المهرجان الختامي لنوادى المسرح يفتتح عروضه الليلة بالقاهرة / د. حسن عطية
ويكرم د. محمد شيحة االأستاذ الحازم ذو الابتسامة الرائقة
عندما تمتلك إرادتك ، وتدعمها بالوعي، يمكنك أن تكتشف ما لديك من قدرات، فتفجرها وتنميها وتسير بها في الطريق الصحيح، هكذا أدرك الفتى المولود في السويس أواسط أربعينيات القرن الماضي، رغم جذوره الزرقاوية فيما بين المنصورة ودمياط، و الذي أستقر المقام بأسرته في شارع الماس الحاجب بحي الحلمية الجديدة، في هدوء حي البورجوازية الصاعدة، اللصيق بصخب حي السيدة زينب الشعبي، حيث نمى إدراكه الوجداني للعالم وسط محيطه الاجتماعي أواخر خمسينيات القرن الفائت، جامعا بين هدوء الشخصية وصخب العقلي، ونمى وعيه الثقافي في خضم حركة التنوير الفكري والفني التي تبلورت بقوة في تلك الستينيات التي تحولت عند جيلنا بأفكارها وإبداعها لفردوس مفقود، نعرف أنه لن يعود، فثمة مياه جديدة وضحلة جرت في النهر، لكننا ننظر إليه كفضاء فعلي تحقق بأيدي أبناء هذا الشعب الذي أراد أن يكون له دور وسط وطنه، وفى قلب العالم بالعقل الناضج والإبداع المتعلق بالأمل القادم .
أرتاد فتانا مسارح وسط البلد، يتعرف على المتميز في المسرح القومي وفرق التليفزيون قبل أن يتم فكها لفرق الحديث والحكيم والكوميدي والفرق الخاصة أيضا، فتكاد تراه يوميا في أروقة المسرح القومي وندواته الأربعائية الثرية، متعلقا بفتاه مهران المطالب الحاكم بعدم إرسال جيشه لليمن، فالعدو الحقيقي على الأبواب، أو متواجدا بعروض مسرح الحكيم وناديه المشغول بعقد اللقاءات المثمرة بين الجمهور والنقاد والمبدعين، أو بنادي السيارات ثم مسرح الجزيرة فيما بعد منبهرا بمحسنة توفيق وهى تجسد دور كاسندرا في مسرحية (أجاممنون)، ضمن عروض فرقة مسرح الجيب المثيرة للجدل.
بعد ثلاثة أشهر فقط من هزيمة يونيو 67 التحق بقسم النقد المسرحي بالمعهد العالي للفنون المسرحية، جاء إليه وهو في الصف الثاني بكلية الحقوق، التي التحق بها كعادة أبناء الطبقة المتوسطة وقتذاك، بناء على ضغط العائلة، خاصة وقد كانت كلية الحقوق مع كلية الآداب من كليات القمة التي يهفو إليهما الشباب الباحث عن التميز، جاء إلى المعهد حاضنا أعمدته وجدرانه، ربما دون أن يدرك أن هذا هو فضاء تحققه، وربما كان يعرف طريقه الحقيقي، أن يكون معلما لأجيال قادمة، وأستاذا يعرف كيف يوصل المعلومة لطلابه، ويثير عقلهم للتفكير الحر، ويحتضن الموهوبين منهم، ويفتح مكتبته للجميع، ويحدو على الباحثين الساعين لامتلاك المعرفة الحقيقية، لا يرد سائل، ولا يهتم أن يكون تلميذه أو تلميذ أحدا غيره، فكلهم أبنائه، إلا أن موقعه كأستاذ بالقسم الذي عشقه، تأخر عنه لأكثر من عشر سنوات للتعنت في تعيينه، فالتحق ضابطا بالقوات المسلحة تأدية للخدمة الوطنية، عقب تخرجه في المعهد عام 1971، متسلحا بدراسة نقدية وحقوقية رفيعة، عمقت ملكة النقد الموضوعي عنده، وجعلت حكمه على الأعمال الفنية يتأسس على ضمير القاضي، فتمسك عقله بكل القيم المثالية الإيجابية في الحياة، مما دفعه في البداية نحو البرناسية كمذهب يرى الفن غاية في ذاته، لا مجرد تعبير عن الذات ولا عن المجتمع، تتجلي فيه كل القيم الجميلة، ويسمو بالوجدان الإنساني لآفاق غير محدودة.
أنهى خدمته الوطنية أوائل عام 974 ، ليعود للحياة المدنية، ليجد نفسه معينا من قبل القوى العاملة بوزارة الثقافة، وملتحقا بإدارة الرقابة على المصنفات الفنية بها، فمديرا لمكتب رئيسها وقتذاك “منصور حسن”، مستقبلا كل المتعاملين مع هذه الإدارة المستفزة للبعض بود شديد وابتسامة بشوشة وصوت يعرف كيف يضبط مستوياته بذكاء فطرى، وهو سلوك يعد إحدى سمات شخصيته : فهو جنتلمان في تعامله مع الآخرين، دمث الخلق، لطيف المعشر، يستطيع أن يحتويك إذا كنت مؤدبا معه، أو يستفزك دون أن تغادر الابتسامة وجهه إذا تجاوزت حدودك معه، يمتلك قلبا طيبا، لكنه أبدا لا يتهاون في حقه ولا حق العلم، يتمسك بالقيم الإيجابية، إلا أن عمله في الرقابة أتاح له فرصة قراءة مئات النصوص المسرحية والسيناريوهات السينمائية والحكم عليها، والاحتكاك بكافة المتعاملين مع الرقابة من أول “يوسف شاهين” حتى أصغر منتج في سبعينيات القرن الماضي، مما قرب الواقع من مثاله، ومزج رؤيته الراقية للفن برؤية مجتمعية تتعامل مع الفن في سياقه الاجتماعي ولحظته الزمنية، فضلا عن حضور الجمهور المجتمعي في سياق رؤيته النقدية للفن، دعمتها فيما بعد دراسته بقسم الصحافة بكلية الإعلام وحصوله على دبلوم الدراسات العليا بها عام 1979، وإنهاء السنة التمهيدية للماجستير، وبداية الإعداد لأطروحة إعلامية، توقف عنها حينما طلبه د. فوزي فهمي عميد المعهد العالي للفنون المسرحية أوائل الثمانينيات، مع رفيق عمره كاتب هذه السطور، للتعيين بالمعهد، فقبلا معا العودة بعد عقد كامل من الزمان ضاع من عمرهما، غير أن عشقه للدراسة والتدريس كان أحد أهم الدوافع التي جعلته يترك منصب رئيس الرقابة التي كان على وشك تسلمه للعمل بالمعهد معشوقه وساحة تحقق أحلامه.
حملته أمواج المعهد إلى النمسا لدراسة أحدث فنون المسرح ونقده، فحصل على درجة الدكتوراه، وعلى معرفة دقيقة باللغة الألمانية، وعاد ليتبوأ موقعه الصحيح كأستاذ لفنون النقد والكتابة الدرامية وفنون الاتصال الجماهيري، وتخرج على يديه العشرات من النقاد والكتاب والفنانين الذين يتسيدون الساحة الفنية اليوم، ولم يقف عند حدود دوره المتميز كمعلم راق لتلاميذه، بل راح يكتب الأبحاث الرصينة والمقالات الموضوعية الجادة في الدوريات المصرية والعربية، متسلحا برؤية للعالم ترى الفن بناء جماليا مؤثرا في ذاته، وموجها موضوعه نحو الوعي بقدرة المرء على التغيير، ومتعاونا مع كل المؤسسات الثقافية والشبابية، قارئا للنصوص الدرامية، ومحكما للعروض المسرحية في الجامعة والهيئة العامة لقصور الثقافة، ومحكما أيضا لترقيات العديد من الأساتذة والأساتذة المساعدين بالأكاديمية والجامعات المصرية، ومشرفا ومناقشا لعشرات الرسائل العلمية في أكاديمية الفنون ومعهد الدراسات العليا للطفولة وكليات الآداب والتربية النوعية في العديد من أقاليم مصر، يوجه الجاد منهم نحو أفضل السبل العلمية لصياغة رسائله، دون أن يتدخل في أفكاره، ويناقش المجتهد منهم بحب شديد، ويمنحه الدرجة بحزم قاطع، فهو لا يخضع للابتزاز ولا يتنازل أبدا في حق العلم، ولا يصدر حكما لهوى أو لمنفعة شخصية، فالقاضي النزيه قابع بأعماقه، والإنسان المحب للناس لا ينسى مطلقا أن الأخلاق القويمة قرينة العلم الرفيع، فإذا ما أصيب القوم في أخلاقهم فسد معهم أي علم يتصورون أنهم تحصلوا عليه .
أتحدث هنا عن الإنسان الخلوق الناقد والباحث والأستاذ المتميز د. محمد شيحة، الذي لا تكفيه بضعة كلمات بمناسبة تكريمه، بل بحاجة لأعداد كاملة من (مسرحنا) تفتش عن بصماته المضيئة في كل مكان، فهو رجل أراد أن يكون جملة مفيدة في حياتنا، فصار عنوانا دالا على أحلامنا في غد نبراسه الضمير العلمي الموضوعي الرصين .