وماذا بعد أن: كسب الفخرانى المليون وكسب الشباب المسرح ؟ / د. حسن عطية

منذ عدة أيام أحتفل المسرح القومي بتحقيقه إيرادات مالية تعد الأعلى في تاريخه، قياسا على قيمة تذكرة الدخول حاليا، مكتسبا المليون جنيه الأول، ومنطلقا للمليون الثاني، بعرض أوبريت (ليلة من ألف ليلة) بطولة الفنان الكبير “يحيى الفخرانى”، مستعيدا بذلك معيارا غاب لفترات طويلة عن تقييمنا لما يحققه المسرح من إنجازات وسط مجتمعه، وهو معيار دخل (الشباك)، والذي يعنى في صورته الظاهرة حجم الجمهور المشاهد، وبالتالى مدى التأثير  الجمالي  والفكري  الذي يحققه  العرض المسرحي على مجتمعه ، مما دفع ببقية الفرق الأخرى لإعلان ما تحققه من إيرادات مالية قياسا على حجم إنتاجها وطبيعة مسارحها والقيمة المادية لتذاكر مشاهدة عروضها.
فالمسرح ليس بهجة لممثليه، ولا فرحة لمنتجيه، ولا تشغيلا لموظفيه، بل هو مؤسسة مجتمعية منوط بها أن تلعب دورها الواعي بين جمهورها، وبصورة خاصة حينما نتحدث عن المسرح الجاد، الذي تتحمل مسئوليته فرق مسرح الدولة، اتساقا مع فكرة أن المسرح خدمة ثقافية، لا بد وأن تصل هذه الخدمة لأصحابها، وليس للمقاعد الخاوية، ولا لمجموعة الأصدقاء والضيوف والموظفين الذين يشغلون بضعة مقاعد، ويدفع لهم صناع العرض قيمة تذاكر دخولهم في الشباك، وفقا ل (الكوتة) التي يحددها البيت الفني لكل فرقة وعروضها كي يمكن للعرض أن يستمر تقديمه، وينهى أيامه المحددة إنتاجيا. وأصحاب الخدمة الثقافية هنا هم الجمهور بكافة مستوياته، وبمختلف توجهاته وأمزجته واختياراته للعروض المقدمة في فرق البيت الفني المختلفة، وفرق الهيئة العامة لقصور الثقافة، وبقية الفرق التابعة لوزارة الثقافة المعنية بصورة أساسية بتوجيه هذه الخدمة الثقافية، والتي لا ينبغي عليها الوقوف عند فكرة إيجاد ساحات مفتوحة يعبر فيها المواطنون عن أنفسهم تمثيليا، بعيدا عن الانشغال بالفكر المتكلس، مثلما هو الحال مع مسرح الجامعة ومراكز الشباب والمستقلين والفرق الحرة وغيرها من عروض الهواة، التي تتجمع حول مجموعة أو عرض تقدمه لتعبر عن أفكارها وأحلامها دون رؤية كلية تجمع هذه العروض في مسار محدد .
أما عروض وزارة الثقافة فلابد لها من رؤية تحكمها، واستراتيجية تحدد دورها وحركتها، فيما يتجاوز مفهوم التعبير عن الذات أو الجماعة، للتعبير عن المجتمع ككل، وما ينبغي أن يصبح عليه، أي أن عروض فرق وزارة الثقافة يجب أن تكون جزءا من منظومة ثقافية تشترك في صياغتها وزارة الثقافة مع المثقفين المستنيرين، لمواجهة عمليات تزييف وعى هذا المجتمع وطمس هويته ، وهو ما يضع على كاهل المثقف المصرى عامة ، وعلى هذا المثقف المبدع بفرق وزارة الثقافة خاصة، مسئولية المشاركة الفكرية في بناء هذا الوطن، واستعادة ذاكرته المستلبة، وفتح نوافذ حرية التفكير أمامه، واستثمار حضور الجماهير إليه للحوار معها حول مستقبل الوطن، والعمل على إعادة المسرح لجماهيره ، بالعروض  الملامسة لعصبه العاري، والنصوص المتكاملة دراميا الطارحة لهموم والمناقشة لقضاياه، والتوجه إليه في عقر داره بعروض لا تتعالى عليه أو تفسده بهبوطها المتدني مسرحيا عقله الذي يحتاج إليه الوطن .
** حالتان وجريمة:
وهنا لابد لنا من الوقوف أمام حالتين من حالات الاهتمام  الجمهوري  بالمسرح في الأشهر الأخيرة، أولاها إيجابية يكشف عنها هذا الإقبال الملحوظ على العروض المقدمة، ليس فقط خلال الدورة الأخيرة للمهرجان القومي للمسرح، بل وأثناء تقديمها بفضاءات مسارحها، مما يؤكد على قدرتها على جذب الجمهور بجماليات مبهرة ومثيرة للدهشة، نذكر منها على سبيل المثال (حلم ليلة صيف) و(هنا أنتيجون) و(روح) و(سيد الوقت) و(رجالة وستات) و((3D و(سهرة ملوكى) من عروض فرق البيت الفني للمسرح، و(أحدب نوتردام) و(أبن عروس) و(إيكوس) لفرق الهيئة العامة لقصور الثقافة، وأيضا (الغريب) و(هاملت والمليون) و(صيد الفيران) من المسرح الجامعي والأكاديمي، تحمل مسئوليتها جمهرة من المبدعين الشباب، تتقدمها كتيبة من المخرجين المؤكدين على حضورهم المتألق في حقل المسرح المثير والمبهج جماليا، وهم بترتيب ذكر العروض السابقة: مازن الغرباوى وتامر كرم وباسم قناوى والمتميز ناصر عبد المنعم وإسلام إمام ومحمد علام وأحمد رجب وأشرف حسنى ويس الضوى وفريد يوسف ومحمود عبد العزيز والمخضرم خالد جلال وأحمد ماجد، مما يؤكد على وجود جيل جديد أو جيلين من المخرجين فاعلين في الحركة المسرحية المصرية ، حتى أن هذا الكم الكبير من المخرجين المتميزين وعروضهم الراقية شكل معضلة أمام لجنة اختيار العروض المصرية للعرض عل اللجنة العربية المنوط بها اختيار العروض المقدمة لها من كل الدول العربية للمشاركة في الدورة الثامنة للمهرجان المسرح العربي، والذي تنظمه الهيئة العربية للمسرح بالشارقة، وتقام الدورة الجديدة في يناير القادم بالكويت، ولا يزيد عدد العروض المقدمة في هذه الدورة عن تسعة عروض من كل الدول العربية، مما يتطلب اختيارا دقيقا للأنسب للمشاركة في المسابقة الرسمية لمهرجان المسرح العربي، والمفضل لها العروض المعتمدة على نصوص لكتاب عرب ، والفوز  بالتالي  بجائزة  الشيخ “سلطان  القاسمي” للنص العربي .
هنا المعضلة الكبرى، ليس فقط بالنسبة للمهرجان العربي، بل في الأساس لحاضر ومستقبل المسرح المصري ومجتمعه معا، فمن بين العروض الثلاثة عشر المذكورة لا نجد غير خمسة عروض لكتاب عرب هم: الشاعر الكبير “محمد فريدة أبو سعدة” (سيد الوقت) وصفاء البيلى ((3D ، ويس الضوى (ابن عروس) ، ومحمود جمال (الغريب)  ثم  (سهرة ملوكى) عن نص الكاتب السورى الكبير سعد الله ونوس (سهرة مع أبى خليل القبانى)، وبقية العروض معتمدة على نصوص أجنبية، احتراما  في أقليتها لبنية النصوص الأصلية وفكر أصحابها، وإعدادا في غالبيتها باسم (الدراماتورج) أحيانا وأسم (التأليف) أحيانا أخرى، حتى أن الجمهور لا يستطيع بسهولة معرفة فكر المؤلف الأصلي ولا توجهه المسرحي، وبذا يبرز العرض  المسرحي متألقا بصورة جمالية في ذاته، ومقتطعا عن سياق كتابة نصه زمنيا ومكانيا، وسياق تقديمه أيضا الزماني والمكاني، وتطرح   أغلب هذه العروض قضايا عامة، وتطلق رسائل تلتحف بالإنسانية، تاركة للجمهور المتلقى حرية أن يختار منها ما يلاءم فكره ورؤيته للمجتمع، فيبدو العرض كاختبار الذكاء سيكولوجيا الذي وضعه الطبيب  السويسري “رورشاخ” وعرف باسمه، وعليه يتحقق نجاح العرض بالتفاعل الصاخب لجمهوره معه، وبالتصفيق المتوالي للأقوال و(الجيستات) ، دون أن يمنح العرض جمهوره فرصة التلقى متأملا ومفكرا فيما يقدم له من بنية درامية تخاطب حواسه، لتخترق وجدانه، بهدف الوصول إلى عقله وإيقاظه من ثباته، أو على الأقل هز ما أستقر عليه سلوكه نتيجة لتعطيله لملكة التفكير لديه .
** تغييب الكاتب الدرامي:
هذه الملكة التي تحتاج نصوصا متكاملة البناء دراميا، يكتبها جيل جديد ملامس لسخونة الواقع، ويقدمها أبناء ذات الجيل برؤى عميقة لهذه النصوص تحترمها وتحاورها وتقتحم بها الحياة الآسنة التي نعيشها،  للأسف تسحق هذه الملكة أمام تصدر المخرج واجهة المشهد المسرحي، قائدا لمجموعات الممثلين البارعين ومجموعة صناع العرض المسرحي المتميزين، مخفيا خلف ظهره معدا يبحث لنفسه عن مساحة ضوء لكتاباته المعتمدة على كتابات الآخرين، ومؤخرا ظهور الكاتب الدرامي المخلص لكتاباته، وذلك بتعمد عدم تقديمه، أو بعدم قدرته على اختبار إبداعه في فضاءات المسرح، فالكتابة للمسرح ليست كفنون الكتابة الأدبية مثل الشعر والقصة والرواية، بل هي تحتاج لتواجد دائم داخل دور العرض المسرحي، والإلمام العميق بفنون التمثيل والسينوجرافيا، والفهم لطبيعة العلاقة التواصلية المباشرة بين العرض وجمهوره. وهو ما يعيدنا مرة أخرى للحديث عن استراتيجية وزارة الثقافة خاصة، ومؤسسات المجتمع الرسمي والمدني معا تجاه فن المسرح، فإثبات حالة التواجد أمر ليس صعبا، بل الصعب هو فاعلية هذا التواجد، ودور التحقق المسرحي، فكم نحن بأمس الحاجة لاحتضان الكاتب المسرحي المصري، بعد أن تضاءل وجوده داخل وخارج الوطن، وليس بالمسابقات والجوائز وحدها يوجد الكاتب الدرامي، بل بالحضور بفضاءات المسرح، والتشابك مع المجتمع، وإيقاظ قدراته العقلية للعمل على تغيير هذا الوطن إلى ما هو أفضل وأكثر تقدما.
** بضاعة أفسدها النجم:
الحالة الثانية التي نتوقف عندها هنا، وهى للأسف شديدة السلبية، وتتعلق بعلاقة الجمهور بهذا المدعو (مسرح) وهو ليس كذلك، والذي روج له الإعلام في العامين الأخيرين، ودشنت وجوده قنوات خاصة تبحث عن حصيلة الإعلانات قبل أي شيء، ودعمته مراكز وورش مسرحية منتشرة غير أكاديمية، وحمل لوائه في الأساس الممثل “أشرف عبد الباقي”، بعروضه تحت مسمى (تياترو مصر) حينا و(مسرح مصر) حينا آخر حسب القناة التي تقدمه، يكتبها المخرج كإطار  ارتجالي عام يقوم كل ممثل بملء حوار دوره ودور الآخرين الذين يتعدى عليهم طوال العرض، خارجا عن النص وعن المسرح ذاته، فليست هناك شخصيات ذات قوام، ولا حدث متكامل، وإنما مجرد اسكتشات ضاحكة، و(أفيهات) ساخرة، وإهانة متعمدة لأعمال وشخصيات مسرحية وسينمائية الجادة، ويُعد كل عرض بسرعة ليقدم في نهاية الأسبوع، كحفلة أقرب لحفلات الترفيه المدرسية، دون أن تصاغ دراميا بصورة سليمة، ولا تخرج مسرحيا بالصورة المطلوبة، بل مجرد ممثلين أقرب للمهرجين يضحكون جمهورا في المسرح يتصور أن هذا العبث هو المسرح، ويخدعون جمهورا أمام الشاشة ببضاعة مغشوشة تفسد فن المسرح وذائقة الجمهور وعقل المجتمع.
هنا تكمن قضية الجمهور الحقيقية، فالإقبال الجماهيري في ذاته مهم جدا، سواء جاء الإقبال بسبب نجم محبوب أو إبهار بصري أو مجموعة مهرجين، ولكن أن نخدعه ونزيف وعيه فهذه هي الجريمة التي علي الإعلام الانتباه لها، وعلى الثقافة أن تقاومها بصحيح المسرح، والوطن الطيب يحتاج بالفعل لمسرح واع وراق وقابض على الجمر.
 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت