحضور الغائب السيريالي ومظهر العجائب ومهمش الأسطوري والأنثروبولوجي وهي ثيمات أمهرت حضورها في عقد التسعينيات وحتى لحظتنا هذه فالظروف الإنسانية عموما ومسمياته السياسية والاجتماعية والفكرية لم تزل في تناسل وتنوع ونخلص إلى أن مسرح التسعينيات وفنون قائمة بكل حمولتها في مشهدنا المسرحي والثقافي فالحروب لم تزل منتجة لفواجعها ودراماتها المحدثة لتجعل من التراث الفني موافقة عن حضورها الشخصاني في واقع خارج مسميات معاجم الاتجاهات الفنية والأدبية.
الفرجة: أيمكننا المراهنة على مسرح عراقي جاد يصبح نموذجا حيا لغيره
د. أبو خضير: يمكن أن اؤشر على الخطاب المسرحي أو أي خطاب لم يعد حاملا أو مقفلا على انساق التشغيل ليكون في فضاء الإنسانية ودور العالمية تلك المقالات المحايثة والمجايلة للنصوص الكلاسيكية من رواية ومسرح وموسيقى والخطاب الفني. الآن دون نمذجة إلا نمذجته النفسية ذاتها فالشاعر أو النص النموذج أو الأديب النفسي في غياب دائم ذلك. إن المشهد المسرحي والروائي وغيرها دون ريادة أو شكلنة لمعيار إلى فتح جيوب وخصائص لكل خطاب أو ذات دون المساس بالمعنى ذاته فالتمركزات المسرحية فيها عرف بالأساليب الإخراجية. وما سعى الدرس الأكاديمي إلى تكريسه بدءا من (ساكس فننكن) إلى (باربا) لم تعد له خصوصية بعينها داخل فضاء العرض المسرحي فهي بكلياتها تؤسس أبعاده الإنشائية والتواصلية وهي ما حصل لما يسمى ب (شعرية) خطاب العرض وأبعاده (الليبرالية) والتشاركية لمجمل الاتجاهات المركوزة لتلك ولا زالت متحفظا حيال دلالة (الجاد). فالفن في عموميته (لعب حر) ليسخر وإن بجدية من الشوائب والنواجس والمقوس والموهوم والمؤدلج، فجماليات العرض في تناقضاتها كما اسماه الفن الصوفي تغييب وتنحي دلالات السخرية والهجنة والكاريكاتيرية المسعى الأساس والأهم في خطابات الفنون والآداب، الحداثة عموما ولعل في عروض الإيطالي (داريفو) دليلا قائما على الإطاحة بكل ما هو (جاد) بواسطة (اللعب) الهجائي الساخر وذلك أكثر من نصوص الدراسات الكلاسيكية في معايشته للواقع والمأساة الإنسانية المنتج العقلاني لمسميات التنوير والحداثة والخطابات المسرحية في مجملها. وكما أتيح لنا ملاحقة بعض مصوراتها تنحى صوب الدوران والالتفافات نحو أي ملمح أو علامة حياتية ببعض (امبريقية) و(ميكروسكوبية) وهي في حراك يناظر (رقعته عباد الشمس) في قطريتها لكل مكونات الفضاء (والحجرة) هي إعادة إنتاج أسئلة لم يستطع العقل الإحاطة بها دون يقينيات ونوافل، وهي أيضا تحميل العقل الجمالي والفني محمولات لا عقلية وتفلتات من التمركز العقلاني ودلالات (النقدية) وفلسفتها لتلك الإجرائية الغائية والمغيبة من ثقافتنا العربية الإسلامية عموما فالهوة في بث روح النقد وقراءة الماضي الجمالي والفني وأشكاله بهدف تقويمه.