محتويات كتاب " الدراماتورجيا وما بعد الدراماتورجيا لصاحب “قاموس المسرح"

دشن المركز الدولي لدراسات الفرجة دخوله الثقافي لموسم 2015 / 2016 بإصداره الجديد “ الدراماتورجيا  وما بعد الدراماتورجيا لصاحب “قاموس المسرح العالمي، الفرنسي باتريس بافيس، وقد قام بترجمة وتقديم هذا المؤلف كل من الدكتورين: سعيد كريمي وخالد أمين.
و يتضمن هذا الكتاب دراستين مختارتين بعناية للباحث الفرنسي المرموق باتريس بافيس. الأولى تحمل عنوان: “الدراماتورجيا وما بعد الدراماتورجيا”، قدمها الباحث في مؤتمر “الدراماتورجيا البديلة” بطنجة 2014، حيث يتتبع فيها مفهوم الدراماتورجيا كما كان متداولا منذ المرحلة البريشتية، وما بعد البريشتية على الخصوص، وإجمالا منذ الخمسينيات بأوربا، حيث بلور التحليل الدراماتورجي منهجية متطورة جدا في قراءة وتأويل النصوص المسرحية، مستفيدا من أواليات الاشتغال الناجعة، والفعالة، للعلوم الإنسانية. فالقيام بتحليل نص مسرحي ما، يقتضي تهيئ اختيارات إخراج مسرحي مستقبلي، سواء تم إنجازه، أو لم يتم. وهذا يعني، أنه كان من اللازم الاستفادة من علوم التاريخ، وعلم الاجتماع، والتحليل النفسي، واللسانيات، أو من السميولوجيا. ولكن أيضا، في بعض الأحيان، فرض شبكة قراءة على المخرج المسرحي، قد تبدو مقيدة جدا بالنسبة إليه. من هنا، تظهر أزمة الدراماتورجيا، رغم أنها بدأت تتمأسس في مناح متعددة، باحثة لها باستمرار عن سبل جديدة.
ويتمثل السؤال الإشكالي بالنسبة إلى بافيس في هذه الدراسة في ماهية الدراماتورجيا، وهل هي شعرية/ إنشائية العمل الدرامي والفرجوي؟ أم أنها تقنية دقيقة وبراغماتية لتحليل نص، وإخراجه عمليا على الركح؟
وللإجابة عن هذا السؤال يجب التحليق في تاريخ المسرح لتقييم وظيفة الدراماتورجيا، ومنهج التحليل الدراماتورجي، ودراسة أنماط تمثل كل حقبة للمسرح، ولطرائق تحليله. وهذا يعني أننا سننتقل من الشعرية الكلاسيكية الإغريقية، إلى الكلاسيكية الجديدة الأوروبية خلال القرنين السادس عشر، والسابع عشر، ثم إلى الدراماتورجيا النصية، والعرضية لديدرو Diderot، أو ليسينغLessing ، وبعد ذلك إلى الدراماتورجيا السياسية لبريشتBrecht ،  أو بيسكاتور Piscator، لنصل إلى الدراماتورجيا المتشظية في وقتنا الحاضر. ويبقى علينا معرفة ما إذا كانت الأشكال ما بعد الحداثية، وما بعد الدرامية، لا تزال في الآن نفسه دراماتورجية، و”قابلة للدراماتورجية Dramaturgisable “، أي قابلة للتحليل بأدوات دراماتورجية.
وقف بعد ذلك باتريس بافيس عند أدوار الدراماتورجيا، ونسبية القراءة الدراماتورجية، والتأويل والدراماتورجيا… وتكمن الفائدة من الدراماتورجيا في نظره عموما في إيجاد أحسن الحلول السينوغرافية (أو أقلها سوءا؟) في اللحظة الراهنة، ليس في المطلق، ولكن بحسب وضعية ومنطق الإخراج المسرحي المرتقب، أو الذي هو في طور الانجاز، في الآن نفسه بحسب الفنانين، أو الآفاق الانتظارية للجمهور.
وعرج على الدراماتورجيات الجديدة، ممثلة في “المسرح التوليفي”، و”الدراماتورجيا البيداغوجية”، و”دراماتورجيا الممثل”، و”الدراماتورجيا ما بعد السردية”، و”الدراماتورجيا البصرية”، و”دراماتورجيا الرقص”، علاوة على أنماط أخرى من الدراماتورجيا، حيث تنضاف الموسيقى إلى الرقص، والمسرح الموسيقي، وكل الفنون غير التعبيرية، وغير المحاكاتية، والفن التشكيلي التجريدي، والانجازات، والتجمعات البشرية، وكل الأنشطة الأدائية، والفرجوية المتخيلة. ويكفي لإضافتها إلى اللائحة المفتوحة للدراماتورجيا أن تكون هذه الفنون مصممة بطريقة دلالية، غير تصويرية، وغير سردية. ويبقى المبدأ هو نفسه، ذلك أنه لاستيعاب وظائف هذه الدراماتورجيات الجديدة، ليس من الضروري المرور عبر الحكاية، أو القصة، أو السرد، بل يكفي فقط استيعاب، وتجريب البنية الشكلية للعمل الفني، ولتنظيمه، ولمنطق الدلالة والإحساس.
وتوقف بافيس في نهاية الدراسة عند مستقبل الدراماتورجيا وتحدياتها. فإذا كانت طرق الدراماتورجيا التقليدية (المرتبطة بالإنتاج) معروفة، واختبرت بكفاية، فالأمر لا ينطبق على الدراماتورجيا الجديدة (تلك التي ترتكز بالأساس على تلقي الجمهور)، فالتأمل النظري يمتح من الممارسة التطبيقية، لذلك بات ضروريا التفكير في طرائق الاشتغال الأكثر تأقلما مع التجارب الجديدة. فبقدر ما نبتعد عن الدراماتورجيا المكتوبة من طرف المؤلف (وفقا للقواعد الكلاسيكية)، أو الدراماتورجيا المعدة والمنجزة من لدن الدراماتورج (في الحقبة الحديثة من ليسين إلى برشت) بقدر ما نصبح مضطرين لإنجاز دراماتورجيا خاصة بنا (ما بعد حداثية، أو ما بعد درامية)، وذلك بناء على نتيجة غالبا ما تكون غير مقروءة، وبالتالي، نصبح إزاء دراماتورجيا المتفرج.
أما الدراسة الثانية الموسومة بـ”المسرح المعاصر: تحليل لمجموعة من النصوص، من ساروت إلى فينافير”، فهي عبارة عن فصل من كتاب لنفس المؤلف يحمل عنوان: Le théâtre contemporain, analyse des textes, de Sarraute à Vinaver.
اقترح بافيس ترجمة هذا الفصل إلى العربية لاحتوائه على محاولة ترميم منهجية قرائية يمكن تطبيقها على الكتابة الدرامية المعاصرة بما فيها العربية. أما النموذج التحليلي الذي يقترحه هنا فيسعي لنوع من الكونية العابرة للتاريخ، إذ يتلاءم مع مختلف السياقات التاريخية التي أفرزت الأعمال المعاصرة. إنه نموذج مبني على تلقي القارئ في مواجهة النص. كما يشكل هذا التلقي جماع العمليات المعرفية المنجزة، بحيث يصبح نقيض المنهجية التوليدية التي تختص بتكون العمل، وأصوله، وطريقة اشتغال المؤلف.
ورغم غياب منهج دقيق في اختيار النصوص، حسب بافيس دائما، فإن الملاحظ أن مؤلفيها ينقسمون إلى ثلاث أصناف من الكتابة الدرامية المعاصرة: “كلاسيكيو الحداثة”، وهم ساروت، وفينافير، وكولتيس؛ ورثة الثلاثة المذكورين، وهم على التوالي: ريزا، ومينيانا، ولاغارس؛ والمخالفون للنماذج، وهم: نوفارينا، بتهشيمها للغة، ودورانغير، وإعادة تشكيله للطبيعوية، وكورمان، والوجوه الاستيهامية في كتابته. ويتمثل الهدف الأسمى، بالنسبة لبافيس، في إسماع أصوات هؤلاء المؤلفين، بعيدا عن الخشبات، مع ثقته في الرؤية الداخلية للقارئ الذي سيعيش لحظاتها.
وتشكل الدراستين معا إضافة نوعية، ليس فقط في تعاطي باتريس بافيس مع الإشكالات المرتبطة بالدراماتورجيا، بل أيضا فيما يرتبط بما بعد الدراماتورجيا. ومع ذلك، قد يتساءل القارئ العربي عن مفهوم الدراماتورجيا وتطوره قبل الحديث عن ما-بعد الدراماتورجيا.
والحال أن الدراماتورجيا (1) مصطلح ذو مجال دلالي واسع، يتموقع في مفترق الطرق بين الكتابة الدرامية والإخراج المسرحي والنقد. إذ يشير إلى فن بناء النص الدرامي أو بنيته الداخلية، من جهة. كما يشمل، في مقام ثان، تحويل اللغات المسرحية وترجمتها بكتابة ركحية. إضافة إلى ذلك، تستوعب الدراماتورجيا، أيضا، الجانب النظري الخاص بعملية إخضاع المنتوج الدرامي للتحليل الدراماتورجي باعتباره فعلا متجذرا في الممارسة المسرحية، بل لا يكاد ينفصل عنها. وقد أكد باتريس بافيس ذات مرة بأنه قد تم تصور الدراماتورجيا عموما “كتقنية (أو شعرية) للفنون المسرحية التي تسعى إلى وضع مبادئ بناء المسرحية” (بافيس 1998، 24).
ومع ذلك، يبدو أن بافيس نفسه بدأ يقر أيضا بالتحولات العميقة التي عرفها حقل الدراماتورجيا، إذ نجده يقول في مطلع الدراسة الأولى المعنونة بـ”الدراماتورجيا، وما بعد الدراماتورجيا”: “نشهد في الآن نفسه، نجاح وتشظي الدراماتورجيا، ليس فقط الدراماتورجيا بمفهوم الكتابة الدرامية، بل أيضا التحليل الدراماتورجي: أي قراءة وتحضير المنجز من طرف المستشار الأدبي، أو الفني للمخرج، المسمى في بعض الأحيان (دراماتورج) أو Dramaturg” (2). بعد تقويض سلطة كل من المؤلف الدرامي، والمخرج المسرحي، والدراماتورج (المستشار الفني)، صارت الدراماتورجيا اليوم تراهن أكثر فأكثر على المتلقي فيما يعرف بدراماتورجيا المتفرج. فالممارسات الدراماتورجية التوليفية المعاصرة تركز كثيرا على الحوار مع الجمهور؛ لذلك يجبر الدراماتورج أحيانا على إجراء حوارات مع أفراد من الجمهور بعد العرض قصد إدماجها في سيرورة العمل في طور الإنجاز مستقبلا. ولطالما راودتنا غواية الاحتفاء بتلك الحساسيات المسرحية المتوسلة بدراماتورجيا مغايرة ومستفزة للأنساق السائدة (بما فيها المسرح الجديد لفترة الستينيات والسبعينيان من القرن الماضي)، والتي تجبرنا –كمتلقين- على التحول دوما إلى مشاركين فاعلين، بدلا من مستهلكين سلبيين.
يمكن أيضا في زمننا الراهن فهم “ما بعد الدراماتورجيا” على أنها كل أنواع العروض الفرجوية الجديدة التي لا تنطلق من بنية مسرحية نصية/ أدبية محضة، وتتطور من حيث هي عروض وأشكال فرجوية، لفظية وغير لفظية، تختلط بالأدوات  الوسائطية، والكوريغرافيا، والرقص، والارتجال..، إذ لا يخفى على المتتبع لتاريخ وتطور الفنون الفرجوية أنه قد بدأت الفرجات المحايثة (بما فيها فن الأداء والفرجة الخاصة بالمواقع)، منذ ستينيات القرن الماضي، في إبعاد الأدوات المسرحية الفردية عن سياقاتها التقليدية العامة (إريكا فيشر ليشته 2008، 140)؛ ذلك أن انتشار ما تسميه فيشر ليشته بـ”الظواهر الناشئة” قد ساهم بشكل واسع في تقويض إمكانية الاستمرار في إنتاج المعنى بشكل متواصل من خلال التمثيل المسرحي التقليدي فقط. وبالتالي، فإن “ما بعد الدراماتورجيا” هي أيضا محاولة لإيجاد طرق بديلة لاستفزاز منظومة “الحضور”، وإعادة النظر في أدوار المؤدين والمتفرجين والنقاد على حد سواء. ناهيك عن تفكيك المفاهيم الكلاسيكية الجديدة الخاصة بدراماتورجيا/ الشخصية/ الوحدة العضوية، وذلك من خلال محاولة تعطيل ونقض جميع أشكال التراتبية الكامنة في تخوم آليات صناعة الفرجة، وإيجاد بدائل دراماتورجية قادرة على التعبير بشكل أفضل عن انشغالات إنسان القرن الحادي والعشرين.
في ختام هذا التقديم، نعود لتساؤلات بافيس: “هل بإمكاننا استعادة تلك اللحظة الإنسانية حيث بدأ المسرح يدرك قدراته فابتدع الدراماتورجيا؟ ما هو السبيل لمساعدة النصوص على الخروج من ذواتها كي تخلق تناسجا بين عالم التمثيل، وعالمنا نحن؟” ونتساءل هنا تحديدا بدورنا: هل عالمنا نحن يوجد بمعزل عن التمثيل؟ ألا نعيش في دروة زمن “أزمة التمثيل”، حيث لم يعد بالإمكان طرح أسئلة الدراماتورجيا بمعزل عن الإشكاليات المرتبطة بمأزق ‘التمثيل’؟ مع الموجة الجديدة للدراماتورجيا البديلة أصبح المتفرج منغلقا في مونولوغه الداخلي، منكفئا على ذاته وهو يعيد بناء دراماتورجيا العرض حسب موقعه ومنظوره ومتطلباته…
نعيش الآن أيضا منعطفا آخر في تطور الدراماتورجيا، وهو ما يمكن نعته ب “سردنة الدراماتورجيا” narrativisation of dramaturgy…  بالعودة إلى السرد والمونولوغ بخاصة في التجارب المعاصرة، بما فيها المغربية، حيث أصبحت الدراماتورجيا أيضا وسيطا لإثارة القضايا السياسية والاجتماعية، وذلك من خلال إدراجها للمتفرج في تجربة فيزيقية ونفسية مكثفة… نمثل لذلك بمسرحية “دموع بالكحول” لفرقة أنفاس (2013)، و”حادة” لفرقة دابا تياتر (2014)، و”شجر مر” لفرقة أفروديت (2015)… حيث نعيش سردا بوليفونيا متعدد الأصوات… ولعل هذا الارتباط القوي بالذات هو ما دفع بكتاب تلك النصوص (عصام اليوسفي، جواد سنني، وعبد المجيد الهواس) لاعتماد دراماتورجيا سردية تبرز “المونولوغ التذكري” من حيث هو نقطة تقاطع بين “المونولوغ السير ذاتي، والقص التذكري”.
ومن المهم جدا الإشارة في هذا المقام إلى كون العودة إلى “المونولوغ” و”الجوقة” في الدراماتورجيا المعاصرة تكتسي دلالات عميقة، إذ يعود استعمال المونولوغ إلى المسرح الكلاسيكي، وهو وسيلة الكاتب الدرامي للكشف عن اضطرابات وأحاسيس وحالات نفسية ونوايا الشخصية، وهي تفكر بصوت مرتفع، صوت مسموع لدى الجمهور… والحال، أن النقد المسرحي لم يطور آلياته النظرية والنقدية في اتجاه التعاطي مع هذه الظاهرة كما هو الشأن بالنسبة للنقد الروائي خاصة مع جنيت (Genette, 1872 ; Cohn, 1981)… يقول باتريس بافيس في ذات السياق: “نحن إذن في مرحلة ما بعد السرد الدراماتوجي. وبالموازاة مع ذلك، نسجل من داخل الكتابة الدرامية المعاصرة منذ 1990 عودة إلى السرد، والحكي، ومتعة سرد القصص. ومع ذلك، فإن الدراماتورجيا، سواء كانت كلاسيكية، أو ما بعد كلاسيكية، لا تمتح تقريبا أبدا من النظريات ما بعد الكلاسيكية لعلم السرد، تاركة مع الأسف هذا العلم السائر في طريق التجديد في الظل.” (بافيس، الدراماتورجيا وما بعد الدراماتورجيا).
في الاتجاه نفسه، يقر هانس ليمان بأن مبدأ السرد قد أصبح من أهم مرتكزات مسرح ما بعد الدراما، “ذلك أن المسرح أصبح بؤرة للفعل السردي.” (3) فتركيز مسرحية “دموع بالكحول”، على سبيل التمثيل لا الحصر، على التعبير عن دواخل الشخصية والتسريد يجعلها تبدو وكأنها لا تزال هنالك ثقة في بنية اللغة التي تسعى أحيانا لنقل واحتواء الحقائق الكونية بمعزل عن مساءلة الممارسات المادية التي أدت إلى بروز تلك اللغة… “وإذا كانت الأحداث في الأخبار التاريخية تسرد حسب تسلسل وقوعها.. أحداث المونولوغ التذكري تسرد بشكل شظري، إذ ما يهم أثناء عملية التلفظ هو وصف الأثر الذي تركته تلك الحكاية في ذاكرة الشخصية.” (4)، فإن مونولوغات “دموع بالكحول” هي عبارة عن تسريد استيعادي بالغ الأثر على ذاكرة الشخصيات الأربع، وموضوعه الأساس هو معاناة تلك الشخصيات.
إن أهم ما يميز مونولوغات “دموع بالكحول” بالإضافة إلى اعتمادها كعلامات ترقيم تضبط الإيقاع الداخلي لدراماتورجيا العرض، إلغاء طريقة التقديم الواقعية ورفض اللجوء إلى “وضعيات تبرر مصدر المادة المروية من قبيل العثور على مخطوط.” (القاضي، 436) تتدافع الشخصيات الأربع في بداية العرض (تحديدا في برولوغ ‘شكون حنا’) في تدفق مفاجئ ومثير لدواخل الذات… من خلال همسات وهلوسات متزامنة بالكاد يسمعها الجمهور، يتضح جليا أن البوح هو السبيل للخروج من عنق الزجاجة… لقد أدت كثافة اللحظة إلى حالة من الامتلاءplethora على مستوى دراماتورجيا العرض المسرحي. كما أن الكلام المتناثر والمبهم أدى إلى التباس هذه الحوارات المنتشرة في الزمان والمكان، دون الحاجة لمن ينصت إليها… والحال، أن هذا التكثيف الملتبس يعتبر من أهم أساليب الدراماتورجيا ما بعد الدرامية…
يزداد هذا التدافع بين الشخصيات وهي تتجه نحو الميكروفون من أجل تحقيق وهم ذلك التدفق المفاجئ لدواخل الذات ومعاناتها وانكساراتها… وهنا تحديدا يصبح الميكروفون الآلية التي تمكن من تحقيق عملية البوح، من جهة، ووسيلة الانفتاح على الآخر، من جهة ثانية. وهو في نهاية الأمر أداة وسائطية تذكر مستعمليها بأنهم بصدد مخاطبة أناس آخرين عبر أثير ما…. ومع ذلك، يجب الإقرار بأن التوظيف الواسع الانتشار للمكروفون في المسرح ما بعد الدرامي له تأثيره هنا، ونحن بصدد الحديث عن “دموع بالكحول”.  فالميكروفون هو جهاز يحول الموجات الصوتية إلى طاقة كهربائية. وبالتالي، فهو يخلق قناعا صوتيا إلكترونيا يحجب الصوت الحقيقي للمؤدي. وهنا تحديدا نكون إزاء قطيعة مع التمثيل الطبيعي والاندماج. كما أن نص المونولوغ، غالبا ما يقدمه الممثلون/ المؤدون وهم في وضعية جسدية ثابتة لا تعكس تعبيرا معينا، وهي وضعية أشبه بالقناع المحايد لدى جاك لوكوك؛ وهذا القناع يزيح الاندماج الكلي في الشخصية.
أصبحت استراتيجيات الانعكاس الذاتي والوسائطية الآن، مع المنعطف الفرجوي الجديد، والدراماتورجيات اللاأدبية…. كلها مقاومة للبناءات التقليدية لـ”عالمنا نحن”… لم يعد الممثل/ المؤدي، في الجيل الجديد ل”مسرح ما بعد الدراما”، مثلا، يتقمص دورا ما، بل أصبح شخصية تناصية بامتياز، يجمع بين هويته، وجسده، ومقاطع من الدور تبنى وتقوض في الآن نفسه… كما أصبح جسد الممثل مركزا للاهتمام، ولكن ليس كحامل للمعنى، بل كجسد وحركة… ومن ثم، أضحت أهم علامة مسرحية، وهي جسد الممثل، ترفض أن تخدم الدلالة. في ذات السياق، يجب التأكيد بأن دراماتورجيا “مسرح ما بعد الدراما” لم تعد تحيل إلى ممارسات هامشية، ثورية، وراديكالية. لقد أصبحت أسلوبا منتشرا في الممارسات المسرحية المعاصرة. ومع ذلك، وجب التمييز بين النموذج ما بعد الدرامي والأسلوب ما بعد الدرامي. وقد نتوسل بأسلوب ما بعد درامي في اشتغالنا دون أن نكون ضمن التصنيف “ما بعد الدرامي”.
 
** الهواميش: 
(1): تشير كلمة “دراماتورجيا” إلى جماع الأنشطة الضرورية أثناء سيرورة صناعة الفرجة المسرحية. وترجع جذور الكلمة إلى سنة 1768 في مخطوط ل G.E. Lessing تحت عنوان Die Hamburgshe Dramaturgie؛ وردت الكلمة أيضا في رسائل كل من شيلر وجوته. ويذكرنا حسن المنيعي بالتحليل الإيتيمولوجي الذي قام به باتريس بافيس، إذ يقول:
“نجد أن المعنى العام لكلمة “دراماتورجيا” يؤشر إلى تقنية أو شعرية الفن الدرامي التي تهدف إلى وضع مبادئ تأسيس النتاج إما بطريقة استقرائية، أي عبر أمثلة ملموسة، أو بطريقة استنباطية: أي عبر منظومة من المبادئ المجردة. ومن ثم، فإن هذا المفهوم يفترض مجموعة من القواعد ذات خصوصيات مسرحية يجب مراعاتها لكتابة عمل درامي أو لتحليله بدقة كاملة.” حسن المنيعي، النقد المسرحي العربي، منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، طنجة 2011، ص. 10. والدراماتورج عند الإغريق هو كاتب الدراما، رغم كونه مخرجها أيضا. والدراماتورجيا هي أيضا  بنية المسرحية ومعمارها الداخلي. هكذا ظل المفهوم إلى حدود القرن 18 مرتبطا بالبناء الدرامي والفعل داخل المسرحية، كما ورد في دراسة محمد سيف. وابتداء من القرن العشرين، أصبح الدراماتورج، خاصة في التقليد الألماني، هو رفيق المخرج، والمسؤول عن الإنجاز الفعلي لرؤية المخرج، والمكلف بإعداد مقترحات حول كيفية تحقيق تلك الرؤية صحبة فريق العمل. هكذا، أصبح “الدراماتورج” أهم مهنة مسرحية في ألمانيا بعد المخرج.
(2): باتريس بافيس، “الدراماتورجيا وما بعد الدراماتورجيا”، ترجمة وتعليق سعيد كريمي وخالد أمين. (أنظر الدراسة الأولى من هذا الكتاب).
(3):  Lehmann, Postdramatic Theatre, 109 Hans T
(4): Cohn ، نقلا عن القاضي وآخرون، معجم السرديات، (المغرب: دار الملتقى، 2010) ص. 435.
 
 
خالد أمين وسعيد كريمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت