"هند رستم" مارلين مونرو الشرق / د. حسن عطية
الفرار من المرأة العنكبوت … ودمية الإغراء
عن: مجلة الكواكب
عندما نحت المثال “بجماليون” في الأساطير الإغريقية القديمة، تمثالا فاتنا جسد فيه كل ملامح المرأة الجميلة الساحرة، ثم راح يتعبده متضرعا للآلهة كى تمنحه الحياة ليهنأ به، وقبلت الآلهة طلبه وحولت تمثاله الفريد لامرأة تحيا مثلنا وتمشى فى الأسواق، فزع الفنان فقد صارت معبودته مثل الأخريات تأكل وتشرب وتبدو علامات الزمن قاسية على وجهها ومعالم جسدها .
تطرح هذه الأسطورة بصورة رمزية العلاقة بين الفن والواقع، فالفن أسمى وأرقي من الواقع، والصورة المجسدة فى الفن أكثر جمالا وفتنة من تلك الصور المتكررة فى الحياة اليومية، وهو ما سعت الكثيرات لخلق صور مدهشة ومثيرة للخيال على الشاشة، حاولن بكل جهد على تثبيتها لأطول فترة زمنية فى مخيلة الجمهور، نجحت البعض منهن فى الاختباء بسرعة من أضواء الشاشة، أو بالتكيف مع الزمن البادى على وجوههن، وفشلت أخريات وأصبن بالصرع، وابتعدن بالانتحار المادى أو المعنوى عن عيون الجمهور .
وجميلة الجميلات “هند رستم” (12/11/ 1929 – 8 /8/ 2011) ، التى لم تغب لحظة عن وجداننا رغم مرور أربعة سنوات على رحيلها عن دنيانا، و86 سنة على مولدها بحى محرم بك بالإسكندرية، عرفت كيف تصنع من حضورها على الشاشة وجودا متألقا يعبر عن شخصيتها وزمنها وذوق جمهورها، ويمتد لأزمنة لاحقة، حتى أن الأجيال الجديدة مازالت تستمتع وتفرح بوجودها فى الأفلام التى تعاود مشاهدتها بشغف، فتسعد بشقاوتها وهى تجسد شخصية “عزيزة” فى (ابن حميدو)، وتبهر بليونتها وهى تتمثل شخصية الراقصة “نانا” اللعوب فى (أنت حبيبى)، وتبكى على احتراق وجهها وهى تنقل لنا مشاعر الراقصة العاشقة فى تبتل “كريمة” فى (رد قلبى)، وألاعيب زوجة الأب المستهترة “كوثر” فى (لا أنام) .
المثير للدهشة أن هذه الأفلام الخمسة التى مازالت عالقة بأذهان الجمهور، ولا يمل من مشاهدتها، قدمتها “هند رستم” مع فيلمين آخرين هما (الحب العظيم) و(صراع مع الحياة) فى عام واحد هو 1957 ، بعد أن صارت نجمة، يأتى أسمها فى التترات فى المرتبة الثالثة غالبا، ولم يكن طريق النجومية سهلا كما يتصور البعض، بل أكدت “هند” ما يعرفه التاريخ السينمائى، وما أشار إليه المخرج “شريف عرفة” فى لقاءه بطلبة المعهد العالى للفنون المسرحية، والمنشور بالكواكب العدد الماضى، مطالبا طلاب التمثيل الموهوبين بضرورة الإصرار والإلحاح على هدفهم فى التمثيل وطرق كل الأبواب دون سأم أو ملل لإثبات موهبتهم، وهو بالفعل الطريق الذى انتهجته “هند” والدرس الأول المستفاد من مشوارها الفنى، حيث ظهرت فى عشرين فيلم خلال السنوات العشر الأولى من حياتها الفنية، التى بدأتها عام 1947 بفيلم (أزهار وأشواك)، لم يتعدى حضورها على الشاشة بضعة دقائق، ككومبارس صامت فى البداية، واشهر ظهور لها كان امتطاها الخيل مع الكومبارس الذى سيصير نجما عالميا فيما بعد “داليدا” خلف نجمة ذاك الزمان “ليلى مراد” فى أغنية (أتمخطرى ياخيل) فى فيلم (غزل البنات) 1949، ثم تطور حضورها لتظهر فى مشاهد قليلة، أشهرها تجسيدها لشخصية زميلة البطلة فى المدرسة فى فيلم “حسن الإمام” السادس عشر فى مسيرته الفنية (حب فى الظلام) 1953، ولم تغضب لغياب أسمها من على (بوستر) الفيلم، الذى حمل أسماء “فاتن حمامة” و”عماد حمدى” و”فريد شوقى” وآخرين .
** بنات الليل :
وكان هذا الفيلم الأخير هو النقلة النوعية فى مشوار حياتها، حيث اكتشف فيها “حسن الإمام” مواهبها التمثيلية والاستعراضية، مما ربط حضورها فيما بعد بأدوار الراقصات، رغم أنها لم تكن أبدا راقصة محترفة، وكان فيلم (بنات الليل) 1955 باكورة ظهورها كنجمة، فجاء أسمها الثالث فى بوستر الفيلم، باعتبارها (الوجه الجديد) بعد “مديحة يسرى” و”كمال الشناوى”، وقدمها “حسن الإمام” كمنتج وكمخرج وكاتب لقصته فى هذا الفيلم الذى سبق عنوانه جملة “قصة كتبت بدموع بنات الليل”، ووضع اسمها على تترات الفيلم، ممهدا لها بعد مجموعة المشاركين كممثلين فيه بالعبارة التالية (ونقدم لكم فى دور “نعيمة” وبأذن خاص من أفلام حسن الإمام هند رستم)، صائغا منها حضورا مثيرا لامرأة جميلة يجبرها المجتمع الظالم على أن تصبح فتاة ليل ثم راقصة فى كباريه، داخل حبكة ميلودرامية، وضعتها فى العديد من المشاهد المتباينة بين الفتاة العاشقة، والمرأة المخدوعة، والأم المجبرة على بيع ابنتها الرضيعة لكى توفر المال لعلاج حبيبها، وأخيرا المحتضرة بعد سقوطها من أعلى فضاء المسرح عقب انتهائها من آخر رقصاتها فى الكباريه .
فى نفس العام 1955 يقدم “حسن الإمام” نجمته الجميلة “هند” فى دور “نعمت” فى فيلم يحمل عنوانه دلالة حسية، ويشير لموضوعه وهو (الجسد)، جسد المرأة الفاتنة التى تجهزها أمها منذ الطفولة لتصبح راقصة تزهو بالمال والشهرة، ويدفعا المجتمع للعمل كراقصة، ليرسخ بها ” الإمام” مفهومه عن رؤية العالم والمجتمع من منظور الراقصة المغلوبة على أمرها، وليربط برباط قوى بين “هند” ومهنة الراقصة كمهنة احترافية من جهة، وكجسد فاتن لامرأة عنكبوتية تسحر الرجال، وممثلة لنمط المرأة الشيطان، فى مواجهة المرأة الملاك من جهة أخرى.
هكذا ستظهر “هند” فى أفلام عام 1957 السبع، غير أنها سرعان ما تدرك أن سوق الإنتاج قرر كعادته استسهال الأمر وتنميطها فى صورة المرأة الشيطان اللعوب، مانحا إياها ألقابا من قبيل (ملكة الإغراء المصرية) و(مارلين مونرو الشرق الأوسط)، اتساقا مع سير السينما المصرية زمنذاك خلف السينما الأوربية والأمريكية، تقدم موضوعاتها بعد تمصيرها، وتصنع ديكور بيوت أبطالها على النمط الغربي، بما فيه البار الأمريكى ، وتجعل من الكباريه أو المقهى الشعبى الأٌقرب لنمط البار فضاء مكانى تجرى فيه وحوله وقائع الفيلم، لذا قررت “هند” أن تكون فى النصف الثانى من الخمسينيات، بعد أن حققت نجوميتها، أن تكون امرأة جميلة وليست دمية مغرية، وأن تؤكد نفسها كممثلة وليست عارضة أزياء، فتألقت مع “يوسف شاهين” فى دور “هنومة” فى (باب الحديد)، والمعلمة “توحة” مع “حسن الصيفي” فى الفيلم الذى يحمل نفس الاسم (توحة)، والراقصة اللصة “نرجس” مع “عاطف سالم” فى (دماء على النيل)، والصعيدية “غالية” الساعية للثأر لمقتل زوجها، مع “نيازى مصطفي” فى (دماء على النيل) .
** الخطايا :
كان هذا هو الدرس الثانى المستفاد من مشوار “هند” مع المجتمع وأفلامه، ألا تجبر على الخضوع للنمط السائد، ولا لمنطق السوق وتجاره، بل لتكون ذاتها وتؤكد على موهبتها وتحقق وجودها على الشاشة كمثال جمالى راقى مقدس، وليس جسد مغرى ومدنس، ولهذا شاركت فى الستينيات فى فيلمين من أفلام “حسن الإمام” هما بطولة فيلم (شفيقة القبطية) 1963 والذى قدمت فيه شخصية الراقصة المعروفة أوائل القرن الماضى، بعد أن تجبر بظلم المجتمع على مغادرة الحياة الاجتماعية متحولة إلى راهبة تسلم روحها لباريها فى نهاية الفيلم، وهو الأمر المثير فى أفلامها مع مكتشفها الأثير “حسن الإمام”، الذى أصر على موتها فى نهاية أفلامه المعروفة معها، ثم فيلم (الراهبة) 1956 ، الذى يستثمر فيه مخرجه النجاح الجماهيرى لميلودراما التحول من الرقص إلى الرهبنة، فيقدم نجمته فى دور الراقصة “هدى” التى تقرر أن تغير نمط حياتها، بعد أن فشلت فى أن تحقق وجودها بتغيير أسمها، فادخلها الدير منهيا علاقتها بالعالم خارجه .
عاشت “هند” فى شد وجذب بين جسدها الأنثوى الفاتن وروحها الطيبة الشغوفة بالحياة، وقررت فى النهاية أن تنهى حياتها الفنية عام 1979 بفيلم للمخرج “على رضا” يحمل عنوانه دلالة هامة وهو (حياتي عذاب)، ويحمل فى جوهره إعادة إخراج لفيلم “حسن الإمام” الشهير (الخطايا) 1962 ، بعد أعد السيناريو والحوار صاحب قصة الفيلمين “محمد عثمان” بدلا من “محمد مصطفى سامى” كاتب سيناريو وحوار فيلم “الإمام”، ومن ثم حلت “هند رستم” محل الأم “مديحة يسرى”، وحل المطرب الصاعد “عماد عبد الحليم” محل نجم نجوم الغناء الابن “عبد الحليم حافظ”، وحاول الفيلم أن يجعل منها البطلة بدلا من ابنها، فهوى الفيلم بأكمله، فقررت اعتزال التمثيل دون ضجة، لتقدم لنا آخر درسين مستفيدين من مسيرتها العطرة وهما : أن تكون نفسك وتدرك حقيقة الزمن الذى يترك بصماته واضحة على كيانك، مهما حاولت إخفائها بطلات مظهرية جديدة، وألا تخدع نفسك فعندما تقرر الاعتزال لا تتماحك بالتوبة والمغفرة، فالفن أسمى صور الوجود على الأرض، وأعلى قيمة، وأرفع مكانة، ومن يتعلق به هو الكاسب، ومن يتركه فقد أنتهى دوره، وعليه تسليم الراية لأجيال جديدة .