من تأصيل الوعي بالمسرح إلى توطين الممارسة المسرحية: تساؤلات حول آفاق المهنية/ د. عز الدين بونيت

 
1/ التقديم:
من الصعب تركيز مجرى الممارسة المسرحية المغربية على مدى قرن من الزمن في بضع صفحات. من أجل بلوغ هذه الغاية، يلزمنا القيام بعملية انتقاء حاسمة، وضغط المعطيات إلى أقصى حد. ومن جانب آخر، يعلم الجميع أن التحقيب التاريخي، أو بالأحرى تسمية الحقب التاريخية، ما هي إلا نوع من الاستعارة (بالمعنى البلاغي للكلمة) الرامية إلى إضفاء قدر من التماسك على عملية الانتقاء والترتيب، تتيح معقولية أكبر لفوضى التتابعات الزمنية المختلفة الاتجاهات، وتضفي معنى على سلاسل الأحداث التي يتم بناؤها. وغالبا ما تخذل هذه العملية المسعى الحثيث للوصول إلى المعنى الشامل للتاريخ، على فرض وجود مثل هذا المعنى.
وفي الأحوال كلها، يحتاج المسرح المغربي اليوم إلى نظرة تجميعية تحاول إضاءة الخيوط الرابطة بين مختلف جوانبه ومراحله ومحطاته. ويمكن لهذا الإطار الزمني الممتد خلال مائة سنة أن يتيح مثل هذه النظرة، وأن يساعد على إعادة تحديد موقع المسرح وإسهاماته في هيكلة الثقافة المغربية الحديثة والمعاصرة.
لكننا نعلم أن المسرح – من حيث إنه ينتمي إلى نسق الثقافة العالمة – ظاهرة متلاشية، عكس كثير من الظواهر الأخرى المنتمية إلى هذا النسق، والتي تظل محافظة على استمرارها إما في شكل وثائق أو في شكل آثار فنية محمولة على دعائم مادية (كما هو الأمر في الأدب والنحت والرسم). تؤول هذه المقارنة إلى القول إن الكلام عن المسرح، هو بالأحرى كلام عن الخطابات المحيطة به أكثر مما هو كلام عن الممارسة المسرحية الفعلية. وتزداد الأهمية المنهجية لهذه الملاحظة عندما يتعلق الأمر، خاصة، بوضع شبيه بوضع المسرح في الثقافة المغربية، حيث لا توجد في الواقع مسارح قائمة بذاتها، تشكل نوعا من الاستمرار المادي لأثر الأعمال المسرحية حتى بعد تلاشيها، وسندا للوجود التاريخي المستقل للظاهرة المسرحية، وتمكننا من الاحتكاك بالذاكرة المادية للممارسة المسرحية كما لو كانت ما تزال مسترسلة وحية (1).
إن السؤال الذي يلح علي، وأنا أقف بشكل إرادي وانتقائي على عتبة المائة الثانية من وجود المسرح على أرض المغرب، هو: كيف يمكن صياغة خلاصة دالة لحصيلة قرن من الحضور المسرحي في المغرب؟ وأي أفق لبداية المائة الثانية؟ لذلك، سأركز في هذا البحث المقتضب على منعطف المهننة(professionnalisation)  والتنظيم، منطلقا من التحول الرئيس الذي أدى إلى انتقال عميق في الوعي بإشكالية الممارسة المسرحية في نسقنا الثقافي، من التنظير والبحث في الأصول والجذور والنماذج الملائمة إلى التأريخ ومحاولة فهم المسرح كممارسة ووضع اليد على عوائقها الموضوعية.
سأبوب هذه الورقة في ثلاثة محاور:
1 – رحلة المسرح المغربي من الطليعة الثقافية إلى المهنية
2 – المسرح المغربي والبحث عن أفق مهني للممارسة المسرحية
3 – التفكير في المسرح وتحولات الوعي بالممارسة
 
 
2 – رحلة المسرح المغربي من الطليعة الثقافية إلى المهنية
 
مائة سنة” من المسرح المغربي، قطعة زمن يمكن الاصطلاح على أنها ملائمة لتكون إطارا لحديثنا عن هذه المغامرة الثقافية التي شقت طريقها في فجر القرن العشرين فوق هذه الأرض، بين طحالب الثقافة التقليدية ومثبطاتها. وكان يلزمها بعض من الخصوصية المغربية التي لا يتأتى فهم إمكانية حدوثها إلا هنا: تحالف السلفية الوطنية المتنورة مع الشباب المنفتح على المؤثرات الغربية، للأخذ بيد المسرح الناشئ وتمكينه من الدعم الثقافي والسياسي الضروريين، في مجتمع ظل على العموم محافظا ومنكفئا على ذاته طوال القرون الثلاثة السابقة. وهكذا، فحيث كتب فقيه تقليدي متزمت رسالة بعنوان: “إقامة الدليل على حرمة التمثيل(2)، نافح فيها عن موقفه المعادي لهذا اللون من الممارسة الطارئة على المجتمع المغربي، محاولا حشد ما اعتبره أدلة على حرمة هذه البدعة المنطوية في نظره على تقليد للقردة والخنازير (المقصود بهم اليهود والنصارى)، نجد كلا من علال الفاسي (3) ومحمد المختار السوسي (4) وعبد الله گنون (5)، وكلهم من شيوخ السلفية الوطنية المتنورة، ومن زعماء الإصلاح الثقافي، يحتضنون التجربة المسرحية الناشئة ويرحبون بحلول المسرح المصري بأرض المغرب ويعددون منافع المسرح التربوية والتعبوية والنهضوية، وذلك في قصائد شعرية نظمت لمناسبات مختلفة (6).
لقد اضطلع المسرح المغربي منذ انطلاقته بدور الطليعة التحديثية للثقافة المغربية؛ وذلك في مناخ اتسم على العموم بالانغلاق والتوجس من التأثيرات القادمة من الشمال. فكيف نهض المسرح بهذا الدور؟
 
2 ـ1 سياق ثقافي متسم بالتوجس والانغلاق:
ظلت الثقافة المغربية التقليدية طيلة القرن التاسع عشر منكفئة على ذاتها، مع تنامي الشعور بالتفاوت المادي بين المغرب والعالم الغربي (الذي كان ما يزال ينظر إليه على أنه عالم مسيحي أساسا). وكانت سياسة الانغلاق التي نهجها السلطان المولى سليمان خلال فترة حكمه (1797/1822)، تترجم هذه المخاوف التي ازداد تمكنها من الجميع بعد احتلال الجزائر (1830) وهزيمة معركة إسلي أمام الفرنسيين (1844).
وهكذا، ظلت النخب المغربية تقاوم التغلغل الثقافي الأجنبي، متوسلة أحيانا بوسائل متطرفة لا يمكن فهمها إلا بالانخراط في منطق ذلك العصر، مثل الموقف الرافض لاستعمال التقنية الحديثة في الطباعة؛ حيث لم تدخل أول مطبعة إلى المغرب إلا في سنة 1864. وقد ظل نصف الكتب المطبوعة ما بين 1865 و1920، يهتم بموضوعين اثنين هما الفقه والتصوف، فيما استمر نشاط النساخ على حاله. وخلال الفترة الممتدة من 1800 إلى 1865، كان مجمل نشاط النساخ مركزا على مخطوطات المواضيع المرتبطة بعلوم الحديث والفقه والشريعة والتصوف والشعر. بينما ظلت المخطوطات المتصلة بالحساب والهندسة في غاية الندرة (7).
 2 ـ 2 محاولات إصلاح من داخل النسق القائم:
إن غلبة الطابع التقليدي على مجمل المعارف المكتوبة – كما أشرنا إليه أعلاه – لم يمنع العديد من المغاربة من التطلع إلى مظاهر التجديد، والإصلاح العلمي والثقافي، مما نجد له صدى في كتاب: “مظاهر يقظة المغرب الحديث” للعلامة محمد المنوني (8). ولقد ارتسم الغرب إجمالا، لدى المغاربة، في صورة كافر. غير أن رد الفعل ضده كان، في وقت واحد مفعما بالنقد للذات وبالدعوة إلى التشبع بنموذج ثقافي قائم، بعد إصلاحه من داخله (9). لكن أهم ما حصل في سياق الهزائم المتوالية، كان هو الانشطار الذي عبرت عنه ردود الفعل الثقافية، في الأفق الديني بين الفقهاء ومشايخ الصوفية، في الوقت الذي كان فيه الأمر في الماضي يتسم بنوع من التساكن الناتج عن دور الزوايا في المجال السياسي وعلاقة الفقهاء بالدولة، وعن التحالف الذي حصل بين الطرفين لمواجهة إصلاحات مولاي سليمان الدينية. فقد جعل الحدثان المذكوران كثيرا من الفقهاء يحملون على الممارسة الصوفية الشعبية وشيوخها ويعتبرونها مسؤولة عن انحلال الأخلاق وإحقاق غضب الله.
أما الشعر، فقد ظل، في مظهره العام، منشغلا بصدى المواجهة مع الغرب، مع تعميق الانشغال بالموضوعات الدينية من مديح نبوي وأدعية وأوراد وقصائد في وصف الرحلة إلى الديار المقدسة أو في الشوق إليها. لقد شكل الموضوع الديني في صيغته الشعبية الملتبسة بالتصوف الملاذ الأخير لشريحة واسعة من الشعراء الفقهاء أو المتصوفة الذين رسموا من خلالها صيغة قيامية (apocalyptique) وكارثية للوضع القائم والزمن الحاضر. وفي الجانب الآخر استمر الملحون في انفتاحه على الموضوعات “الدنيوية” من غزل وخمريات، ونوادر وقصص (10).
 2 ـ 3 ترفيه ثقافي تقليدي:
ظل الترفيه في المدن، يستند في مجمله، إلى الفرجات القادمة من البوادي المحيطة، أو بعض الفسح التي يقيمها فنانون فطريون أغلبهم من الحرفيين. وكانت عشويات الملحون التي ينظمها الحرفيون تحتل الصدارة في هذا الترفيه. ويتجه معظم سكان المدن غير المتعلمين إلى الزوايا الصوفية الشعبية وخاصة العيساوية والحمدوشية لقضاء ليال مفعمة بالجذب الصوفي على نغمات فنون السماع، التي كانت تستند إلى الموروث التقليدي وعلى رأسه الملحون. وبالإمكان الوقوف على عدد من الأشكال الفرجوية التمثيلية التي عرفتها المدن العتيقة، بعضها يمكن اعتباره من الفنون الحضرية، مثل البساط، وبعضها الآخر يعد من الفنون الرعوية التي تمزج بين العيطة والمشاهد التمثيلية الهازلة والأشكال الكرنفالية البدوية مثل اعبيدات الرما أو الحلقة، التي تنشط الساحات العامة ويقيمها في الغالب فنانون متعددو المواهب (العزف، الغناء، الرقص، البهلوانيات، التمثيل…)، لكن الطابع المشترك بين أغلبهم هو الترحال والتنقل بين ساحات الأسواق المختلفة بين المدن والبوادي (11).
2 ـ 4 معرفة متعالية بالمسرح الغربي:
تعرفت النخبة المغربية على المسرح الحديث، خلال عدة عقود قبل الوصول الفعلي للممارسة المسرحية إلى أرض المغرب، وذلك عن طريق البعثات السفارية التي وفدت إلى أوروبا في مجرى القرن التاسع عشر. وهكذا، نجد عند إدريس بن محمد العمراوي (12)، ومحمد الطاهر الفاسي (13)، وإدريس الجعايدي (14)، إشارات عابرة إلى كيفية تعاطيهم مع الفرجات المسرحية التي وجدوا أنفسهم مدعوين لحضور حفلاتها هنا وهناك. وهي، إجمالا، إشارات تفصح عن قدر من الاستهجان لهذا الشكل التعبيري، وعدم قدرة على تذوقه لأسباب متنوعة، منها عدم التمكن من اللغة تارة، وعدم تذوق الموسيقى والغناء الغربيين تارة أخرى؛ ومنها الاستنكاف عن حضور مشاهد الرقص التي تشارك فيها النساء، أو الترفع عن مواضع الهزل واللعب التي لا تليق بالوقار الواجب في الفقيه الورع وممثل السلطان(15). والحال أن معظم هذه الرحلات، بالنظر إلى طابعها الدبلوماسي المحدود، لم تستغرق من الوقت ما يتيح لأصحابها أن يندمجوا أكثر في المناخ الثقافي الأوروبي، ويتشربوا قيمه الفنية والفكرية. كما أن السياق التاريخي العام الذي تمت فيه هذه الزيارات، حكم في معظم الأحيان على أصحابها بأن يحتفظوا بقدر من النفور وعدم الرضا إزاء ما يشاهدونه، إما سيرا مع إحساسهم الشخصي، أو مراعاة لانتظارات متلقيهم الأول الذي يكون في غالب الأحيان هو السلطان وحاشيته. ومن ثمة يصعب أن نستنتج وجود موقف من المسرح لدى هؤلاء السفراء، مبني على رؤية ثقافية أو إيديولوجية واضحة ومحسوم في أمرها.
تختلف رحلة محمد بن عبد الله الصفار عن الرحلات المذكورة أعلاه، بكون صاحبها أفرد حيزا أوسع للحديث عن المسرح الفرنسي، مترسما في ذلك أثر رفاعة الطهطاوي في رحلته بشكل لافت للنظر. وقد سجلت لنا هذه الرحلة بعضا من معالم تعرف أحد ممثلي النخبة المخزنية على المسرح الأوروبي، من المفيد استقصاؤها، في خلفية تأريخنا لبداية تفاعل الثقافة المغربية مع هذا الشكل الثقافي الجديد.
خصص الصفار(16)، الذي زار فرنسا خلال سنتي 1845و1846 (17)، عدة صفحات من رحلته، للحديث عن المسرح ووصف تنظيمه، مقتفيا في ذلك خطى الطهطاوي في “تلخيص الإبريز“، إلى حد التطابق في بعض الأمثلة والعبارات، بل وفي الأحكام التي أصدرها كل منهما على هذا الفن وأهميته. مما يدفع إلى الظن بأن الملامح العامة لخارطة الصفار عن الثقافة الفرنسية، وضمنها انتباهه إلى المسرح الباريسي، كانت من إملاء نموذج الخارطة التي رسمها الطهطاوي، أكثر مما كانت نتيجة تعاط خاص ومستقل مع الحياة الثقافية الباريسية. غير أن الصفار – مع ذلك – بدا أكثر تنبها إلى كون ما يقدم على الخشبة حصيلة تداريب مسبقة، وليس ارتجالا أو اختراعا كما توهم الطهطاوي (18). وتستوقفنا على الخصوص فيما قاله الصفار الملاحظتان الآتيتان:
“وهذه التياترو ليست مجمعا للحرافيش والأوباش، بل يحضرها أكابرهم وأهل المروءة منهم، ويحضرها الرجل وزوجته وبناته، والرجل وأصحابه. ويجعلها السلطان في داره، وله في داره محل معد لها، فيدعو اللعابين والمتفرجين، ويجلس هو وأولاده ونساؤه ونساء أولاده وجميع وزرائه وخواصه، وأهل اللعب يلعبون بالرقص والتعاشق وغير ذلك، وهم ينظرون وينشطون بذلك. ويزعمون أن في ذلك تأديبا للنفوس وتهذيبا للأخلاق وراحة للقلب والبدن، ليعود إلى شغله بنشاط وقريحة  “(19)
“ولأهل باريز حرص تام على التكسب (…) وإن كان عندهم من أنواع البطالات والفرجات العجب العجاب. لكن ذلك لا يلهيهم عن أشغالهم، فيعطون لكل وقت ما يستحقه، وتلك الفرجات تعينهم على أشغالهم لما فيه من استراحة النفس ليعودوا لها بنشاط…” (20)
لم يفت محمد بن عبد الله الصفار أن يتعجب من أنواع البطالات والفرجات التي يحتفي بها أهل باريس، دون أن ينسى ذكر نفع هذه الملاهي وأثرها الإيجابي على نفوس الباريسيين، مما يدفعهم إلى مزيد من الجد والنشاط. ولم يكن الصفار مثقفا بالمعنى الواسع للكلمة، بل كان بالأحرى فقيها ورجل إدارة وسياسة، حل بباريس ضمن بعثة سفارية. فهو لم يؤطر الظاهرة المسرحية ضمن إطار ثقافي شامل، وإنما اكتفى باعتبارها من ضمن العادات المميزة لأهل باريس مثلها مثل بقية أنماط سلوكهم. لكنه لم يقف عند حد الملاحظة، بل سعى إلى عقلنة مجمل عادات أهل باريس وإخضاعها لغائية معينة: إنهم حريصون على أسباب التكسب والجد (21) حرصهم على أسباب اللعب واللهو، غير أن لعبهم ولهوهم إنما هو موجه إلى إكسابهم المزيد من النشاط والهمة لمواجهة أعباء الجد.
لم يدع الصفار إلى استيراد هذا الفن أو استنباته في المغرب. ولم يقارنه بأنماط الفرجة التي كانت سائدة في محيطه الثقافي المغربي، كما فعل الطهطاوي. ولم يبد منشغلا باقتراح ترجمة أو محاولة تقريب موصوفه إلى أذهان قرائه مثل الطهطاوي. وهذا الموقف المحايد للصفار إزاء إمكانية الاستفادة من المسرح في الثقافة المغربية، بالرغم من وضوح دوافعه وأسبابه، يدعونا للتساؤل: لماذا لم ير الرحالة المغربي أن من المفيد استيراد المسرح أو اقتباسه في الثقافة المغربية؟ ولماذا لم يقترح ذلك، مع أنه أسهب في وصفه وامتداحه؟ ونجده على العكس من ذلك يكتفي بإيراد بعض الأحاديث النبوية، والحكايات المأثورة التي تتحدث عن شرعية الفرجة والمزاح في الإسلام. لم يكن مثل هذا الأفق لينفتح أمام ملاحظ محمل بالنوازع المتناقضة إزاء هذا الآخر الذي يصف ثقافته، إلا من خلال نقد شامل للحدود الثقافية التي ينطلق منها لفهم ما يراه. وهو ما لم يكن متاحا للصفار ولا لمجايليه من مثقفي المخزن التقليدي.
هل نستنتج أن المخزن التقليدي ظل منغلقا ضد المسرح، متجاهلا لوجوده طوال القرن التاسع عشر وما بعده؟ يتعزز هذا الاستنتاج حين نلاحظ التطورات اللاحقة للحركة المسرحية المغربية، عندما ستستقبل الفرق الأولى الوافدة من الشرق، باحتفاء كبير من طرف نخبة جديدة، غير نخبة المخزن التقليدية، هي النخبة الوطنية والقومية التي ستشكل قيادة الحركة الوطنية لاحقا. وسيكون المسرح أحد أهم أبوابها الثقافية المشرعة.
2 ـ 5  استقبال إيجابي للمسرح في القرن العشرين:
عرفت طنجة نشاطا مسرحيا مكثفا منذ نهاية القرن التاسع عشر، حيث أنشئ أول مسرح يحمل اسم مسرح رافائيل كالفو (Rafael Calvo) سنة 1897، وقدم عروضا مسرحية لفرق مقيمة في طنجة أو قادمة من الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط. وتفيد بعض الوثائق أن نشأة المسرح الإسباني بمنطقة الشمال يعود إلى أبعد من ذلك، حينما حل أحد تلاميذ الكاتب الإسباني لوبي دي فيجا (Lope de Vega) بمدينة تطوان وأسس بها مسرحا صغيرا في القرن السابع عشر، قدم خلاله عددا من الهزليات. لكن النشاط المسرحي انقطع بعد ذلك، ولم يستأنف إلا في منتصف القرن التاسع عشر بإنشاء مسرح صغير بتطوان سنة 1860، قدم عددا من المسرحيات الإسبانية، ثم مسرح الملكة فيكتوريا في بداية الحماية (22).
لكن عام 1913 يبقى النقطة الفارقة بالفعل في تاريخ الوجود المسرحي بالمغرب. ففيها كان افتتاح مسرح سرفانتيس بطنجة (23)، إيذانا بالانطلاق الفعلي لأول العروض المسرحية التي تقدم فوق التراب المغربي، بشكل مؤسساتي منتظم. وقد كانت هذه العروض، في البداية، لفرق إسبانية وأوروبية، فيما كان جمهورها في الغالب أيضا من الأوروبيين والأجانب الذين يحلون بالمدينة. لكن المسرح لم يلبث أن شرع في استقبال العروض المسرحية المحلية المغربية والعربية، فقد عرضت فيه فاطمة رشدي ويوسف وهبي عند مجيئهما إلى المغرب عروضهما المسرحية، كما شهد تقديم مسرحيات “صلاح الدين الأيوبي” و”مجنون ليلى” و”موسى بن نصير” و”الرشيد والبرامكة” و”كليلة ودمنة” وهي من إنتاج فرق مغربية محلية (24). وقد أسهم هذا المسرح بشكل حاسم في تنشيط وتأسيس الحركة المسرحية المغربية، ولم يقتصر تأثيره على طنجة وحدها، بل امتد ليعم مجمل مناطق المغرب.
أما في المنطقة التي كانت خاضعة للحماية الفرنسية، فقد وقع الاتفاق إجمالا على اعتبار سنة 1923 بمثابة نقطة الانطلاق الرمزية للحركة المسرحية. ففي هذه السنة وقع استقبال فرقة محمد عز الدين المصري قادمة من تونس، حيث قدمت عروضا في كل من طنجة وفاس والرباط ومراكش. ليتوالى بعد ذلك قدوم الفرق المشرقية في جولات تشمل المغرب والجزائر وتونس. وقد اعتبرت زيارة فرقة فاطمة رشدي سنة 1932 أكثر هذه الزيارات تأثيرا بالنظر إلى ما رافقها من حراك ثقافي واسع، أعقب إصدار السلطات الفرنسية سنة 1930 لظهير المحاكم العرفية، الذي رأت فيه القوى الوطنية محاولة فرنسية للدس بين مكونات الساكنة المغربية التي يوحدها الوطن والدين، على أساس عرقي أجوف. واعتبرت هذه الزيارة التي جاءت أيضا والحركة الثقافية المغربية بدأت تتشبع بفكرة القومية العربية تحت تأثير الأمير شكيب أرسلان الذي كان يقيم في تطوان في تلك الفترة، تأكيدا على الروابط الثقافية التي تجمع المغرب بالمشرق.
لقد استقبل المسرح المصري في المغرب في سياق ثقافي وسياسي، جعل منه حاملا للواء المقاومة للسياسة الثقافية لسلطات الحماية، ومعبرا عن التطلعات القومية العربية الناشئة للنخب المغربية.
2 ـ 6 طليعة ثقافية وإنهاك فني:
حين كان المسرح في المشرق (مصر أساسا) يعاني من استهجان النخب الطليعية له، كما تفيدنا انتقادات محمد تيمور(25) وشكاوى توفيق الحكيم، وتساؤلات محمد مندور (26)، كان قادة الحركة التجديد الديني والأدبي والثقافي في المغرب، تساند المسرح المغربي الناشئ، الذي انطلق كحركة شبابية، في أحضان المدارس العصرية الخاضعة للمراقبة الفرنسية، وفي أحضان الجمعيات الرياضية في الشمال. وبذلك شكل المسرح ساحة تجاذب إيديولوجي منذ انطلاقته، وسرعان ما تحول إلى مجال للعمل السياسي السري، طيلة فترة الحماية. وفي سبعينيات القرن الماضي، عادت هذه الخاصية للظهور من جديد، حين شكل المسرح ملاذ العمل السياسي السري لأطياف اليسار الجديد، في خضم المواجهة بينها وبين الدولة.
ارتباط المسرح المغربي الوثيق بالعمل السياسي، جعل منه حركة ثقافية طليعية. لكنه في الوقت نفسه حرمه من التجذر كنمط من الفرجة ذات الامتداد الشعبي، ومن تنمية قدراته على الاستقلال بذاته كإنتاج ثقافي ترفيهي متصل بالسوق وبالتداول الحر، بين منتجين وزبناء، بخلاف المسرح المصري. وككل حركة طليعية، طور هذا المسرح عن نفسه ومحيطه نوعا من الخطاب الذي يحمله مسؤولية النيابة عن الجمهور (الذي كثيرا ما يتحول إلى “جماهير”) في تحديد اختياراته الجمالية والثقافية، وقيادة نضالاته في كل الواجهات. في هذا السياق يمكن أن نفهم دلالة حركة البيانات المسرحية التي عرفت أوجها من بداية السبعينيات إلى منتصف الثمانينات من القرن الماضي، باعتبارها إعلانات نوايا ثقافية أكثر منها، مشاريع مسرحية ذات رؤية فنية متكاملة.
كما أن طليعية المسرح المغربي كلفته من جانب آخر عداوة الجهاز الإداري للدولة (سواء في فترة الحماية أو في فترة الاستقلال) الذي كان يرى فيه نوعا من الخطاب التحريضي وجزءا من العمل السياسي المعارض. وترجمت هذه العداوة في شكل مضايقات للممارسة المسرحية، بشكل مباشر أو بطرق ملتوية، عبر منع العروض والتظاهرات المسرحية، أو رفض دعمها، وتحريض مستغلي القاعات على عدم التعاقد مع الفرق المسرحية، أو حتى فسخ العقود المبرمة، أو في شكل إهمال مقصود. كما ترجمت في الإحجام لوقت طويل عن سن أي سياسة ثقافية تجعل من المسرح جزءا من المشهد الثقافي المألوف في البلاد.
هكذا، دخل المسرح المغربي، منذ نشأته، إلى خانة الفعل الثقافي والتربوي، وازدهر في محيط المدارس والجمعيات الثقافية، عوض أن يتجه إلى المجال الترفيهي، ويشكل جزءا من نسيج الفنون الحضرية ذات الاستقطاب الجماهيري الواسع. لكن هذا الحكم لا يمكن تعميمه بشكل مطلق، فقد استطاعت بعض أشكال الممارسة المسرحية، أن ترث الوظيفة الترفيهية للشكال الفرجوية الشعبية، وتتمكن من النمو بعيدا عن تأثير مشاغل الحركة الوطنية والطليعة الثقافية. لكن تأثير هذه التجارب من الناحية الفنية ظل محدودا، ومحروما من السند الثقافي الذي كان يتمتع به المسرح الطليعي. وكانت تجارب الفرق التي كانت في الماضي تسمى فرقا محترفة، مقتصرة على أنواع بسيطة من المسرح الشعبي الكوميدي، دون تنويع فني يذكر، كما ظلت هذه الأعمال محط استهجان من طرف المسرح الطليعي، الذي كان يرى فيها أشكالا مهجنة من الممارسة المسرحية الطيعة في يد السلطات او المهادنة للوضع القائم، سواء في فترة الحماية، أو خلال فترة ما عرف بسنوات الرصاص.
 
3 – المسرح المغربي والبحث عن أفق مهني للممارسة المسرحية
 
 3 ـ 1 وعي شقي أبعد الممارسة كثيرا عن المهنية:
مارس المغاربة المسرح في فترة الحماية، وبعد الاستقلال، باعتباره غنيمة حرب، متحصلة من اصطدامهم بالثقافة الغربية. وساعد وصول الفرق المشرقية إلى المغرب، في عز الأزمة الناتجة عن محاولة سلطات الحماية شرخ وحدة “الأمة المغربية”، عبر إصدار ظهير المحاكم العرفية، على هضم الممارسة المسرحية كممارسة منسجمة شكلا ومضمونا مع تطلعات التحديث الثقافي التي قادتها السلفية الوطنية المتنورة من جهة، والليبراليون الناشئون (محمد بن الحسن الوزان، وعبد الخالق الطريس)، من جهة أخرى. لم يسائل أحد من الرواد شرعية الممارسة المسرحية، المقتبسة من الغرب، وعلاقتها بالتحديث الثقافي. كان الأمر بالنسبة إلى النخبة المغربية الناشئة على أنقاض نخب القرن التاسع عشر المتوجسة من كل شيء قادم من الغرب، أشبه بقفزة في الفراغ باتجاه المستقبل المطلق. ولن ينشغل أحد بمحاولة تحديد مضمون العلاقة بين الممارسة المسرحية وجمهورها، في أي لحظة من لحظات البداية. ونكاد نجزم أن مفهوم الجمهور ذاته لم يكن مطروحا للنقاش. كان الوقت وقت تعبئة وتوعية وتنوير، واضطلع المسرح بهذه الوظائف على وجه أكمل. لقد كان مسرح نخبة موجها إلى النخبة المتعلمة، أو تلك التي انخرطت في تنظيمات العمل الوطني، من تلاميذ وحرفيين وتجار صغار وعمال.
لكن بداية السبعينيات شهدت ميلاد أسئلة تأصيل المسرح. طرح الموضوع في المشرق أولا، مع يوسف إدريس وسعد الله ونوس ثم عز الدين المدني، قبل أن ينتشر مثل النار في الهشيم في كل الحركة المسرحية العربية التي ارتبطت بالطليعة الثقافية الناشئة عن “ثورة” يوليوز 1952 في مصر، وما أعقبها من “ثورات” في العراق وسوريا وليبيا واليمن… كان من وراء هذه “اليقظة” المسرحية الوعي الشقي النابع من هزيمة 67، وما خلفته من ذهول عميق في الوعي العربي. لقد تعرضت كل القيم للمساءلة، بما فيها تلك التي كانت تبدو أكثر بداهة. صحيح أن المشارقة، على العكس من المغاربة، ظلوا دائما يلحون، منذ بداية القرن العشرين، على أن المسرح شكل ثقافي غير أصيل في الثقافة العربية، وأنه وافد على هذه الثقافة ضمن ما وفد عليها من مظاهر الحضارة التي جاءت مع نابوليون في حملته على مصر سنة 1798، شأنه شأن الطباعة والصحافة والتنظيم الحديث للدولة. لكن طرح موضوع تأصيل المسرح لم يبدأ في الإلحاح على وعي النخب العربية إلا مع هزيمة 67. وفجأة تعرضت التجربة المسرحية القائمة، في مجملها، للإنكار على أساس أنها تفتقد إلى شرعية الأصالة وجدارة الانتماء إلى الجمهور العربي المنتظر.
إذا كانت علاقة المسرح بجمهوره في مصر تحمل مضمونا تجاريا، في الممارسة المسرحية الجماهيرية الغالبة، فإن الوضع في المسرح المغربي كان مختلفا: لقد ظل المسرح مسرح نخبة وحدثا ثقافيا صرفا، ونادرا ما نظر إلى علاقته بالجمهور على أساس آخر غير الأساس الثقافي المجرد. لذلك فإن مضمون إشكالية التأصيل في المغرب طرح بشكل مختلف عنه في المشرق. كان المغاربة قد بدأوا يضعون علاقة المسرح بالجمهور الواسع في صلب إشكالية التأصيل. ومجمل النقاشات التي أعقبت صدور البيانات التنظيرية الأولى او تلك التي كانت من وراء البيانات اللاحقة، سرعان ما بدأت تنتبه إلى عزلة المسرح الفعلية عن جمهور يفترض أنه قاعدة واسعة، لكنها في الواقع ما تفتأ تزداد بعدا عن المقترحات الفنية التي تقدم لها.
وفي غضون تطور هذه النقاشات، واحتدام معارك البيانات وما يصاحبها من تفسيرات وتبريرات، طرحنا عام 1984 سؤالا حول جدية هذه الحركة كان محوره: أي معنى للبحث عن نظرية لمسرح عربي خالص، في وقت لا نتوفر فيه على خطاب تاريخي نقدي عن الممارسة المسرحية في الثقافة العربية ضمن شروطها الموضوعية. وكان أن تساءلنا: هل نحن بحاجة إلى نظرية للمسرح العربي أم أننا أحوج إلى نظرية لتاريخ المسرح العربي؟  كان لا بد من الشروع في القيام بنقد جذري عميق لأطروحات الخطاب الاستشراقي عن المسرح في الثقافة والأدب العربيين، كمدخل حقيقي وأكثر ملاءمة لنقد الإرث الثقافي الاستعماري لاحقا.
فتح هذا السؤال الطريق أمام تنظيم سلسلة من الموائد الفكرية السنوية على هامش دورات الملتقيات المسرحية في كل من مكناس وأگادير والمحمدية خلال سنوات 1986 و87 و88، شارك فيها فاحثون أكاديميون وموثقون للحركة المسرحية وممارسون مسرحيون. وبموازاة هذه الموائد التي خصصت لقضايا منهجية ونظرية في تأريخ المسرح المغربي وتحليل الإرث الوثائقي المتاح، كان النقد المسرحي من جهته قد بدأ يتجه أكثر فأكثر نحو إنتاج ممارسة نقدية أكثر التصاقا بالعروض المسرحية من الناحية الفنية والتقنية، بعد ان كان الطابع الغالب على المتابعات النقدية هو مناقشة المضمون الإيديولوجي للأعمال المقدمة.
لقد وقع تقارب حقيقي بين البحث الأكاديمي والمتابعة النقدية والممارسة المسرحية. وأتاح النقد التاريخي الذي مورس طيلة ثلاث سنوات نمو وعي جديد بطبيعة الممارسة المسرحية وفي سياقاتها الاجتماعية والمؤسساتية. وشيئا فشيئا، أضحت تعبيرات المسرحيين عن احتياجاتهم تتخذ أشكالا ملموسة أكثر فأكثر. واليوم يتراءى الانشغال بالقضايا المنحدرة من الوعي الشقي لما بعد هزيمة 67 أكثر بعدا عن انشغالات الممارس المسرحي. كما أن الناقد والدارس الأكاديمي أصبحا يبحثان عن صيغ لمواكبة الممارسة بشكل أكثر محايثة. إن مراكمة الخبرة بالممارسة الفعلية هي التي تتيح إنتاج خطاب حول المسرح المغربي نابع من واقع الممارسة المسرحية المغربية، لا من النماذج المفترضة أو الممارسات المنتمية إلى ثقافات أخرى.
 3 ـ 2 تنظيم مؤسساتي عائق:
يعرف الجميع اليوم طبيعة العوائق التي ظلت تحول دون انبثاق ممارسة مسرحية مستقلة بذاتها. وإذا جاز لنا أن نلخص هذه العوائق بشكل ملموس، قلنا:
ـ لقد ظل المسرح يمارس، طيلة عدة عقود، ما عدا استثناءات قليلة غير دالة، في شكل عمل جمعوي تطوعي، يستند في تنظيمه إلى قانون الحريات العامة، أكثر مما يستند إلى القانون التجاري؛ مما يجعل التعريف الأكثر ملاءمة للعرض المسرحي، من الناحية القانونية، هو: “التجمع العمومي” أو “النشر العمومي” الذي ينظمه قانون الصحافة؛ أي أنه، في نظر الإدارة، لا يختلف كثيرا عن أي حدث سياسي آخر ينظمه قانون الحريات العامة، أو قانون الصحافة، أو هما معا.
ـ أما العاملون في المسرح فقد ظل ينظر إليهم على أنهم أعضاء في جمعيات، يمارسون حريتهم في التجمع والتنظيم، ونادرا ما ينظرون إلى أنفسهم أو تنظر إليهم الإدارة كفنانين عاملين في مجال مهني قائم بذاته.
ـ ونتج عن هذا الوضع الموروث عن بدايات المسرح المغربي أن كل تدخلات الدولة التي كانت نادرة وانتقائية، في العقود الماضية، ثم صارت أكثر هيكلة بدءا من نهاية تسعينيات القرن الماضي، ظل ينظر إليها على أنها دعم على سبيل الإحسان، ثم على سبيل الواجب السياسي للدولة، ولم يترسخ بعد النظر إليها كمخططات للاستثمار في قطاع اقتصادي مهيكل أو في حاجة إلى الهيكلة.
منذ تأسيس المعهد العالي للفن المسرحي عام 85، وتخرج أفواجه الأولى، حصل تحول عميق في طبيعة المشكلات التي أضحت مطروحة على الساحة المسرحية. لقد كان تأسيس المعهد مطلبا قديما ظل المسرحيون يلحون عليه في كل المناسبات، معتبرين أن التكوين الأكاديمي النظامي للعاملين في القطاع المسرحي، يشكل البوابة الأكثر نجاعة للانتقال بالمسرح من طور التلقائية والهواية إلى طور النضج والاحتراف المهني. وحين تخرجت الأفواج الأولى، في تزامن مع الوعي الناشئ عن الجهد النقدي التأريخي المشار إليه آنفا، وقع تكريس المعارف المهنية بصفة نهائية، كجزء لا يتجزأ من الإطار العام للمسرح. ويدخل ضمن نطاق المعارف المهنية كل الإرث الذي طورته مدارس الأداء الأكاديمي في الغرب منذ ستانسلافسكي إلى اليوم. لم يعد استحضار غروتوفسكي او أوغوستو بوال، أو برخت، يتم بمعزل عن السياقات الجمالية والخبرات المهنية المترابطة، كما كان يحدث في الماضي، حيم كان ينظر إلى هذه الأسماء كعلامات تمثل مشارب إيديولوجية أكثر مما تمثل سياقات فنية متماسكة ومحيلة على تناقضاتها الموضوعية مع بعضها.
في هذه الأجواء بدأ الجسم المسرحي، الموروث عن سنوات المواجهات مع الدولة، والمطعم بالأفواج الأولى من خريجي المعهد، يعيد تشكيل المشهد المسرحي، وتحديد أولوياته. تأسست أول نقابة مهنية للمسرحيين عام 1993، في أعقاب انعقاد المناظرة الوطنية الأولى حول المسرح الاحترافي، تحت اسم النقابة الوطنية لمحترفي المسرح. ضمت في عضويتها عددا من المحترفين القدماء وأطرا بارزة من مسرح الهواة وخريجي المعهد العالي للمسرح.
3 ـ 3  تنظيم نقابي مسهم في البحث عن هيكلة مهنية فعالة:
بتأسيس النقابة، تحولت أولويات الخطاب المسرحي المواكب بشكل جذري. وبدأت القضايا المهنية تطرح شيئا فشيئا بوضوح أكبر، فيما اتجه النقد المسرحي والمواكبة الأكاديمية نحو موضوعات تخصصية أكثر فأكثر.
كانت المطالب النقابية الأولى لا تخرج عن الأفق الذي تمت بلورته في المناظرة الوطنية الأولى حول المسرح الاحترافي، التي انعقدت في 14 ماي 1992، بتعليمات ملكية وبتأطير من وزارة الشؤون الثقافية آنذاك: يتعلق الأمر بوعد ملكي بتخصيص نسبة 1 % من موازنة الجماعات المحلية للنهوض بالقطاع المسرحي، وهو رقم ضخم لم يكن حتى أكثر المسرحيين تفاؤلا يحلم يوما بإمكانية تخصيصه لدعم المسرح. كما يتعلق بوعد آخر بإنشاء فرقتين مسرحيتين للقطاع العام في كل جهة من جهات البلاد، البالغ عددها آنذاك 12 جهة. وردت هذه الوعود بشكل مبهم في الرسالة التي وجهها الراحل الحسن الثاني لأشغال المناظرة. ومنذئذ ظلت هذه الوعود تشكل سقفا لمطالب المسرحيين الإصلاحية، دون أن يتمكنوا من الوصول إلى تحقيق أي منها. والواقع أن هذه الوعود، كان واضحا منذ البداية انها ولدت موؤودة، لأنها كانت تفتقر لأي إطار مؤسساتي وقانوني يجعلها قابلة للتنفيذ، كما أنها جاءت في شكل إجراءات تقنية معزولة عن أي سياسة عمومية متكاملة الأركان تجعل تحقيقها تلقائيا.
كان على المسرحيين ان ينتظروا وصول حكومة التناوب التوافقي التي كان يقودها الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي وتتشكل في أغلبيتها من أحزاب المعارضة السابقة، لتتوصل النقابة مع وزير الثقافة محمد الأشعري إلى إقرار أول صيغة مؤسساتية لدعم المسرح، عرفت ببرنامج دعم الإنتاج والترويج المسرحيين. يتعلق الأمر بتخصيص اعتمادات مالية لتشجيع الفرق المسرحية على إنتاج مشاريعها المسرحية، في إطار مباراة وطنية، تشارك فيها الفرق التي تتوفر فيها شروط احترافية متفق عليها. وكان يراد لهذه الصيغة أن تشكل إجراء استعجاليا لإنقاذ المسرح المغربي مما سمي آنئذ بالسكتة القلبية التي كانت تهدده بالتوقف، بعد عجز كثير من الفرق المسرحية عن الاستمرار في عملها نتيجة قلة الموارد وندرة المردود.
كان برامج الدعم أول ثمرة للعمل المشترك بين الوزارة الوصية على القطاع وممثلي المهنيين. وقد توسعت اوراش العمل المشترك، لتشمل، بالإضافة إلى التشاور حول الإصلاح المستمر لبرنامج الدعم، فتح الورش التشريعي، باقتراح وصياغة قانون الفنان، الذي شكل صدوره سنة 2003 تتويجا لمسار من المطالب النقابية الرامية إلى الحصول على نص قانوني يكرس الاعتراف بالطبيعة الشغلية للعمل الفني، والقطع بشكل نهائي مع المنظور القانوني السابق الذي كان يكتفي بتأطير الممارسة ضمن مجال الحريات العامة، وينظر بالتالي إليها كجزء من الممارسة السياسية التطوعية.
لقد فتح صدور قانون الفنان الباب أمام جيل جديد من المطالب المهنية قادته النقابة المغربية لمحترفي المسرح (الاسم الجديد للنقابة الوطنية منذ 2008) انطلاقا من مؤتمرها الوطني الخامس الذي عقد سنة 2008 بالرباط، حيث رفعت شعار هيكلة القطاع المسرحي، كقطاع اقتصادي منتج. وكان لاستضافة النقابة للمؤتمر التاسع للفدرالية الدولية للممثلين في أكتوبر 2008 بمراكش، أثر بارز في تطوير الخبرة الدولية للنقابة وتوسيع أفق عملها ومطالبها المهنية. وطيلة ثلاث سنوات عكفت النقابة على إعداد ما سمته بالخطة الوطنية لتأهيل القطاع المسرحي (27)، وضعت نصب عينيها الانتقال من التدخلات التقنية الرامية على دعم الإنتاج والترويج المسرحيين التي أظهرت محدودية فعاليتها، إلى المطالبة بتدخل مهيكل شامل للدولة بكل مستوياتها عبر إقرار سياسة قطاعية متكاملة، تستهدف إرساء مقومات قطاع اقتصادي ثقافي حركي ومستقل وقادر على المبادرة.
 
  4 ـ الخطة الوطنية لتأهيل القطاع المسرحي، مطلب سياسي شامل وأفق لعمل مندمج:
 
يمكن تلخيص المكونات الأساسية لهذه الخطة في العناصر الآتية:
4 ـ 1 سياسة وطنية متكاملة في المسرح:
ينبغي أن تتجسد هذه السياسة في مخطط وطني مندمج (28) لتأهيل القطاع المسرحي، تتمثل غايته في تحديد أشكال تدخل الدولة والجماعات الترابية والمؤسسات المدعومة من طرفها، ومسؤولية كل طرف من هذه الأطراف في دعم وإنعاش القطاع المسرحي في كل جوانبه الإبداعية والإنتاجية والترويجية. وكذا الصيغ المؤسساتية والقانونية لهذه التدخلات والمسؤوليات.
يتعلق الأمر إذن بسياسة عمومية إرادية، ومتعاقد حولها (29) من أجل تحقيق الأهداف الآتية:
ـ ضمان حركة مسرحية مستمرة، متنوعة، ومتطورة؛
ـ ضمان تحقيق استقلالية للقطاع المسرحي قائمة على مبدإ التمكين الذاتي للعاملين في القطاع، باعتباره أحد المبادئ التي يقوم عليها مفهوم التنمية البشرية المستدامة، وذلك في أفق نمو المبادرة الخاصة والتشجيع على الاستثمار الخاص في المجال المسرحي وفي المجالات الثقافية الأخرى؛
ـ ضمان المشاركة الفعالة للقطاع المسرحي في الاقتصاد الوطني، من خلال هيكلة هذه المساهمة وتطوير مختلف الأسواق المرتبطة بها (سوق الشغل، سوق ترويج المنتجات المسرحية…) بما يضمن مساهمتها في الدخل الوطني، ويدمجها في عجلة الاقتصاد؛
ـ ضمان مشاركة القطاع المسرحي في تعزيز مناخ الرفاه الاجتماعي والتفتق الثقافي والروحي للمواطنين، والرفع من مؤشرات التنمية البشرية على الصعيد الوطني؛
ـ ضمان تحويل هذا القطاع إلى قاطرة لتنمية مختلف القطاعات الثقافية، وعلى الخصوص مجال صناعة الفرجة الحية أو الموسطة، باعتبارها جزءا من الصناعات الإبداعية التي تحتل اليوم على الصعيد الدولي مرتبة جد متقدمة من حيث أرقام المعاملات في أكبر الاقتصادات العالمية (30).
 4 ـ 2 عمل منهجي متكامل:
تقوم الخطة على منهجية مماثلة لتلك التي وقع اعتمادها في كافة المخططات القطاعية الأخرى التي تسهر عليها الدولة، مع مراعاة خصوصيات القطاع المسرحي وأبعاده الثقافية. وتتمثل هذه المنهجية في:
ـ إرساء منظور متفق عليه بين الدولة ومؤسساتها، ومهنيي المسرح، والفاعلين الاقتصاديين، ومختلف القوى الثقافية، ينبني على أن المسرح قطاع مهني متكامل، ذو ارتباط واضح بالحياة الاقتصادية والاجتماعية للبلد، ويحتاج إلى تدخل محدد الملامح، من طرف الدولة، قصد مساعدته على التفتح والتطور، والإسهام في أوراش التنمية التي فتحتها بلادنا. وهو، تبعا لذلك، يقتضي معالجة قطاعية لقضاياه ومشكلاته؛
ـ إقرار رؤية لراهن ومستقبل القطاع متوافق عليها بين مختلف المتدخلين فيه؛
ـ تبني إجراءات واضحة ومتعاقد عليها برعاية الدولة لتحقيق هذه الرؤية في أمد منظور؛
ـ غايتها النهوض بالقطاع المسرحي بالمغرب وفق أهداف محددة بدقة وملتزم بتحقيقها، وقابلة للتقويم على أساس مؤشرات متفق عليها.
ـ وستشكل هذه الخطة فور إقرارها مرجعا لكل مسار تفاوضي بين الدولة وممثلي القطاع وشركائهم الحاليين أو المستقبليين.
4 ـ 3 المبادئ المؤسسة للمخطط:
ينطلق السعي نحو إقرار هذا المخطط من مراعاة المبادئ الآتية:
ـ مبدأ الحق في الثقافة، وهو حق يضمنه دستور المملكة، فضلا عن أنه حق أقرته الأوفاق والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، والحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (31). وينتج عن ذلك أن الدولة تعد ضامنا لممارسة هذا الحق والتمتع به، وذلك من خلال تمكين مواطنيها من ممارسته، عبر إجراءات تسهل ذلك وتتيحه.
ـ مبدأ التمكين الذاتي، الذي يتأسس انطلاقا مما سبق، ويتمثل في ضرورة ضمان حق الفنان في أن يمارس المهنة الفنية التي يرتضيها لنفسه بشكل يضمن العيش له الكريم والاستقلال بقراره والتحكم في حياته المهنية بشكل كامل، ودونما حاجة إلى أي لون من ألوان الكفالة التي قد تحط من تقديره لذاته. ومن شأن إعمال هذا المبدأ أن ينقل التعاطي مع مطالب الفنانين المعبر عنها في هذا الصدد، من سجل الدعم الاجتماعي، إلى سجل الحقوق الثقافية والاقتصادية.
ـ مبدأ الحق في التعبير، وهو مبدأ دستوري وينتمي إلى قائمة الحقوق الثقافية الكونية المقررة على الصعيد الدولي. وينبغي أن يضمن تفعيل هذا المبدأ قدرة الفنانين على الإبداع والتجديد والتطوير الذاتي وتقديم أعمالهم للعموم، باعتبارها نتاجا لممارسة حقهم في التعبير والمشاركة في الحياة العامة، وباعتبارهم من الفاعلين الذين يسهمون في تمكين المواطنين من الحصول على الثقافة التي يرغبون فيها.
ـ مبدأ كفالة الدولة للخدمة الثقافية باعتبارها خدمة عمومية. ويؤدي إعمال هذا المبدأ إلى تمكين عموم المواطنين، أفرادا وجماعات من الولوج إلى الخدمات الثقافية والتمتع بمنجزات فنانيهم ومبدعيهم على الوجه الذي يشبع انتماءهم الثقافي ويعزز شعورهم بهويتهم، واندماجهم في محيطهم الاجتماعي.
4 ـ 4 المفاهيم المؤسسة للخطة:
ـ مفهوم التنمية الثقافية، تعتبر التنمية الثقافية من الخانات الأساسية للتنمية بصفة عامة والتنمية البشرية بشكل خاص، نظرا للمكانة التي أضحت تحتلها ضمن لائحة العناصر المحددة لجودة الحياة في مجال اجتماعي وجغرافي ما. وقد ركز تقرير التنمية البشرية لسنة 2004 (الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي) على أهمية العوامل الثقافية في إقرار فرص نجاح السياسات التنموية، مع التركيز على ضمان الحقوق الثقافية وحرية المشاركة الثقافية لجميع المواطنين والمجموعات البشرية داخل نطاق الدول.
ـ مفهوم الجاذبية الثقافية للمجال: تدخل المجالات الترابية في الوقت الراهن في منافسة على مستوى جاذبيتها. ويعد العرض الثقافي الجيد والمتنوع والمتكامل واحدا من محددات مستوى جاذبية المجال، خاصة بالنسبة للمجالات التي تراهن على جلب الاستثمارات، والتنمية السياحية؛ بل إن تعزيز المجال الترابي بموارد بشرية مؤهلة وتستجيب لحاجيات التنمية يمر بالتأكيد عبر توفير الخدمات الثقافية الجيدة، جنبا إلى جنب مع توفير الخدمات الأخرى (الصحية والتعليمية والترفيهية…).
ـ مفهوم تنمية الصناعات الثقافية: يكشف إعمال هذا المفهوم في التخطيط الثقافي، الحاجة إلى سن سياسات ثقافية تكون غايتها، فضلا عن الالتزامات الحقوقية المشار إليها أعلاه، هيكلة الممارسة الثقافية بشكل قطاعي، يستهدف خلق قطاع اقتصادي منتج للقيمة المضافة وقادر تطوير جودة السلع الثقافية من خلال إقرار منافسة قائمة على الحرية والإبداعية ومواكبة أعمال المبدعين والمستثمرين في المجال الثقافي بإجراءات قانونية وجبائية وتمويلية وتسويقية وتأهيلية، كفيلة في نهاية المطاف بإطلاق دينامية قطاع حيوي قادر على خلق فرص الشغل وتعبئة نشاط ثقافي ترفيهي (فضلا عن البعدين التثقيفي والتواصلي) يسهم في تنشيط الاقتصاد الموازي (السياحة الداخلية والخارجية، والمطعمة،..)
وقد حددت الخطة مجالات التدخل في العناصر الآتية:
يحتاج كل مخطط جدي إلى آليات للتتبع والتقويم، من شأنها أن تمكن الأطراف القائمة على تنفيذ المخطط من معرفة مدى تقدمها في تحقيق الأهداف المسطرة، وتحديد مدى زمني لكل مستوى من مستويات التدخل. ينبغي أن تكون الخطة واضحة الخطوات، ومحددة في الزمان، ومحددة في أهدافها العامة والخاصة. ولهذا الغرض تم اقتراح المؤشرات الآتية:
ـ على مستوى الوعاء الزمني للخطة، ينبغي استيفاء كل التزامات المرحلة الأولى من الخطة ضمن مدى رؤية يمتد إلى 2020، على أساس يشرع في جني القطاف الأولى في حدود 2015. ستكون العشرية القادمة عشرية النهوض بالقطاع المسرحي كأولوية ضمن البرنامج الثقافي للدولة. وستكون الحكومة مدعوة إلى إقرار عناصر البرنامج وتعبئة الموارد وإقرار الإجراءات التحفيزية الكفيلة بتحقيق كل طرف لالتزاماته.
ـ على مستوى المؤشرات الكمية التي ينبغي استحضارها يمكن الإشارة إلى مستوى تطور البنيات التحتية مع الحرص على إنشاء مسرحين متوسطي الحجم لا يقل عدد مقاعدهما عن 500 مقعد، معدين لاستقبال مختلف أنواع العروض الحية فضلا عن المسرح، وبمقاييس كبيرة على مستوى الخشبة وملحقاتها (300 متر مربع على الأقل). وذلك في كل جهة من جهات البلاد موزعين على مدينتين من مدن الجهة.
ـ إحداث سلسلة من المسارح الصغرى (ضمن دور للثقافة أو بدونها) ما بين 150 و250 مقعدا، بتجهيزاتها التقنية الضرورية، وذلك في كل المدن المتوسطة على الصعيد الوطني، بشراكة مع الجماعات المحلية أو القطاع الخاص، أو المؤسسات العمومية أو شبه العمومية. بمعدل قاعتين في كل سنة.
ـ من بين المؤشرات الكمية التي ينبغي تطويرها، وتطوير طرق قياسها، مؤشر عدد المتفرجين، بحيث ينبغي أن يتجاوز عدد المتفرجين في نهاية البرنامج، ما يعادل 10% من عدد الساكنة النشيطة في المغرب سنويا
ـ ولقياس النشاط المسرحي واحتساب أيام الشغل، ينبغي اعتماد مؤشر عدد المسرحيات المنجزة سنويا، بحيث ينبغي الوصول في حدود 2015 إلى حوالي 200 مسرحية سنويا.
ـ كما ينبغي اعتماد مؤشر عدد العروض المقدمة فيما يخص كل مسرحية، بحيث لا ينبغي أن يقل هذا العدد عن نسبة 60% من عدد الأيام المفتوحة للعمل سنويا (300 يوم دون احتساب العطل).
ـ يقودنا هذا المؤشر إلى مؤشر ذي أهمية قصوى في هيكلة القطاع، ويتعلق الأمر بعدد الفرق النشيطة، التي ينبغي التوصل إلى خلقها ضمن هذا البرنامج، سواء كفرق مستقلة، منظمة في شكل شركات أو جمعيات تعاونية، أو كفرق تابعة أو متعاقدة مع المؤسسات المسرحية المحدثة في إطار هذه الخطة. بحيث لا ينبغي أن يقل هذا العدد عن 200 فرقة في حدود 2015 و500 فرقة في حدود 2020.
ـ عدد مناصب الشغل المتوقع إحداثها: يشكل هذا المؤشر أداة قياس مركزية لتتبع مدى نجاح الخطة. ذلك أن الاتجاه العام في الوقت الراهن هو إلى تقليص عدد المشاركين الممكنين في العرض المسرحي بسبب الرغبة في تخفيف الأعباء والتقليل من تكاليف الجولات، وليس بسبب اختيارات فنية. ومن المتوقع أن يؤدي استقرار العروض المسرحية في فضاءات ثابتة، وتسوية مشكلة الموارد المالية، إلى الانفتاح على اختيارات فنية أخرى تهتم بالجانب الفرجوي، أكثر مما تهتم بجانب التخوف من الكلفة. لذلك يشكل تتبع تطور أعداد العاملين في القطاع ممن يبرمون عقود شغل منتظمة، واحدا من مؤشرات قياس درجة نجاح الخطة.
ـ وإلى جانب هذه المؤشرات الكمية هنالك مؤشرات نوعية، تتعلق بتقويم درجة نضج السوق وديناميتها، وقيمة الأعمال المقدمة. وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى عدد المهرجانات التي يشارك فيها المسرحيون المغاربة على الصعيد الوطني والدولي، وعدد الجوائز التي يحصلون عليها.. وغير ذلك من المؤشرات النوعية.
ـ صياغة رؤية سياسية للتدخل في الميدان المسرحي تتسم بالتكامل والحرص على تعزيز مؤهلات القطاع وتجاوز عوائقه. وينبغي أن تستخلص هذه الرؤية السياسية الدرس من نتائج التدخلات السابقة، ومن البرامج الحكومية المعتمدة في تطوير القطاعات الأخرى. وأن تضع بوضوح المبادئ الكبرى لهذا التدخل، باعتباره تدخلا استراتيجيا لتعزيز التنمية المستدامة، وليس فقط باعتباره تدخلا من باب الواجب الأخلاقي والسياسي للدولة. سيكون من مهام هذه الرؤية السياسية أن تحدد دور الدولة كفاعل أول في إطلاق دينامية دعم القطاع وتمكين النسيج الثقافي من تقوية أدائه الاقتصادي، واستهداف تقوية قطاع ثقافي استثماري خاص، يشكل ضمانة لتفتح القطاع وازدهاره.
ـ صياغة برنامج عمل مرقم مبني على المؤشرات المذكورة أعلاه، وعلى الرؤية السياسية التي تحكمه، مع تحديد كلفته المالية العامة.
ـ تحديد مجالات التدخل (وهي سبعة مجالات):
1- الجانب المؤسسي،
2 – البنيات التحتية،
3 – التشريع والتنظيم،
4 – التكوين العام والمهني،
5 – المواكبة الإدارية والمحاسبية،
6 – هياكل الإنتاج والتسويق،
7 – الجانب الاجتماعي للمهنيين)؛
 
5 ـ خلاصة: التفكير في المسرح وتحولات الوعي بالممارسة:
كيف يواكب التفكير في المسرح تحولات الوعي بالممارسة؟ كيف يستبطن انشغالات المهنيين ومقاربتهم العملية لمعضلات المسرح في ممارسته اليومية: في علاقته بالجمهور، في علاقته بالدولة وبالسياسة الثقافية العمومية، في علاقاته بالقضايا المطروحة على ساحة النقاش العمومي، في علاقته بانفتاح الساحة الفنية المغربية على حساسيات وصيغ تعبير جديدة.
إن التطورات التي تعرفها الممارسة المسرحية في اتجاه المهنية، تحتم على الفاعل الأكاديمي والناقد المسرحي النشيط، أن يعيدا من جهتهما تحديد نوعية العلاقة التي ينبغي أن تربط بين الممارسة والمواكبة النقدية والبحث العلمي. إن الساحة المسرحية اليوم في حاجة إلى مواكبة قادرة على استيعاب تحولات حقل الفرجة المتغيرة حدودها بشكل مستمر. ويتعين على التتبع النقدي اليقظ أن يعمل على إدماج المسرح بأبعاده الجديدة في الساحة الثقافية الفرجوية، وأن يدمج عناصر الفرجة الجديدة في حقل المسرح، تمهيدا لإنشاء مباحث علمية وتكوينية جديدة تشمل الاهتمام بمفاهيم الوساطة الثقافة والهندسة الثقافة والتخطيط الثقافي كمفاهيم أضحى من الضروري إعمالها بفعالية لمواكبة كل سياسة ثقافية مستقبلية.
 
** الهواميـش:
 1/ يشكل تاريخ الفضاءات المسرحية جزءا هاما من تاريخ المسرح في الثقافات التي يتميز فيها وجود المسرح بالتجذر المؤسساتي.    وتهيئ الذاكرة التي تختزنها هذه الفضاءات، سندا ماديا لا يقدر بثمن في تشخيص الوجود التاريخي للمسرح، وإمكانية إنشاء خطاب تاريخي عن الممارسة المسرحية قائم بذاته، وغير محتاج إلى الاتكاء على خطابات أخرى.  
2/  أحمد بن الصديق من فقهاء المغرب(1889/1946) تلقى تكوينه بالأزهر في بدايات هذا القرن في الفترة نفسها تقريبا التي كان         فيها طه حسين هناك. أصدر، من بين عشرات الرسائل والفتاوى التي تنم عن أفقه الفكري المغرق في المحافظة، رسالة بعنوان     “إقامة الدليل على حرمة التمثيل” طبعت وصدرت عن دار العهد الجديد للطباعة بالقاهرة سنة 1374 ه. وقد افتتح هذه الرسالة      بالإجهاز على من اعتبرهم أدعياء علم جهلة، متخذي الألقاب الدينية البراقة. فكانت زوبعة داخل نفس الخندق على موقف اتخذه أحد شيوخ الدين فضل الكاتب الاحتفاظ باسمه في موقع المجهولية؛ قبل أن تكون معركة ضد الممارسة المسرحية. وقد ضمت الكراسة نفسها، فتوى حول تمثيل الأنبياء والملائكة والصحابة، بعنوان” “إزالة الالتباس عما أخطأ فيه كثير من الناس” لعبد الله محمد الصديق، فضلا عن مقال في الرد على بعض مثقفي طنجة حول المسرح، لنفس المفتي
3/  علال بن عبد الواحد بن عبد السلام الفاسي الفهري (1910 – 1974) من زعماء السلفية الوطنية التنويرية في المغرب والعالم العربي، إلى جانب محمد عبده ورشيد رضا ومحمد الطاهر بن عاشور وغيرهم من مجددي الفكر الديني والثقافة العربية الإسلامية، كان شاعرا وزعيما سياسيا، من أهم مؤلفاته: “النقد الذاتي”، و”الحركات الاستقلالية في المغرب العربي”،” مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمه”.
4 / محمد المختار بن علي بن أحمد السوسي الإلغي (1900-1963)، مؤرخ للثقافة وشاعر وفقيه، من زعماء الإصلاح الثقافي والديني بالمغرب. شغل لفترة منصب وزير التاج على عهد السلطان محمد بن يوسف (الخامس) وتعرض بسبب نشاطه الوطني إلى الإقامة الإجبارية بمسقط رأسه. من أشهر مؤلفاته: “المعسول” في عشرين جزءا، أرخ فيه للحركة الثقافية والعلمية بسوس، و”خلال جزولة“(في أربعة أجزاء)، و”وسوس العالمة”.
5/ عبد الله گنون الحسني، (1908 – 1989) من أبرز أدباء المغرب في القرن العشرين.وهو فضلا عن تميزه الأدبي كان من الفقهاء البارزين، وتفلد الأمانة العامة لرابطة علماء المغرب. من أهم مؤلفاته: النبوغ المغربي في الأدب العربي” في ثلاثة أجزاء، انتصر فيه للإسهام المغربي في الأدب العربي مما اعتبره إهمالا من مؤرخي الأدب المشارقة، و” أمراؤنا الشعراء”، و”أحاديث عن الأدب المغربي الحديث”، فضلا عن رئاسة تحرير مجلة “مجلة لسان الدين” وجريدة “الميثاق”، كما حظي بعضوية مجموعة من الهيئات: المجمع العلمي بدمشق 1956 ، مجمع اللغة العربية بالقاهرة 1961، هيئة القدس العلمية 1973، مجمع اللغة الأردني 1978، المجمع العلمي العراقي 1979، أكاديمية المملكة المغربية 1980.
6/ من أجل الوقوف على هذه النصوص وظروف كتابتها، يرجع إلى كتابنا: “الشخصية في المسرح المغربي، بنيات وتجليات” منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة ابن زهر، أگادير 1992. ص. 22-23.
7/ “تاريخ المغرب، تحيين وتركيب”، إشراف محمد القبلي، ط. 1 منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، الرباط 2011، ص.479-480.
8/ محمد المنوني (1915-1999): “مظاهر يقظة المغرب الحديث”، دار الغرب الإسلامي، 1985، وقد تناول فيه المولف مجمل محاولات الإصلاح التي عرفها المغرب منذ 1830 (سنة احتلال الجزائر) إلى 1912 (تاريخ إبرام عقد الحماية.
9/ محمد عابد الجابري: “محمد المنوني مظهر منن مظاهر يقظة المغرب الحديث” ضمن في النهضة والتراكم، مؤلف جماعي.
10/ جمع كتاب ذ. محمد الأخضر: “الحياة الأدبية في المغرب على عهد الدولة العلوية ” (دار الرشاد الحديثة الدار البيضاء 1997) مجموعة من الإحالات المفيدة في هذا الصدد، ص 395-397.         أنظر على سبيل المثال ما أورده د. محمد ياسين عربي في كتابه: “الاستشراق وتغريب العقل التاريخي العربي، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية-، الرباط 1991، ص135.
11/  للوقوف على وصف واف لعدد من هذه الفرجات وأشكال الترفيه التقليدية، يرجع إلى: حسن المينعي: “أبحاث في المسرح المغربي”، مطبعة صوت مكناس 1974.
12/ تحفة الملك العزيز بمملكة باريز، منشورات المطبعة الحفيظية بفاس 1908.
13/ الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية، منشورات جامعة محمد الخامس، فاس 1967.
14/ إتحاف الديار بغرائب الأخبار، مخطوطة بالخزانة الحسنية، أعدها للنشر عز المغرب معنينو ضمن دراسة لنيل دبلوم الدراسات العليا من كلية الآداب بالرباط، 1992.
15/ بخصوص مزيد من التفاصيل حول مواقف الرحالين المغاربة من الفرجة وفضاءاتها، يمكن الرجوع إلى: بنسعيد العلوي (سعيد): أوروبا في مرآة الرحلة صورة الآخر في أدب الرحلة المغربية المعاصرة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية،/ الرباط، 1995، ص.ص. 59-62.
16/ تراجع جوانب من حياته في الدراسة التي مهدت بها سوزان ميلار لتحقيق نص رحلته: رحلة الصفار إلى فرنسا (1845-1846)، دراسة وتحقيق سوزان ميلار، تر. ومشاركة في التحقيق خالد بن الصغير، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية- الرباط 1995، ص. ص. 48 63.
17/ من المفيد الانتباه إلى أن الصفار زار فرنسا في ظل المناخ العام الذي نشأ عن توالي الأحداث المكرسة لهزائم المغرب أمام المد الاستعماري الغربي (احتلال الجزائر 1830، الهجوم على الموانئ المغربية صيف 1844، وهزيمة إسلي في غشت 1844)، وما ترتب عنها من تمزق في وعي النخبة المخزنية إزاء العلاقة مع هذا الغرب الذي كان لا يزال يدرك حتى ذلك الحين باعتباره مسيحيا. ومن المؤكد أن هذا المناخ خيم على أجواء الرحلة وعلى الموقف العام الذي تحكم في كتابة النص الناتج عنها: “علينا أن نعرف هذا العدو الذي هزمنا بمظاهر قوته كلها وأسبابها”. وليس غريبا، والحال هذه، أن لا نجد في الرحلة إدانة ولا حكما سلبيا على المظاهر الموصوفة، لا يتيحهما موقع الضعف الواضح الذي يتحدث منه الرحالة. كما لا نجد تبجيلا أو تعظيما لا تسمح به المرجعية الثقافية التقليدية، التي لم تتعرض بعد لأي نقد عميق. ينتمي المسرح – في عين الرحالة – إلى تلك الكوكبة من المظاهر الحضارية الجديرة بالذكر والوصف، دون زيادة ولا نقصان.
18/ قارن: تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز،  دار ابن زيدون، بيروت/ مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، ط. 1 (ب.د.ت.)، ص. 135، ورحلة الصفار، م. سابق، ص. 157.
19/ الصفار، ص. 159.
20/ نفسه، ص.163.
21/ قارن ص. 163 من رحلة الصفار، مرجع سابق الذكر.
22/ عبد القادر السميحي: “نشأة المسرح والرياضة في المغرب”، مكتبة المعارف، الرباط 1986، ص. 21 وص. 269
23/ بني هذا المسرح بمبادرة خاصة من اسبيرانزا أوريانا، وزوجها مانويل بينيا وأنطونيو غاليغو مالك المسرح. وكان يتسع ل1400 مقعد، وظل لفترة طويلة من القرن العشرين أكبر مسارح شمال أفريقيا. كان يجلب عروضا مسرحية وموسيقية لأشهر الفنانين في فترة كانت فيها مدينة طنجة خاضعة لنمط إدارة دولي.، وتعرف توافد جاليات أوروبية واسعة فضلا عن كبار الأدباء والفناني العالميين الذين اتخذوا منها مستقرا في فترات متفاوتة خلال القرن الماضي.
24/ نفسه، ص. 44.
25/ قال محمد تيمور متحدثا عن المسرح في مصر في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين: “التمثيل في مصر وليد الأمس وطفل اليوم ولا نعلم شيئا من أمره في الغد. هو اليوم كما يتراءى لنا طفل عليل تحيط به الأمراض وتكتنفه الأوبئة من كل جانب، ويخشى كثيرا على حياته أن تذهب بها يد المطامع الشخصية، التي تثور في قلوب قوم قاموا لاستدرار المال من جيب الجمهور بوسائل لا صلة بينها وبين الفن الصحيح.” نقلا عن مندور (م.): المسرح النثري، دار نهضة مصر، القاهرة، (د.ت)، ص. 18
26/ في المقدمة التي وضعها سنة 1949 لمسرحية الملك أوديب، يشير توفيق الحكيم إلى الإهمال الذي كان من نصيب المسرح ولا يزال في مجال الأدب العربي ويحاول تفسيره. (انظر: مقدمة الملك أوديب، مكتبة الآداب، القاهرة (1977؟) ص. 12) كما أن محمد مندور في كتابه: “المسرح النثري” تساءل بصدد تجربة النقاش وما تلاها، هل باستطاعتنا أن نعتبرها جزءا من الأدب العربي؟. ثم أجاب أن فن المسرح ” بالرغم من ظهوره في العالم العربي منذ سنة 1848 لم يستطع أن يخلق أدبا تمثيليا على نحو ما نشاهد في الآداب الغربية إلا ابتداء من الربع الثاني من هذا القرن”، المسرح النثري، مرجع سابق، ص. 7.
27/  لقد تم تكليف كاتب هذا البحث بتنسيق عمل اللجنة المكلفة بإعداد الخطة، والإشراف على تحريرها النهائي وتقديمها للسلطات المعنية والمرافعة بشأنها أمام الحكومة وفي كل المحافل الثقافية والسياسية والإعلامية. وبالفعل تم تقديم المسودة النهائية للخطة إلى وزير الثقافة محمد الأمين الصبيحي في 12 فبراير 2012 .
28/ يعني ان يكون المخطط وطنيا، أن يشمل مجمل التراب الوطني وأن يعبئ كل المؤسسات الدستورية من الدولة إلى الجماعات الترابية الجهوية والمحلية. ويعني أن يكون مندمجا أن يشمل مختلف جوانب العمل المسرحي، من الجوانب التشريعية والمؤسساتية والتمويلية والمواكبة والبنيات التحتية والتسويق والتكوين والجوانب الاجتماعية للعاملين. وقد فصلت الخطة صيغ التدخل المنتظرة في كل مجال من هذه المجالات.
29/ يشمل التعاقد مختلف الأطراف المتدخلة: زهي الدولة والجماعات والقطاعات الحكومية المختلفة والمهنيين ومؤسسات التمويل والمواكبة، في إطار عقود برامج متبادلة الالتزامات.
30/ في كندا يسهم القطاع الثقافي ب40 مليار دولار أمريكي في الناتج الداخلي الخام (أي ما يعادل نسبة 3,8 % ) ويوفر ما يزيد عن 600 ألف منصب شغل مباشر. وفي أوروبا، شغلت الصناعات الثقافية سنة 2003، حوالي 5.8 مليون شخص، وحققت رقم معاملات تجاوز 654 مليار أورو. ويشمل هذا الرقم مختلف الفروع الثقافية (الأدب، السينما، الموسيقى، الهندسة المعمارية، المسرح، الفنون التشكيلية، الرقص، وكل ما يتعلق بالجوانب الإبداعية في الإشهار، والتصميم وألعاب الفيديو). وهذا الرقم يمثل 2.6% من الناتج الداخلي الخام للاتحاد الأوروبي. وهي بذلك تفوق مساهمة الصناعة الغذائية (1.9%) والصناعة الكيميائية (2.3%)، مما يجعل النفقات الثقافية تشكل – حسب المفوض الأوروبي خوان فيجيل استثمارات صلبة. (إحصائثيات كندية وأوروبية).
31/ هذه المواثيق هي:

  • الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 دجنبر 1948
  • العقد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الصادر في 16 دجنبر 1966 ودخل حيز التطبيق في 23 مارس 1976 (المواد 1 و18 و19 و27)
  • العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر بتاريخ 16 دجنبر 1966 ودخل حيز التطبيق في 3 يناير 1976

 
  د. عز الدين بونيت / جامعة ابن زهر أگادير
 
*** ملاحظة هامة: هذا البحث شارك به د. عز الدين بونيت  ضمن الندوة العلمية التي نظمت يوم الجمعة 23 أكتوبر 2015 بمناسبة احتفاء الدورة 17 من أيام قرطاج المسرحية المنعقد في مدينة تونس في الفترة الممتدة ما بين 16 و 24 أكتوبر 2015 احتفاء بمأوية المسرح المغربي.
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت