نحو تفــكيك الرّاهن من المسرح السياسي / حاتم التليلي محمودي (تونــس)
1/ المسرح السياسي: لا ثوري
نستطيع القول، ودون شكّ، إن المشهد الثقافي لم يكن مهدّدا فحسب، بل انّه كان يحيا في مناخ الرقابة والتصحّر. وهو اليوم ما يزال عاجزا وفاشلا في تخطّي ذلك، فدعاة الفنّ، كانوا ومازالوا مترنّحين في مناخ الاغتراب وفلك الاجترار والتكرار. وهم الآن سجناء في نسيج مستنقع إيديولوجي وسياسي مثّل رقابة من نوع آخر، وهي رقابة تجعل من الفنّ سلاحا ووسيلة وتورّطه ليخون، يخون الثورة من أجل الحزب ويخون ثوريته من أجل الحدث، ويخون المطلق من أجل النسبي، وهو ما تشهد به معظم الأعمال الفنّية، خاصة منها المسرحية التي نراها اليوم.
يسعى معظم المسرحيين ممّن تباهوا بأجندات الانتماء إلى قتل المسرح واغتياله بقصد أو بغير قصد، كأن يحوّلوه إلى مجرّد وثائق تاريخية، تسرد وتتغنّى ببطولات وهمية للشهداء السياسيين. إنّ هؤلاء الذين انتابتهم حمّى المسرح السياسي في لحظة أجهش فيه الشارع بالغضب، هم ليسوا مبدعين أو فنّاني ثورة بل مجرّد أسلحة في يد الأنظمة والأحزاب والأفكار أو الإيديولوجيات الناشئة كردّة فعل بافلوفية على حقول الدّم المتدفق بعد سيطرة الظلاميين واغتيالهم لكافّة المسارات الثورية، وهم أيضا مجرّد تعبيرات فنّية تصبّ في خدمة المعارضات السياسية، إن لم نقل بأنها هي الأخرى مضادات، تسابق جلّادها في مساحات لا همّ لها إلا اغتيال الإبداع، ذلك إن دورها لم يتجاوز حدود المعارك السلطوية.
إنّ أزمة هؤلاء، تنبع من كونهم عجزوا عن التفريق بين مسرح سياسي وآخر ثوري، الأوّل يعدّ مجرّد أفكار تلقى خطابيا على الركح أو تحليلات لمعادلات اجتماعية واقتصادية، ومحاولة لإقناع الجماهير بالتوجّه إلى معركة سياسية دون أخرى، أمّا الثاني فيمثّل “الهدف الأخير للثورات قاطبة: حرّية الفرد وسعادته” (1)، وبين هذا وذاك لم يفهم هؤلاء إن “طاقة الفنّ السياسية إنما هي كامنة في الفنّ نفسه، وفي الشكل الجمالي بما هو كذلك” (2)، أو بالأحرى لم يكلّفوا أنفسهم معاناة البحث في ذلك، نتيجة سقوطهم في تبعية لمسار الأحداث السياسية المتسارعة.
تفشل الثورات ويغدر بها، أو تحقق تغييرا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ويتبعها المسرح، يتغنّى بها، يحيا بنجاحها ويموت بموتها، لكنه وفق هذا التصوّر يظلّ خاليا من الإبداع، مفرغا من الثورية، وهو بهذا الشكل يموت بموت الحدث الذي أنتجه. هو مسرح زمني في خدمة واقع معيّن ينفى من الأذهان وينسى بمجرّد نهاية الحدث المرتبط بذلك الواقع (3). هذا هو المسرح السياسي الذي نشهده هذه الأيام، أمّا المسرح الذي يحمل نزعة ثورية، فهو ذلك الذي يجادل الواقع ولا يحاكيه، أي أن يراقب الثورة ويخترقها، فهي في النهاية نظام، نظام جديد ونفس سلطوي ومؤسّساتي، لهذا عليه أن لا يتبعها ويمدحها أو يخونها ويهجوها بالسقوط في معادلاتها السياسية الضيّقة، بل عليه أن يخترقها ويظل على الدوام متّجها نحو كسر مستحيلاتها وفصلها عن كلّ فاصل يفصلها عن جموحها وقطعها عن كلّ قاطع يقطعها من أجل الذهاب إلى مملكة الإنسان الحرّ والمتكامل، إذ أن “الواقع الحقّ يوجد فيما وراء الإحساس المباشر والأشياء التي ندركها إدراكا حسّيا مباشرا” (4)..
إنّ المسرح، في نزعته الثورية، هو ذلك الذي يقيم ثورته من داخله، أي أن يحطّم مقوّماته التعبيرية وأشكاله القديمة ويكتشف طرقه الجديدة من حيث الكتابة والإخراج وغيرهما، وإلا كيف يمكن أن نعبّر عن واقع جديد وثوري بطرف فنية قديمة وجاهزة سلفا ومألوفة. وانه لمن السذاجة أن يتعلل البعض بتجربة المسرح السياسي الذي ازدهر في أعقاب الحرب العالمية أو في أمريكا على اثر أزمة 1929 الاقتصادية، والذي كانت نواته الأولى متزامنة مع الثورة البلشفية، فالمسرح الذي شهدته تلك الحقبة الزمنية لم يكن ثوريا بقدر ما كان سلاحا وصدام إيديولوجيات، وتعليميا يهدف إلى تعليم الجمهور مختلف النظريات الاجتماعية والاقتصادية. كما أن التجربة الحالية والظروف الآنية متباعدة، ومختلفة جدا عن نظيرتها القديمة، سيّما من حيث سياقاتها ورهاناتها السوسيوثقافية.
هذا الأمر، دفع بالبعض إلى القول بأن الأعمال الحالية تظلّ ثورية بالرغم من كونها لم تقدّم أشكالا ناضجة، وتبرّر ذلك بطبيعة المرحلة السياسية معطية الأولوية لضرورة تعليم الجماهير، وهي بذلك ظلت متوقفة عند حدود الجماليات التقليدية حدّ السذاجة، ممّا حملها لخيانة الأهداف الكبرى للإنسانية. فإذا كان أوجستو بول ذهب بالقول إلى أن كل محاولة تفصل المسرح عن السياسة هي عملية تضليل لا غير (5) فإنّه هو الآخر تناسى جدلية الثورة والسياسة، ونقصد بذلك المضمون السياسي للمسرح الذي يبحث عن المؤتلف والمختلف بين الفعل السياسي والفعل الثوري، حتى لا تسقط الأعمال الفنية في المباشرتية وتتحوّل إلى مجرّد تأريخ أو خطبا ثورية أو دروسا تعليمية.
ندفع بفكرتنا إلى أقصاها، وذلك بالرجوع إلى أهمّ ما قاله المسرحي بريخت في كتابه الأرغانون الصغير “يجب على المسرح أن يتحدث بصورة قاطعة بلسان عصره” (6)، ونفهم من هذا القول استنادا إلى الإيديولوجية التي يحملها هذا المسرحي، إن المسرح لا يمكن أن يكون إلا منخرطا في صلب الصراع الطبقي، مناصرا للحركات العمالية وعدوا لدودا للبورجوازية، أي أن إقامته لا تتعدّى المعارك الاجتماعية والسياسية، وهو ما يمكن نفيه بسهولة تامّة وذلك كأن نتساءل عن مصير المسرح بعد زوال الاعتراضات اليومية وتحقق “مملكة الضرورة” ومن بعدها “مملكة الحرّية”، فهل سنتحدث عن نهاية الفنّ المسرحي في تلك الحقب القادمة؟ وهل فعلا ستزول الفروقات الاجتماعية كما نظّرت الماركسية بشكل حتمي؟ وكيف يمكن اختزال العمل الفنّي في معركة زائلة سيزول بزوالها؟ ألا يمكن اعتبار هذا الأمر مجرّد حصر للبعد الإبداعي وتقييد له؟ ألا يعدّ اختزاله فيما هو اجتماعي ضرب من ضروب خصي البعد الذاتي في الإنسان ونفي لطاقاته التحررية؟.
لقد أوغلت الماركسية كثيرا في نقدها للبعد الداخلي- الذاتي للفنّ وفي “ازدراء انشغال الأدب البرجوازي بتشريح النفس البشرية- وقد فسر بريخت هذا الازدراء على أنه علامة وعي ثوري. لكن هذا الموقف لا يختلف كثيرا عن ازدراء الرأسماليين لأبعاد الحياة التي تدرّ ربحا” 7)، وهو موقف كان قد تداعى منذ سنة 1938 حين هاجم السورياليون بمعية ليون تروتسكي جمود الماركسية وتخلّيها عن تلك الأبعاد القصية داخل الذاتية الإنسانية (8).
2- المسرح في جوهره: رؤية أخرى للثورة
يبقى المسرح أعمق من مديح إيديولوجي، لأنه عبارة عن تخصيب لأبعاد الثورة، وتدفق مستمرّ لنزعتها المستقبلية، ونقد لاذع لموتها وانحباسها في منظومة معينة. ذلك أن الإنسان لا يحيا في تنظيمات ولا ينتمي لطبقة اجتماعية في حدّ ذاتها إلا مؤقتا، وهو في النهاية يعيش في الحرية المطلقة التي لا تتأتّى إلا عبر نزعة وإرادة مستقبليتان تصلان به إلى غايته القصوى. والمسرح هنا فيض مستمرّ لاختراق السياق الزماني والمكاني، كأن يرتفع إلى اللانهائي ويخلق تصورات جديدة من حيث الكتابة والفضاء والإخراج والسينوغرافيا تليق بمستوى الحدث الثوري، كأن لا يقتصر على تمجيد روح الثورة التخريبية ومدح فعلها البنائي أو تقمّصه لدور يهتف بالهجاء، بل يذهب إلى حدّ موازاتها فنّيا ليصبح الواقع الثوري خارجا عن إطار الجمود بقابليته التفجّر من جديد (9).
تعدّ الثورة لحظة انتقالية تستدعي تثويرا مستمرا نزولا عند الحتمية المستقبلية وهو ما لا تقبله الأجهزة الحزبية البيروقراطية التي تحوّلها إلى معطى جامد، أمّا المسرح فهو نزعة في اتجاه المستقبل ودعوة ثورية متجددة، لا يموت بمجرد موت الثورة وانحباسها في مقتضيات النظام، وبقاء المسرح في نزعته الثورية لا يمكن أن يعود إلا إلى ذلك النسغ العظيم الذي صاحبه، أي انه مكتنزا بطاقة ثورية تتجاوز الأوضاع الراهنة، وقيمته تكمن في ما يعتبره البعض بالنخبوية أو يتهمه بالغموض.
تظلّ الثورة وسيلة عبرها يصل الإنسان إلى كنهه والى جوهره، وهي مطية للإقامة في أفق الحرية، أي إنها تتوالد باستمرار ولا تهدأ، تراجع نفسها وتتقدم باتجاه الآتي، ولكنها تصطدم بواقع السلطة في شكلها السياسي التنظيمي فتكون مدعوّة للتفجّر من جديد كي تتخلّص من البنى الاقتصادية والاجتماعية الراهنة كما تخلصت من غيرها القديمة. أما المسرح، فهو على غرار ذلك، مدعوا إلى نقض أشكاله وأنماطه ومدارسه وتياراته القديمة، لذلك فإن المسرح الذي يقلّد الثورة بوصفها، ووصف منجزاتها، هو مسرح خائن للحرية والثورة، أما المسرح العظيم فهو ذلك يذهب إلى تفكيك الواقع ويشير إلى مواطن النقص فيه بهدف تغييره من جديد، وهو لغة المستقبل، يدحض باستمرار كل أشكال الالتزام في مفاهيمها السارترية ويخلق عبر كتابة جديدة ورؤية مغايرة للفن مناخا جديدا لواقع أرحب وأسمى، فهو لا يعلّم ولا يبشّر ولا يدافع ولا يمدح ولا يهجو، بل يذهب إلى تغيير الطرق المألوفة في رؤية الكون، وهو بهذا يعيد خلق الحياة فرجويا، عبره تتشكّل صورة الإنسان الحقيقية البعيدة عن الزيف والاعتراضات اليومية، وهو أيضا يقف على فوهة المطلق ليحلّ الأسئلة الأكثر خطرا والمسائل الأعمق والأعقد التي اعترضت صيرورة حياته المكبلة بالاغتراب اليومي وبالتناقضات الاجتماعية.
إن صورة المسرح هنا، تنبع من رؤية تقول بأنه لغة ما بعد التناقضات ولهجة الإنسان بعد تحرّره من كلّ الأشكال السلطوية، وهو بيان جديد لا مناص في خلاصه إلا بالتخلص من أشكاله الفرجوية السائدة حتى تتسنى له الإقامة في مناخ الإبداع.
** الهوامش:
(1): ماركوز هوبرت “البعد الجمالي”، تر:جورج طرابشي،دار الطليعة للطباعة والنشر. ط: 1ـ 1979، ص:86.
(2): نفس المصدر، ص:07.
(3): ثمة أعمال مسرحية صارت أشبه بالمواقف السياسية المؤرخة لحدث ما، تماما مثلما نشهد في العمل المسرحي “تسونامي” للمخرج التونسي فاضل الجعيبي، ولا شك إطلاقا أن ذلك العمل المسرحي سيموت بموت ذلك الحدث، فهو وإن تناول جدلا سياسيا كبيرا شهدته الساحة التونسية من خلال تناحر الإيديولوجيات التي أوصلت لحد الاغتيالات السياسية، سينتهي مضمونه بمجرد انتهاء ذلك الصراع، وبالتالي ستبقى مجرد وثيقة تؤرخ لظاهرة معينة، لا فعلا إبداعيا يخرج الدائرة بغية فعل ثوري، جمالي/ مستقبلي.
(4): هيقل “المدخل إلى علم الجمال” الأعمال الكاملة، المجلد: 07، تشوتغارت فرومان، ص: 28.
(5): دوارة فؤاد “مسرح المقهورين”، مجلة العربي الكويتية، عدد: 272، يوليو 1981، ص:146.
(6): بريخت”الأرجانون الصغير”، تر: فاروق عبد الوهاب، مركز الشارقة للإبداع الأدبي، هلا للنشر والتوزيع، ص:69.
(7): ماركوز هوبرت “البعد الجمالي”، ص:50.
(8): أندريه بروتون، دييغواريفيرا “نحو فن ثوري مستقل”، المكسيك، 25 تموز 1938 .
(9): جان ديفينيو “سوسيولوجية المسرح”، دراسة في الظلال الجمعية، حافظ الجمالي، دمشق، ص:06.