الظواهر المسرحية في العالم العربي (الحلقة الأولى) / أ.د. سيد علي إسماعيل
(ملاحظة): هذه الدراسة – التي ستنشرها مجلة الفرجة في عدة حلقات – كتبها أ.د. سيد علي إسماعيل منذ عدة سنوات، وفقدها من جهاز الكومبيوتر قبل نشرها أو حفظها خارج الجهاز، واستعوض فيها ربنا. ومنذ أيام قليلة وجدها صدفة ضمن ملفات إلكترونية محفوظة في (CD) موجود ضمن أشيائه المهملة. وعندما قرأها وجدها جديرة بالنشر، وربما ستكون قريباً جزءاً من كتاب!!
تمهيد:
دخل المسرح في عالمنا العربي عن طريق رائده الأول (مارون النقاش) اللبناني، عندما عرض في منزله بحي الجميزة ببيروت مسرحية (البخيل) عام 1847م. وهذه المحاولة العربية أفرزت محاولات مسرحية أخرى في لبنان ومصر وسورية، وبدأت تظهر الفرق المسرحية الشامية، التي تألقت في مصر، ومنها: فرقة سليم النقاش، وفرقة يوسف الخياط، وفرقة سليمان الحداد، وفرقة سليمان القرداحي، وفرقة أبي خليل القباني، وفرقة إسكندر فرح. وظلت هذه الفرق تعرض المسرحيات العالمية الشهيرة بعد ترجمتها أو تعريبها طوال القرن التاسع عشر، وهي في قناعة تامة بأن ما تُقدمه هو مسرح عالمي غربي ولا علاقة له بالفن العربي الأصيل، بل وكانت تفتخر بأن عروضها هي العروض العالمية أو الغربية، بل أن هذه الفرق كانت تحارب أية محاولة للتأليف المسرحي العربي؛ بسبب قناعتها أن هذا الفن وافد عليها!!
ظلت هذه القناعة مستمرة حتى الربع الأول من القرن العشرين، ووصل الأمر إلى أن أصحاب الفرق المسرحية كانوا يدفعون بسخاء للمترجمين والمُعربين، ويقطرون المال على المؤلفين، لإيمانهم أن العقلية العربية لا تستطيع التأليف المسرحي مقارنة بالعقلية الغربية. ولهذا السبب كان الكُتّاب يترجمون ويعربون ولا يؤلفون! وأطرف دليل على ذلك ما قام به المؤلف المسرحي محمد لطفي جمعة، الذي قال عنه الأديب يحيى حقي: ” ولا أنسى ضحكته لي ذات يوم وهو يقول لي: تصور! نشرت في (جريدة البلاغ) على التوالي أكثر من خمسين عملاً ذكرت تحت عنوانها أنها مترجمة عن الأدب الروسي، ولم أذكر للمؤلف اسماً، وهي كلها من عملي ومن تأليفي. تصور أنني لم أجد أديباً واحداً يمسك بتلابيبي ويقول لي: ليس في الأدب الروسي كله شيء مما جئتنا به”! ويوضح د.عبد الفتاح الديدي، هذا الأمر، بصورة أخرى، قائلاً: “عندما ظهرت مجلة الرواية، طلب أحمد حسن الزيات من محمد لطفي جمعة ترجمة عدد من القصص الأجنبية لشغف القُراء بالتراجم من الروايات والقصص خاصة وأن اسم لطفي جمعة لم يشتهر بين القصاصين. فألف لطفي جمعة عدداً من القصص تحت أسماء كُتاب روس وأوربيين وبدأ نشرها بمجلة الرواية تباعاً حتى بلغت الخمسين قصة وكلها من اختراعه بأسمائها وأجوائها الأجنبية ولا مقابل لها في أعمال هؤلاء المؤلفين” (1).
مظاهر التسلية والترفيه:
إذا نظرنا إلى التاريخ – قبل انتشار المسرح في العالم العربي، لا سيما في مصر – سنجد قصور الحُكام تعج بالمهرجين وأصحاب الألعاب البهلوانية، الذين يقدمون فقراتهم الترفيهية للضيوف في الولائم والاحتفالات المختلفة! فقد حصلت مؤخراً على وثيقتين مصريتين مؤرختين في عام 1858 – زمن سعيد باشا – تشتمل الأولى على أمر من المعية السنية – أي من ديوان الحاكم – إلى كنيك بك، تخبره بعدم الحاجة ” للشخص الذي سيقوم بجملة ألعاب بهلوانية “؛ لأن موعد الحفلة قد اقترب، وأنها ليست على درجة كبيرة من الحفاوة. والوثيقة الأخرى مشابهة للأولى، وتشتمل على أمر من المعية السنية إلى كنيك بك أيضاً، تفيده بأن ” الأشخاص الذين سيقومون بألعاب بهلوانية، الذين طلب كنيك بك أن يقوموا بعرض ألعابهم في الوليمة التي ستقام بالقلعة السعيدية ليس هناك داع لإحضارهم، حيث إن موعد الحفلة قد أقترب فضلاً عن أنها ليست من الفخامة بمكان” (2).
وهاتان الوثيقتان تثبتان أن سعيد باشا، كان يستعين بأصحاب الألعاب البهلوانية والترفيهية والتمثيلية لتسلية ضيوفه في قصره. ومن الواضح أن المسرحيين – فيما بعد – كانوا يفرقون بين ما يقدمونه من مسرح غربي مُترجم أو مُعرب، وبين الأشكال الفنية العربية أو الشعبية التراثية، التي كانت تُقدم للترفيه والإضحاك والتسلية، مثل: شاعر الربابة، وأولاد رابية، والمحبظون، ورقص الغوازي، وألعاب البهلوان، وخيال الظل، والقراقوز … إلخ! وهذه الأشكال الفنية كانت تُقدم في برامج خاصة في القرن التاسع عشر، دون اعتبارها مسرحاً عربياً. والدليل على ذلك الإعلان الذي نشرته الصحف المصرية عام 1869، تحت عنوان (بيان الملاعب وأوقاتها)، وفيه جاء الحديث عما سيتم تقديمه في محلات الأزبكية للترفيه والتسلية، فتحدث الإعلان عن: بهلوان عربي على الحبل، والحاوي الأفرنكي، والحاوي العربي، ورقص الغوازي، ولعب الخيول، والقره كوز، وخيال الظل، وابن رابية، وتخت الليسي، وتخت عبده الحامولي، وتخت القفطانجي، والأوستة ألماس [المطربة ألمظ]، والأوستة سكينة الوردانية (3).
وهذه الأشكال الترفيهية، حدثنا عنها أحمد شفيق باشا في مذكراته المنشورة، حيث ذكر ضمن أحداث سنة 1891، اهتمام الخديوي محمد توفيق باشا بحلوان، قائلاً: “افتتح تياترو حلوان الجديد الذي بنته شركة حديد حلوان (سوارس)، وقد شهد الخديوي وحرمه المصون حفلة الافتتاح تشجيعاً وحثاً للشعب على الاهتمام بهذه الناحية من الفن. فكان لذلك أثر عظيم في مبادرة رهط كبير من الأعيان والكبراء للاشتراك في الحفلة. فشاهدت الألعاب، وكان من أحسن ما قُدم من ضروب اللهو أن أقيم عمود ربط في أعلاه منديل به نقود وطُلي العمود بالدهن، وجعل المنديل وما فيه مكافأة لمن يصعد إليه. وبعد محاولات عديدة تمكن واحد من أخذ المنديل وذلك بواسطة عُقد مخصوصة على حبال صعد عليها …. وفي مساء اليوم التالي ذهب سموه إلى تياترو حلوان ومعه الشيخ علي الليثي وشوقي باشا [المقصود أمير الشعراء أحمد شوقي] ويوسف شهدي باشا، وعُرضت ألعاب شائقة منها أن طفلة سنها ثماني سنوات تقريباً قامت بكثير من الألعاب على السلك حتى رأيت سمو الخديوي يصفق لها استحساناً. ثم أحضر رئيس الجوق حقيبة وفتحها فخرجت منها طفلة تبلغ من العمر نحو خمس سنوات وأخذت تلعب مباشرة ألعاباً بهلوانية أدهشت الحاضرين. ثم عرضت أيضاً ألعاب خيال الظل” (4).
ومما سبق نلاحظ أن عروض خيال الظل، والقراقوز، وأولاد رابية، كانت عروضاً ترفيهية وليست عروضاً مسرحية، حيث كانت تُقدم للتسلية فقط، ولا علاقة لها بالعروض المسرحية الغربية، التي كانت تُقدم على المسارح العربية مُترجمة أو مُعربة.
بواكير التفكير في إيجاد مسرح مصري:
ظل المسرح الغربي مهيمناً على البلدان العربية في صورته المترجمة والمعربة، لا سيما مصر – بوصفها البلد العربي الذي انتعش المسرح فيها – حتى صدر دستور 1923، الذي نص في مادته الأولى على أن (مصر دولة ذات سيادة، وهي حرة مستقلة)! فبدأت مصر بداية جديدة بوصفها أول دولة عربية حرة ذات سيادة، فحاول كل في مجاله إثبات السيادة والحرية، فوجدنا الفنان الكبير زكي طليمات – تحت تأثير الدستور الجديد – يكتب مقالة في جريدة المقطم عام 1923 (5)، لأنه يريد أن يرى للمسرح صروحاً مشيدة في مصر، ويرجو تأسيس مسرح مصري! فهو يريد أن يكتب عن المسرح أي ” عن الفن الدخيل في مجتمعنا، الفن الذي يجهل حقيقته وقيمته الأغلبية الساحقة “. يُريد أن يكتب هذا ” لأن مصر اليوم يقظة وثابة للرقي، وفن التمثيل عامل كبير للرقي، ولأن بمصر اليوم جماعات قامت وتقوم بمجهودات كبيرة في توطيد هذا الفن وترقيته في ثوبه العربي إلى المستوى الرفيع الذي يتربع فيه المسرح الغربي “. وبناء على ذلك نجد أن زكي طليمات أول من أثار فكرة تأصيل المسرح العربي، بعيداً عن هيمنة المسرح الغربي!
وبالرغم من ذلك نجده – أي طليمات في مقالته – يقرّ بأن المسرح لم يوجد في البيئة العربية، ولكنه ربما وُجد عند الفراعنة! وفي ذلك يقول: “إذا رجعنا إلى التاريخ المصري منذ أن فتح العرب هذه البلاد لا نجد فيه ما يشير إلى وجود أثر لهذا الفن بيننا؛ ولكن ذلك لا يمنعني عن المجاهرة باعتقادي بأن المدنية المصرية القديمة التي تركت مخلفات رائعة من فنون التصوير والنحت والشعر، والتي أخذت عنها الكثير المدنية الإغريقية – وهي التي ابتدعت فن التمثيل كما ينص التاريخ – لم تكن جاهلة لهذا الفن. ويزيد في إيماني بذلك ما نقرأ في بطون التاريخ من أنه كانت للسيادة المصرية البائدة طقوس يشترك فيها الغناء والموسيقي والرقص شأن السيادة الإغريقية القديمة، التي إلى أهلها ينسب التاريخ ابتداع التمثيل ووضع أصول التراجيديا والكوميديا؛ ولكن المدنية المصرية قد بادت وباد معها ما يمكن أن تكون قد تأثرت به أيام وهن البلاد في الفتح اليوناني والروماني وحكمهما، واليونان والرومان هما – كما لا يختلف فيه أحد – أول المشتغلين بهذا الفن وعنهما أخذت دول أوروبا “.
وفي ختام مقالته ينادي زكي طليمات بدعوته، قائلاً: ” إننا أمام فن دخيل علينا لم يسمع به أجدادنا يحتاج لانتشاره في مجتمعنا وامتزاجه بروحنا إلى زمن غير قصير تتوالى فيه مجهودات صادقة أثر الأخرى من المشتغلين”. هكذا بدت دعوة طليمات لإيجاد مسرح مصري ممتزج بالروح المصرية لا بالروح الغربية، وهو الأمر الذي سيتطور فيما بعد على يد يوسف إدريس والحكيم وغيرهما كما سنرى.
لماذا لم يعرف العرب المسرح؟
بمرور الزمن اقتنع كُتّاب المسرح ونقاده بأن المسرح فن وافد علينا، وحاولوا إيجاد إجابة لهذا السؤال: لماذا لم تعرف البيئة العربية والإسلامية المسرح؟! وأول من حاول الإجابة كان إدوارد حنين في مجلة المشرق، ثم تبعه توفيق الحكيم، الذي قدم إجابات منطقية في مقدمة مسرحيته (الملك أوديب) عام 1949! وظلت الإجابات تتوالى أكثر من خمسة عشر عاماً، حتى قامت مجلة (المجلة) عام 1966 بنشر دراسة كاملة لإيجاد الإجابة على هذا السؤال (6)، اشترك فيها عمالقة الأدب والنقد والمسرح، أمثال: د.طه حسين، توفيق الحكيم، أحمد حسن الزيات، أمين الخولي، محمود تيمور، زكي طليمات، د.سهير القلماوي، د.لويس عوض، عبد الرحمن صدقي، د.أحمد الحوفي، علي أحمد باكثير، د.عز الدين إسماعيل!
ومن الآراء المهمة التي قيلت كإجابة على السؤال، ما ذكره طه حسين قائلاً: “السبب بسيط جداً، وهو أن الأدب المسرحي اليوناني كان قد اختفى حين كان العرب يترجمون الثقافة اليونانية، إذ كان محظوراً لأن المسيحية في ذلك الوقت كانت تراه مغرقاً في الوثنية. ولو كان معروفاً حين ترجم العرب ثقافة اليونان لما ترددوا في ترجمته”. أما توفيق الحكيم، فقال: “السبب هو الوضع الاجتماعي لعرب الجاهلية .. كانوا يعيشون حياة قبلية متنقلة لا تعرف المدن الكبيرة، والمسرح يحتاج إلى استقرار مدني”.
كما قال محمود تيمور: “السبب في عدم نقل العرب للمسرح اليوناني عن طريق الترجمة، راجع إلى أن المسرح اليوناني كان “ينطوي على خرافات وأساطير، أكثرها له دعائم وطيدة من عقائد وثنية، ومن تعدد آلهة، وفيه حرية شاطحة في تصوير العلاقة بين الإنسان وربه، وفيه كذلك عرض لصفات الخالق وتصرفاته عرضاً يجعله شبيهاً بالمخلوق في الغرائز والطباع وألوان السلوك، وذلك ما يشعر نحوه العربي بالحرج والانكماش، فما كان لعربي تأصلت فيه فطرة الدين، وسما بالألوهية من مضاهاة البشر، أن يرضى عقله، وتستمتع روحه، بأدب فيه آلهة، من ذكور وإناث، للصيد وللخمر وللحب .. آلهة يخالطون الناس، ويمارسون، ويقوم بينهم ما يقوم بين بعض الناس وبعض من تشاحن وصراع”.
كذلك قال زكي طليمات: “اتصل العرب بالإغريق ونقلوا الكثير من مؤلفاتهم إلى العربية، إلا أن موضع النظر لا نجد بين ما نقلوه نصاً لمسرحية واحدة! وإذا صح أن الناقل لا ينقل من آثار أدب أجنبي إلا ما يحس الحاجة إليه، أو ما يصادف هوى من نفسه، ففي هذا ما ينهض برهاناً على أن العرب لم يشغلوا بالمسرح في الإسلام ……. اتصل العرب بأوروبا عن طريق الأندلس ثم عن طريق صقلية وجنوب إيطاليا، ولكنهم لم ينقلوا شيئاً عن المسرح وأدبه. ولعل مرجع هذا، أن المسرح بأوروبا في ذلك الوقت كان مسرحاً دينياً، يعالج شعائر العقيدة المسيحية ويعرض حياة المسيح وحوارييه ويشيد بكراماتهم”.
أما عبد الرحمن صدقي، فقال: “من المرجح أن المسلمين من السلف الصالح الذين كانوا لقرب العهد بجاهلية العرب وأصنامهم يتشددون في عدم الترخيص بمحاكاة الحياة في التصوير، كانوا قياساً على ذلك يستكرهون مثل هذه المحاكاة في التمثيل. وأيا كان الحال، فالواقع أن المسرح طارئ على الحياة العربية، ولم تعرفه بعض الأقطار العربية المتطورة إلا منذ قرن وبعض قرن، ولم تكن معرفتها للمسرح إلا عن طريق الاقتباس عن الحياة الأوروبية. فالفن المسرحي مجلوب من الخارج، وحكمه في ذلك حكم ما نستورده من أنواع النباتات الغريبة عنا، فإنها لا تلبث أن تتأصل عروقها في تربتنا، وتزكو متأثرة بطبيعتنا، مما يشهد لنا بخصوبة التربة وأصالة الطبيعة”.
كما أدلى د.أحمد الحوفي برأيه قائلاً: “بعض المسرحيات تقتضي أن تشترك المرأة مع الرجل على المسرح، وتقوم بنصيب في الحركة والعمل، ويقتضيها هذا أن تسفر، وأن تبدي بعض محاسنها للرجال، والعرب كانوا يتحرجون من ذلك، وكانوا في الوقت نفسه يستنكفون أن يقوم رجال بأدوار النساء”.
دعوات تأصيل المسرح المصري:
بسبب ثورة 23 يوليو 1952، وما صاحبها من شعور بالقومية العربية، ظهرت دعوة يوسف إدريس لإيجاد مسرح مصري أصيل، بعيداً عن هيمنة المسرح الغربي، وذلك في ثلاث مقالات نشرها في مجلة (الكاتب) المصرية عام 1964، تحت عنوان (نحو مسرح مصري) (7)، حيث خرج يوسف إدريس عن المألوف واعتبر المسرح العالمي المعروف بمسرح العلبة هو شكل واحد فقط! رغم أن للمسرح أشكالاً كثيرة متعددة موجودة في حياة كل الشعوب، وهذه الأشكال تظهر في التجمعات الإنسانية لا سيما في الأفراح والمآتم والمناسبات والاحتفالات الاجتماعية والدينية المتنوعة، ومن خلال هذه الأشكال خرج السامر بوصفه مسرحاً شعبياً في الريف المصري، وهو المسرح الذي أراده يوسف إدريس ودعا إليه وإلى وجوده، شريطة أن “ننسى كل مفهوماتنا الأوروبية التي تعلمناها عن أرسطو وشكسبير وموليير ونقاد المسرح الكبار، وبعين كاشفة وبأفق مفتوح نبحث عن الأشكال المسرحية في حياتنا إذ تلك هي البذور أو اللبنات الأولى أو مادتنا الخام التي منها سنصوغ الجنين ونضع الأساس”.
دعوة يوسف إدريس أحدثت ضجة نقدية مسرحية عربية لا مثيل لها – ومازالت حتى الآن – فعزّ على توفيق الحكيم كقامة مسرحية ألا يدلي بدلوه في هذه الإشكالية فكتب كتابه (قالبنا المسرحي) عام 1967، وأشار فيه إلى أنه قام بتطبيق دعوة يوسف إدريس النظرية، قبل أن يُنظّر لها يوسف إدريس، أي إنه وظف السامر الشعبي في مسرحياته قبل أن يدعو إدريس إلى السامر كمسرح مصري شعبي، حيث قال الحكيم: ” في عام 1930 وكنت يومئذ أعمل في الأرياف كتبت مسرحية (الزمار) مستلهماً السامر الريفي، فجعلت بطلها من زامري السامر يشتغل فيه بالليل ويعمل ممرضاً بالنهار في عيادة …….. ثم ظهرت بعد ذلك عام 1956 (الصفقة) وهي محاولة لإدخال الفنون الشعبية الريفية من رقص وتحطيب وغناء في إطار المسرحية وأن تدور كلها في العراء أو الجرن أو أمام مصطبة”.
وبعد أن أقنع توفيق الحكيم نفسه – أو قراءه – بأنه طبق السامر مسرحياً قبل أن يدعو إليه يوسف إدريس، بدأ دعوته الجديدة بسؤال قال فيه: هل يمكن أن نخرج عن نطاق القالب العالمي، وأن نستحدث لنا قالباً وشكلاً مسرحياً مستخرجاً من داخل أرضنا وباطن تراثنا؟ وتمثلت الإجابة في إمكانية استحداث هذا القالب من خلال الرجوع إلى الحكواتية والمداحين والمقلدين، هذا هو القالب المسرحي، الذي سيصب فيه كل المسرحيات، على اختلاف أنواعها من عالمية ومحلية ومن قديمة وعصرية. وهذا القالب لن يكون له خشبة مسرح ولا ديكور ولا إضاءة ولا مكياج ولا ملابس. وبعد هذا التنظير، قام الحكيم بوضع نماذج تطبيقية لمسرحيات عالمية صبها في قالبه المسرحي الجديد، ومنها: مأساة أجاممنون لأسخيلوس، دون جوان لموليير، بستان الكرز لتشيخوف، ست شخصيات تبحث عن مؤلف لبيراندللو، وكل نموذج يبدأها هكذا (الحاكي: أنا الحكاواتي “يذكر اسمه الحقيقي” أعرض عليكم اليوم لعبة للمؤلف الشاعر إسخيلوس اسمها أجاممنون .. كان يا ما كان يا سعد يا إكرام ملك يدعى أجاممنون على بلد يسمى أرجوس ……….. إلخ).
وفي عام 1968 جاءت الدعوة الثالثة لقالب مسرحي عربي جديد من خلال الدكتور علي الراعي في كتابه (الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري)، حيث اقترح قالب الكوميديا المرتجلة للمسرح المصري، حيث وجد أن الارتجال “يملك شيئاً لا يملكه المسرح المكتوب، ذلك هو عطاؤه الوافر للمتفرج، واحتفاؤه الزائد به، ومنحه الفرصة للفنان المؤدي كي يتحول إلى فنان خالق، ثم بساطته المتناهية، وقبوله التمثيل في أقل الأماكن تجهيزاً وبأقل التكاليف، وهذه كلها ميزات يحتاجها مسرحنا العربي في المرحلة الحاضرة من مراحل تطوره ” (8).
هذه الدعوات الثلاث، أفرزت نشاطاً إبداعياً مسرحياً ونقدياً غير مسبوق على مستوى العالم العربي، لا سيما بعد تحرر البلدان العربية من الاستعمار الغربي، وإعلاء شعار القومية العربية في ستينيات القرن الماضي، وكان من نتاج هذا الأمر، ظهور ما يُعرف بمحاولات تأصيل المسرح العربي باعتبار أشكال الترفيه والتسلية من أصول المسرح العربي، أو من مظاهر المسرح العربي، فكثرت الكتابات المسرحية والنقدية عن فنون: خيال الظل، والقراقوز، وأولاد رابية، والمحبظين، وصندوق الدنيا أو صندوق العجائب. كما ظهرت جهود المبدعين في مسرحة التراث العربي والإسلامي، وذلك بتحويل النصوص التراثية إلى نصوص مسرحية!
وهذا الأمر جعل البعض يبحث في وسائل الترفيه الأولى للعرب منذ العصر الجاهلي، ويعدها من مظاهر التمثيل المسرحية في محاولة لتأصيله، أما البعض الآخر فذهب إلى أبعد من هذا التاريخ وبحث في تاريخ الفراعنة عن هذا المسرح المفقود! وأخيراً وجدنا المسرحيين يهرعون إلى بعض أشكال الترفيه التراثية في بلدانهم، في محاولة لإحيائها أو استلهامها أملاً في إيجاد أشكال مسرحية أو قوالب مسرحية جديدة، لذلك ظهر مسرح الحكواتي في لبنان، والمسرح الاحتفالي، ومسرح الحلقة، واحتفال سلطان الطلبة في المغرب. وهذه الموضوعات في مجملها، اصطلح على تسميتها بالظواهر المسرحية، التي تحتاج منا إلى الحديث عنها بصورة تفصيلية، لارتباطها الوثيق بموضوعنا.
** الهوامش:
(1): يحيى حقي – قائمة الترشيح – جريدة المساء – 29/5/1972 – نقلاً عن كتاب: مؤلفات يحيى حقي – ناس في الظل وشخصيات أخرى – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1984 – ص(154،155)، د.عبد الفتاح الديدي – ينابيع الفكر المصري المعاصر – مكتبة الأنجلو المصرية – 1982 – ص(102).
(2): دار الوثائق القومية – درج رقم 416 – تركيبة رقم 9
(3): ينظر: جريدة الوقائع المصرية – 31/3/1869، مجلة وادي النيل – عدد1 – السنة الثالثة 11 محرم 1286 الموافق 23/4/1869.
(4): أحمد شفيق باشا – مذكراتي في نصف قرن – الصادرة في عام 1934 – الجزء الأول (من سنة 1873 إلى 8/1/1892) – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1994 – ص(515).
(5): زكي طليمات – المسارح والتمثيل – جريدة المقطم –18/4/1923.
(6): مجلة (المجلة) – عدد 111 – مارس 1966 – (ص13-32).
(7): يوسف أدريس – نحو مسرح مصري – مجلة الكاتب – عدد 34 – يناير 1964 – ص(67 – 79)، وعدد 35 – فبراير 1964 – ص(109 – 119)، وعدد 36 – مارس 1964 – ص(86 – 97).
(8): د.علي الراعي – الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري – كتاب الهلال – عدد 212 – نوفمبر 1968 – ص(15).
أ.د. سيد علي إسماعيل/ قسم اللغة العربية – كلية الآداب – جامعة حلوان.