التجريب في المسرح الأمازيغي.. مسرح نون نموذجا / كريم الفحل الشرقاوي

مسرح نون .. منزاح عن كل خطاب يقيني يطعن في حصافة النزق والوله بقدسية اللعب وجنوحه المشروع لزحزحة المركزية العقلانية المدربة على احتواء ميتافيزيقا الممكن وفض أسئلتها الحارقة والمشتعلة في  حميمية  متواطئة ومدجنة . وبالتالي فهو مسرح يعشق اللعب داخل خطوط الإرتياب الملتهبة .. ومن ثم يعكف حريصا على استيلاد حضوره من رماد النسق الذي تدمره الأسئلة المحتدمة فور ارتمائه في أحضان الاستكانة المطمئنة الى خطابه اليتيم .
مسرح نون .. ينقذف متربصا بشروده وامتثاله لتمرده الركحي حتى يكون حضوره متحصنا بالتباسه  وانخطافه  وشعائريته المتحينة بكل النصوص الممكنة … ومن ثم استنفار العلامات المأججة لدينامية اللغة / اللغات المتوجسة .. المرتابة ..  الماكرة .. والمحتفية بنشوة التخطي الذي يبتغي هتك وافتضاض كل العلامات المحنطة والفاقدة لوعيها الحر .. العفوي ..  الحيوي… الموسوم بالتعدد والتكاثر والتكاثف ..المِؤسلب بتقاطع لغاته وأنظمة وصوره وخطاباته …فما هو مخصص للنموذج يهوي مسهبا في الانقطاع .. في الاقتلاع الموشوم بتفكيك الأطروحي والنمطي والمغلق والمحنط .
إن مسرح نون ينفذ إلى مشارف أنطولوجيا الاختلاف .. ليجز بفهرسه في معمعان المتعدد حتى تتراجع مصادر الحقيقة الواحدة ( نص المؤلف.. نص المخرج ) ليصير ” نص العرض ” هو النص الأعلى . باعتباره نصا / مشروعا للتعدد والتكافؤ والحرية والاختلاف والحوار مع وبالآخر. وذلك عبر التنصل من سلطة النص وسلطة الرؤية الواحدة وسلطة اللغة الواحدة وسلطة الحقيقة الواحدة … ليصير العرض المسرحي التجريبي مالكا لوعي متعدد اللغات .. متعدد الفضاءات  ..  متعدد النصوص..  متعدد السلط .. متعدد أشكال وأنماط الفرجات… وذلك من خلال كتابة  دراماتورجية مضادة.. تراود الحفر والتدمير والتفكيك والتركيب والتفجير والتوليف والبحث مع / ضد كل النصوص الممكنة والمحتملة. وقد انعكست هذه الاختيارات الجمالية السالفة الذكر على الاشتغالات الركحية لفرقة مسرح نون حيث سبق للفرقة أن  اشتغلت على اللوحات التشكيلية للفنان التشكيلي هشام بن الشريف وحولتها الى نص / عرض مسرحي في مسرحية ” موسم الطيور السوداء”. ولملمت المقالة الصحفية في مسرحية ” السيد ميم “. واحتفلت بالشعر والجسد في عرض ” لسعات الجسد على صفحات الثلج” و مسرحت رواية الشاعر والكاتب حسن نجمي في مسرحية ” الحجاب ”  واشتغلت على الكروتيسك في مسرحية ” أهل المخابئ “. ونحتت جسرا سيكودراميا بين عام العرائس وعالم الممثلين في مسرحية ” عرس العنكبوت”    واشتغلت على مسرحية ” الحذاء ”  بثلاث معالجات درامية. وقدمت مسرحية ” الرجل الذي باع الشمس ” في نسختين العربية والأمازيغية.
والإشارة فقد تم إدراج هذا المدخل / الأرضية مع سبق الإصرار والترصد بغية التأكيد والتنصيص على أن تعاطي فرقة مسرح نون مع المسرح المغربي الناطق بالأمازيغية لم يشكل بأي حال من الأحوال انعراجا أو تحولا في مسارها ومبحثها الفني والإبداعي الذي تبنته خلال اشتغالها على أعمال مسرحية مغربية ناطقة بالعربية الفصحى أو بالعامية.  بل شكل استمرارا لاختياراتها الفلسفية والجمالية وهذا ما انعكس ركحيا وتجلى ابداعيا في مسرحية ” أركاز إزنزن تافوكت ” التي سبق لها أن حازت على الجائزة الكبرى من المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. ومسرحية ” تاماتارت ” التي نعتها بعض النقاد بالمسرحية الأكثر تتويجا في تاريخ المسرح المغربي. حيث حصدت في موسم واحد على أكثر من 13 جائزة بمختلف المهرجانات التي شاركت فيها .
   ** مسرحية “أركاز إزنزن تافوكت  (إعداد: فوزية بندادا / إخراج: كريم الفحل الشرقاوي) 
داخل فضاء غرائبي هو عبارة عن جحر كبير تطالعنا شخصية إشكالية لرجل مثقف هامشي حاصل على شهادات عليا في علم الحفريات. إلى أنه وجد نفسه بعد رحلة طويلة في عالم العطالة والإقصاء مجرد حفار في مقبرة منسية . لهذا قام بدفن كتبه وبحوثه وشهاداته في قبر داخل عالمه المنسي قبل أن يقرر ذات ليلة صقيعية باردة اختطاف امرأة فاتنة واعتقالها داخل جحره الأسطوري لتكون قربانا آدميا يفدي العالمين. ومن خلال ممارسته العنف النفسي والجسدي والرمزي على المرأة..  يقوم الرجل بإدانة العالم والواقع والناس. وهكذا فجرت المرأة حمم براكينه وأيقظت جحيم عقده وكبواته ومكبوتاته … فمارس ساديته عليها وسط طقوس وشعائر غرائبية محولا جسدها إلى قربان لهزائمه وانكساراته وغربته واغترابه داخل جحره .. هذا الجحر الذي وظفته الرؤية الإخراجية لتكريس العزلة النفسية والاعتزال الرمزي والإقصاء الاجتماعي للشخصية المركزية غير المتصالحة مع ذاتها وواقعها وعالمها الخارجي. في المقابل يتم تجسير علاقات حميمية  مع  الإكسسوارات المتشكلة من الدمى والبيانو ولعب الأطفال كالمسدسات والدراجة الهوائية والمزامير والمفرقعات … حيث تتحول هذه الملحقات إلى شخوص دالة وفاعلة ومتفاعلة مع الشخصية المركزية .. لتشكل هذه العلاقة مع لعب الأطفال جسرا إبداعيا ساخرا لتمرير خطابات كاريكاتورية حول أنماط اللعب الإرهابي الذي يمارسه الكبار .. وبهذا يتحول العالم سيميائيا إلى أدوات للعب في يد الرجل سرعان ما تستحيل دلاليا إلى عملية كشف الحجاب عن آليات التسلط واللعب بمصائر الأفراد والجماعات والأمم والشعوب . وهكذا تتحول لعب الأطفال بين أيدي المثقف الهامشي إلى تاريخ طويل ومرير من العنف والتسلط والقهر السياسي والاجتماعي . وهو نفس القهر الذي تعرضت له المرأة من طرف زوجها الذي طلقها بسبب عقمها حيث كان ينعتها دوما بالأرض البوار. لتبدوا المرأة بفستانها الأحمر داخل عتمة الركح كبقعة دم متلبدة .. أو جرح ينكأه مجتمع ذكوري لا يرحم .ومع توالي الأحداث وتواترها تكتشف المرأة المختطفة أنها أمام شخصية مأزومة غير قادرة على مواجهة ذاتها وواقعها وعالمها الخارجي . فتصفعه بالحقيقة المرة … وهو مجرد فأر يحاكم العالم والواقع والناس من فم الجحر .
لقد اعتمدت العملية الإخراجية لمسرحية ” أركاز إزنزن تافوكت ” على فضاء عجائبي كروتيسكي يتشكل من جحر كبير يجثم في جهته اليسرى بيانو كلاسيكي أنيق.. بينما يتخذ فراش النوم شكل جحر صغير أما في الجهة اليمنى فينتصب شاهد القبر أو مدفن مخطوطات وأبحاث الرجل. في حين زادت الإكسسوارات التي هي عبارة عن دمى ولعب للأطفال من فنطازية الفضاء الركحي الذي سعى الإخراج إلى اختراق خطيته بفتح تجويفات زمنية من أجل الولوج إلى لاوعي الشخوص وتفجير ترسباتهم الماضوية الكامنة في غيابات ذواتهم. كما اعتمدت عملية الكتابة الإخراجية على إيقاع  دينامي ذو نفس حركي وإيقاعي متوثب . حيث تتوالى الأحداث وتتواتر داخل إيقاع لاهث تسانده مفارقات ونتوءات تخترق الخط البياني للحكاية مفجرة من خلالها لغة سيكودرامية باطنية مقعرة تفجر كوابيسها وأحلامها من خلال مشاهد بصرية حالمة.
        **مسرحية  تاماتارت  ( إعداد: فوزية بندادا / إخراج: كريم الفحل الشرقاوي) 
مسرحية “تاماتارت ” تم اعدادها دراماتورجيا عن نص ” لست أنت جارا ” للكاتب التركي الساخر “عزيز نيسين” ولكون هذا النص المسرحي الشهير اشتغلت عليه العديد من الفرق المسرحية العالمية والمغربية بكثافة قل نظيرها. فقد تم إدخاله عمدا إلى مختبر مسرح نون لتقديمه عبر ثلاث رؤى إخراجية بهدف الانفلات من شرنقة القراءة اليتيمة للنص الدرامي . وتهشيم سلطة القراءة الواحدة والرؤية الإخراجية الواحدة وتكريس القراءة المتعددة الزوايا لأجل الانفلات من التأويل الأحادي للنص / العالم. الأمر الذي أخصب المتن / المتون الثلاثة التي تغيت إبراز تيمة ” الزيف ” التي يعاقرها النص الأصلي في صورها المتعددة وتمظهراتها المتجددة وتجلياتها المختلفة. الشيء الذي ساهم في تعميق دلالات هذه التيمة وتفجير مدلولها الفلسفي والفني والجمالي. وهكذا تمت إعادة قراءة هذا النص من زوايا حادة ومتعددة من خلال تفجير أنساقه الدلالية وتشظية مكوناته الإبداعية واستكشاف مساحاته التحتانية والتوغل في بنياته العميقة. بإعادة قراءة اللغة والحوار والإيقاع والشخوص وكل العلامات المتشابكة والمتكاثفة داخل المتن المسرحي . تعززها لغة بصرية مرئية حاولت شحن بلاغة الكلمات والأجساد والصور … وإعادة توزيعها داخل فضاء سينوغرافي يراهن بدوره على تأثيث وتشكيل لغته وأنظمته اعتمادا على المعطى البصري الذي ساهم في تكريس التعدد الفضاءاتي للعرض. وإذا ما عدنا إلى تيمة الكاتب التركي الساخر “عزيز نيسين” فإن صاحبه وكعادته في جل أعماله الأدبية أو الدرامية لجأ إلى القالب الحكائي الساخر في نسجه لأحداث ووقائع نصه الدرامي من خلال قصة مواطن يعاني في مدينته الصغيرة من قهر الحاجة وقهر زوجته البدينة الفظة. وللخلاص من حياته التعيسة والهروب من جحيم زوجته السادية. قرر التطوع ضمن صفوف جيش بلاده الذي يخوض حربا على الحدود ضد دولة معادية لعل رصاص العدو يخلصه من حياته البئيسة. ولكونه كان يبحث عن الموت أو بالأحرى الانتحار بأي وسيلة فقد اخترق وحده دفاعات العدو قبل أن يختفي عن الأنظار. فتحول المواطن الهارب من زوجته وفقره إلى بطل أسطوري ورمزا للتضحية والبطولة والوفاء للوطن. لتتناسل من حوله الأساطير وتنسج حول بطولاته حكايات خارقة كانت أغلبها من تأليف جاريه ورفيقيه في الفقر والحرب الذين استفادا ماديا ومعنويا وسياسيا وانتخابيا من البطولة المزيفة لرفيقهما. حيث انتخب الأول عمدة للمدينة الصغيرة وحظي الثاني برئاسة مجلسها البلدي في حين استفادت زوجته الفظة من تعويضات مادية مزجية. وبعد مرور سنة على استشهاد البطل الأسطوري المزيف .. قرر رفيقاه في الكفاح الوهمي أن ينصبا له تمثالا في مدينته الصغيرة. لكن وقبل أن تبدأ مراسيم الاحتفال يظهر فجأة البطل الذي لم يتعرف عليه أحد ويلتقي بصديقيه ليخبرهما بأنه لم يمت في الحرب وأنه سلم نفسه طواعية للعدو ليعيش بينهم كجاسوس بعد أن سلمهم كل ما يعرفه عن أسرار جيش بلاده. ولكون هذه الحقيقة المدمرة لن تنسف أسطورة الرجل فقط وإنما ستنسف معها أيضا كل الامتيازات المادية والسياسية التي جناها رفيقاه وزوجته. فقد اضطر الثلاثة إلى قتله لدفن الحقيقة معه والاحتفاظ بالصورة المزيفة للبطل الوهمي .
هذه الحكاية التي تعاقر ثنائية الزيف والحقيقة تمت معالجتها كما سبق الذكر من خلال ثلاث رؤى إخراجية . حيث اختارت القراءة الإخراجية الأولى الانحياز لصرامة الرؤية الانعكاسية للنص. والالتزام بالتجسيد المرآوي للبعد الاجتماعي والنفسي  والسوسيو تاريخي للشخوص والأحداث دون اللجوء إلى أي شكل من أشكال الفنطازيا أو التغريب. سواء بالنسبة لخط الفعل الدرامي أو على مستوى النحت الخارجي والباطني للشخوص. وهو اختيار متعمد لأجل ترسيخ التيمة العميقة للنص في ذهن المتلقي وتأهيله فكريا لتلقي القراءات الإخراجية الثانية والثالثة للعرض. وإذا كانت القراءة الإخراجية الأولى قد عكست وبأمانة تفاصيل وجزءيات النص الأصلي بكل مضامينه وأطروحاته المضمرة  والصريحة. فإن القراءة الإخراجية الثانية حاولت تغريب النص وشخوصه بالاعتماد على الكروتيسك والكاريكاتورية مع تضخيم الأحداث والأزياء   والأكسسوارات والتوسل بدبابيس السخرية اللاسعة  و اللاذعة مع توظيف كاريكاتوري لجوقة الراقصين التي كانت تنخرط إيقاعيا في بنية الأحداث لتعميق الدلالة الكروتيسكية للقراءة الإخراجية الثانية والمساهمة في الكشف عن   الأعطاب والتورمات التي يختزنها النص بهدف كشف الحجاب عن الأنماط المتعددة لتيمة الزيف. وإذا كانت القراءتان السابقتان للنص قد تراوحت ما بين الانعكاسية المطمئنة والكروتيسكية المستفزة. فإن القراءة الثالثة ارتأت تهشيم بنية النص وبنية الشخوص وخلخلة معمارية الفضاء مع النزوع إلى تفتيت الدلالة وتفجير نواتها من خلال تفكيك العلاقة الاعتباطية بين الدال والمدلول بفعل تواطئها المشبوه مع كل أشكال الزيف والتطبيع معه سياسيا وسوسيو ثقافيا . لهذا سعت القراءة الإخراجية الثالثة للنص إلى نسف سلطة الكلمة وهدم أسوارها وسجونها وقلاعها ومتاريسها والاعتماد على لغة  الجسد.. باعتبار جسد الممثل هو عنف الصبوة المثلى لتلقيح رحم الفضاء الركحي ولملمة فراغاته .. من خلال وشمه بالدم .. بمنطق الهوية .. بكاترسيسية الإخصاب .. بالتمزيق الفضائحي لبكارة الركح .. كاشفا بلدغاته الكوريغرافية ولسعاته الإيمائية عن تعدد أقنعة الزيف التي تغلف الكثير من الحقائق التي تحول بعضها إلى أساطير وهمية تهيمن على فكر ومعتقدات الجماعات والشعوب.
 
** ملاحظة: هذه المقالة كانت مداخلة للمخرج المسرحي ( كريم الفحل) ضمن فعاليات اليوم الدراسي المغاربي حول موضوع:” المسرح الأمازيغي: التجارب و الرهانات” وذلك ضمن فعاليات الدورة السابعة لمهرجان النكور للمسرح
 بالحسيمة (يوم الأربعاء 30 سبتمبر/ أيلول 2015)
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت