الظواهر المسرحية في العالم العربي (الحلقة الثانية) / أ.د. سيد علي إسماعيل

** المسرح الفرعوني:
يرجع الفضل الأول – لتنبيه الباحثين – إلى وجود مظاهر مسرحية وتمثيلية في التاريخ الفرعوني إلى الباحث الفرنس ( إتيين دريوتون) من خلال كتابه (المسرح المصري القديم) الذي صدر عام 1928، وفيه يُحدثنا عن أن الفراعنة عرفوا فن المسرح قبل الإغريق، وأنهم منبع الدراما. وقد توصل الباحث إلى أنه كان هناك فن مسرحي نشأ مُستقلاً عن المسرحيات الدينية، وذلك من خلال لوحة كُشف عنها في أدفو عام 1922 عليها إهداء إلى الإله حور من ممثل متجول يُدعى أمحب، وتشير اللوحة إلى وجود مسرحيات وتوزيع أدوار وحدث وممثلين ثانويين. كما توصل الباحث إلى وجود كراسات خاصة بالمخرجين وأخرى خاصة بالممثلين، تحتوي على كل ما يتطلبه العرض المسرحي. ويعرض الباحث بعد ذلك نصاً كاملاً نقله من بين النصوص السحرية المنقوشة على لوحة ميترنخ، ويشير إلى أن هذا النص جزء من مسرحية مصرية نقلها من كراسات الممثلين. وأخيراً يورد الباحث مختارات من النصوص الدرامية الفرعونية، وهي: ميلاد حور وتأليهه، وهزيمة أبوفيس الشاملة، ومعركة تحوتي وأبوفيس، وإيزيس وعقاربها السبعة، وحور وقد لدغة عقرب، وعودة سيث (1).
الطريف في أمر كتاب (المسرح المصري القديم)، أنه صدر بالفرنسية عام 1928، ولم يهتم به أحد من العرب وقت صدوره؛ ولكن بعد ظهور دعوة يوسف إدريس – في ستينيات القرن الماضي – للبحث عن مسرح مصري، وإثارة سؤال عدم معرفة العرب للمسرح، ومحاولات التأصيل التي تحدثنا عنها سابقاً، اكتشف د.ثروت عكاشة كتاب دريوتون فقام بترجمته وطباعته عام 1965 متأثراً بدعوة إدريس وما صاحبها من تأصيل للمسرح، بدليل أن ثروت عكاشة في مقدمة ترجمته للكتاب، أقرّ بأنه ترجمه إلى العربية بسبب شعوره بالاعتزاز بوطنه الذي سبق العالم في مجال المسرح!
والجدير بالذكر إن بعض الباحثين اقتنعوا بما توصل إليه دريوتون من وجود الفن المسرحي عند المصريين القدماء، فبنوا أبحاثهم على ذلك (2)، ومنهم الدكتور أحمد الحوفي، الذي قال: “نشأ الأدب المسرحي في مصر الفرعونية نشأة دينية، وقد كشف البحث الحديث عن عراقة مصر في التمثيل، وأنها سبقت اليونان بثلاثة آلاف عام، كما يتضح من تمثيلية منف في عهد الملك مينا، ومسرحية التتويج في عهد سنوسرت الأول، ومسرحية انتصار حور على ست قاتل والده أوزوريس التي يرجع أن كاتبها أمحتب الحكيم في عهد الملك زوسر” (3).
** مظاهر المسرح في الجاهلية وصدر الإسلام:
البحث عن الظواهر المسرحية عند الفراعنة، شجع بعض الباحثين للتنقيب عن هذه الظواهر في العصور اللاحقة. فعلى سبيل المثال تحدث أحد الباحثين عن الطقوس العربية الدينية أيام الجاهلية، وأنها كانت تشتمل على رقص وغناء وإيقاع ودعاء، وكل ذلك يُقدم في إطار حركي له طابع احتفالي جماهيري، لا سيما أشكال الاحتفال عند بعض الأصنام الجاهلية أمثال: اللات والعُزَّى، وأساف ونائلة (4). كما تطرق الباحث إلى عصر صدر الإسلام، ووجد فيه بعض المظاهر المسرحية، عندما تحدث عن مجالس الطرب والرقص مستشهداً بما جاء في كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، ويقول إن “هذه المجالس استخدمت مسرحياً الأزياء والمكياج والموسيقى والغناء والمكان المسرحي والحركة المسرحية في عزفها على العود(5).
**  الحكواتي:
أول من ربط بين الحكواتي في مصر وبين الدراما، كان الطبيب الشهير (كلوت بك) – صديق محمد علي باشا الكبير – عندما سجل هذه الرابطة في كتابه (مصر في ماضيها وحاضرها) المنشور عام 1843، قائلاً: ” يروي الحكواتية قصصهم عادة أمام أبواب المقاهي الرئيسية في أمسيات الأعياد بشكل خاص، يجلس الحكواتي في مكان مرتفع يطل منه على جمهوره الذي يصغى إليه باهتمام بالغ ويقص روايته ويغني ما فيها من الأشعار بينما هو يعزف على آلة أحادية الوتر تشبه الكونترباس قليلاً [ آلة الربابة ]. في هذه الأثناء يجلس المستمعون حوله على السجاجيد أو الحُصْر وهم يدخنون النارجيلة أو يرشفون القهوة دون أن تبتعد عيونهم عن الحكواتي الذي يغني القصة بتغيير وجهه وصوته وحركات جسمه مما يضفي عليها التشويق الدرامي. وكلما ازداد عدد الحضور، كلما كانت حركات الحكواتي أكثر حيوية، وفي قمة الحماسة يضيف بعض الحكواتية إلى الرواية ما تجود به قريحة الارتجال عندهم” (6).
وإذا كان كلوت بك سجل الصورة المعاصرة للحكواتي في مصر، وربطها بالدراما، فإن الدكتور عمر الدسوقي عام 1954، سجل الصورة التراثية للحكواتي في بغداد، وربطا أيضاً بالدراما، قائلاً: ” كان في زمن المهدي رجل صوفي اشتهر بالتقوى والصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان لا يدع سبيلاً للموعظة إلا سلكه، وكان من عادته أن يخرج في يوم الاثنين ويوم الخميس إلى ظاهر بغداد، فيلتف حوله جمع كبير من الرجال والنساء والصبيان، ثم يصعد شرفاً وينادي بأعلى صوته: (ما فعل النبيون والمرسلون؟ أو ليسوا في أعلى عليين؟) فيقولون: نعم. فيقول: هاتوا أبا بكر الصديق. فيتقدم رجل فيجلس بين يديه. فيقول له: جزاك الله خيراً يا أبا بكر عن الرعية، فقد عدلت فقمت بما أرضى الله، وخلفت محمداً صلى الله عليه وسلم فأحسنت الخلافة، ووصلت حبل الدين بعد حل وتنازع، وفرغت منه إلى أوثق عروة وأحسن ثقة وفعلت وفعلت. ويذكر ما قام به من جليل الأعمال ثم يقول اذهبوا به إلى أعلى عليين. وينادي: هاتوا عمر بن الخطاب، ويتقدم رجل آخر فيقول: جزاك الله خيراً – وهكذا يأتي بكبار الصحابة والخلفاء وغيرهم ويحاكم كلاً منهم، ويقضي فيهم قضاءه” (7).
ثم تحدث بعد ذلك الباحثون عن فئة القصاصين الذين قال عنهم الجاحظ أنهم يقصون على السامعين ” أحداث الفتوح، وأنباء المعارك، وأخبار الأبطال، ومقاتل الفرسان، ومفاخرات الشجعان، وسير الغزاة والفاتحين؛ ممزوجاً ذلك بالوعظ والعبر وإيراد أحوال الصالحين، وأطوار الزهاد، والنساك والمتقين”، وكان القاص – أو الحكواتي – يقلد أثناء سرد قصصه لهجات الأشخاص وحركاتهم وطباعهم! أي يقوم وحده بتمثيل جميع شخصيات قصصه!
جاء في كتاب (مروج الذهب) للمسعودي: “قال ابن المغازلي: وقفت يوماً في خلافة المعتضد على باب الخاصة أضحك و أنادر، فحضر حلقتي بعض خدمة المعتضد، فأخذت في حكاية الخدم، فأعجب الخادم بحكايتي وشغف بنوادري، ثم انصرف عني، فلم يلبث أن عاد وأخذ بيدي، وقال لي: لما انصرفت عن حلقتك دخلت فوقفت بين يدي المعتضد أمير المؤمنين فذكرت حكايتك وما جرى من نوادرك فاستضحكت، فرآني أمير المؤمنين فأنكر ذلك مني وقال: مالك ويلك! فقلت: يا أمير المؤمنين على الباب رجل يُعرف بابن المغازلي يضحك ويحاكي، ولا يدع حكاية إعرابي ونجدي ونبطي وزنجي وسندي وتركي ومكي وخادم إلا حكاها، ويخلط ذلك بنوادر تضحك الثكول وتصبي الحليم، وقد أمرني بإحضارك ولي نصف جائزتك”(8).
وقد تطرق الدكتور علي الراعي إلى تراث الحكواتي – من خلال أقوال الجاحظ – حيث وجد “الحاكية من الناس يحكي ألفاظ سكان اليمن مع مخارج كلامهم، لا يغادر من ذلك شيئاً. وكذلك تكون حكايته للخرساني والأهوازي والزنجي والسندي والأحباشي وغير ذلك”، فهؤلاء الحكاؤون فنانون مسرحيون من طراز ممتاز فلا أحد يكتب لهم شيئاً (9).
واستمر الحكواتي في مصر إلى عهود لاحقة، حيث كتب أحد الباحثين عن الحكواتي في عصر المماليك، قائلاً: ” نال الفلاحون قسطاً من وسائل التسلية المسموعة والمنظورة في ذلك العصر، مثل الاستماع إلى القصص الشعبي أو السير، التي انتشرت في ذلك العصر انتشاراً واسعاً عند جميع فئات الشعب المصري. بحيث كان الشاعر أو الناسخ أو الحكوي يجلس في الطرقات أو في أماكن مخصصة، ويجتمع حوله العامة على هيئة حلقة لسماع سيرة عنترة أو الأميرة ذات الهمة أو قصة أبي زيد الهلالي أو سيرة الظاهر بيبرس، وغيرهم من الأبطال والشجعان” (10).
كما عرّف أحد الباحثين الحكواتي، قائلاً: ” الحكواتي هو الصورة الشعبية المتأخرة زمنياً لرواة كانوا يتنقلون في العصر السابق على الإسلام في الأسواق ودور الندوة وحيثما يتجمع الناس؛ لكي يؤدوا حكاياتهم وينقلوا مشاهداتهم وما سمعوه أو رأوه من غرائب وبطولات. وهو يشفع الحكاية دوماً بمحاكاة الصفات والأصوات التي يريد التعبير عنها. يحاكيها بحركات وجهه ويديه. كان بادئ الأمر يؤدي دوره بمفرده، ثم صار يستعين بممثلين آخرين” (11).
وهذا الباحث نقب عن الحكواتي في العراق، فوجده (القصخون) – وهو لفظ خليط من العربية والفارسية – ” وهو الشخص الذي يقرأ القصص شفاهة أو من كتاب، وكان البغداديون يجتمعون بعد صلاة العشاء في المقاهي لاستماع ما يقص عليهم من سوالف تاريخية بأسلوب تمثيلي يلهب حماس رواد المقاهي ….. أما حكايته فيستمدها من السير والملاحم والحكايات الشعبية، وهي تعد فضلاً عن وظيفتها في التسلية، وسيلة للحث عن التحلي بالأخلاق الكريمة، إذ يحاكي القاص المواقف والأحداث والشخصيات فتثير في نفوس المستمعين الرغبة في الاقتداء بالنماذج الراقية من الأبطال ….. ومن أشهر مقاهي ذلك الوقت، مقهى حوري التي كانت تقع في أطراف محلة خان لاوند قرب منطقة الفضل. ومقهى سكران التي كانت متخصصة في عرض سيرة عنترة على يدي المُلا خليل، وكانت تقع في الشيخ عمر قرب مستشفى الطوارئ القديمة. ومقهى إبراهيم سباتي قرب خان مشعل حيث يقرأ فيها مُلا نصيف سيرة عنترة وسيرة أبي زيد الهلالي، أما المُلا حميد فكان يستقر في مقهى خليل. فكانت تلك المقاهي ذات طابع متميز. وتغطي الصور المستوحاة من أبطال السير جدرانها استكمالاً للجو الخاص” (12).
وإذا تركنا الحكواتي في صوره التراثية وأخباره المنقولة من كتب التراث، سنجد بعض الباحثين يتحدثون عنه كشكل مسرحي، وأحد مصادر المسرح العربي؛ بل وعده البعض الأصل في التمثيل، ودعوا إلى توظيفه في المسرح العربي المعاصر؛ لأنه يشتمل “على الإمكانات الدرامية التي تشكل مصدراً مهماً من مصادر المسرح، ووسيلة عملية مهمة من وسائل تحريره من الصيغ التقليدية، والعودة به إلى النبع الأصيل المتمثل في التراث العربي، والإسهام في ترسيخ جذوره العربية، باعتبار أن الحكواتي هو أصل الممثل العربي” (13).
ومن خلال ما سبق بدأ الكشف عن أثر الحكواتي في التجارب المسرحية المعاصرة خاصة بعد أن أضحى تياراً يضم في خضمه العديد من الفنانين والكتاب، مخرجين ومؤلفين وممثلين ونقاداً، والذي أخذ ينادي بتميز المسرح العربي عن المسارح العالمية، ودراسة الصيغ الجديرة بوصول المسرح إلى أوسع الفئات الشعبية والإسهام في صياغة وعيها وذوقها وثقافتها صياغة عصرية وتقدمية وشعبية ذات أفق إنساني وقومي. والدعوة إلى تجديد المسرح العربي وتميزه – باعتماد أساليب فنون الحكواتي العربي وصيغه الفنية والفكرية – ما هي إلا محاولة أصيلة لبلوغ مشارف مسرح عربي يرتبط ارتباطاً وثيقاً وصادقاً بالجمهور، ويعبر أصدق تعبير عن واقع الإنسان العربي بهمومه ومطامحه وآماله وأشواقه.
** جماعة مسرح الحكواتي:
المعاني السابقة المتعلقة بالحكواتي، تجسدت في تجربة عملية من خلال (جماعة مسرح الحكواتي)، التي ظهرت في لبنان كفرقة مسرحية إلى الوجود عام 1977 من خلال مجموعة ضمت طلاباً وأساتذة يعملون في معهد الفنون الجميلة وفي فرع المسرح بلبنان. كان بينهم من لديه خبرة مسرحية طويلة كروجيه عساف، وعادل شاهين، ونقولا دانيل. وقد ولدت الفرقة من منطلق رفض المسرح السائد في لبنان حتى سنوات ظهور الفرقة. وذريعة الجماعة في الرفض أن المسرحيات التي تعرض تمثل فكراً أوروبياً دخيلاً لا يتلاءم وذوق الجمهور الشعبي العربي، وباتت الحاجة ماسة للتعبير عن الحاجات الجديدة. ومن الوسائل التي استخدمتها الفرقة ” تطوير أسلوب الحكواتي: فالحكواتي بعلاقته المباشرة مع الجمهور، يروي ويجسد المشاهد بواسطة أدوات بسيطة ومكشوفة، ينطلق مسرح الحكواتي من هذا الأسلوب فيحكي حكاياته الشعبية مباشرة ويستخدم أدوات مسرحية مبسطة ومكشوفة لتجسيد مشاهدها” (14).
ويوضح أحد الباحثين نوعية المسرح الاحتفالي قائلاً: ” إن المسرح الذي ننشده وندعو إليه، هو مسرح متفتح على الحضارة العالمية من غير أن يتخلى عن هويته القومية، ويستفيد من إنجازات المسرح العالمي من غير أن يتخلى عن صوته أو يفقد موطئ قدمه. إن المسرح الذي ندعو إليه يستقي مادته وغذاءه الروحي من تراثه الأصيل بشقيه الرسمي والشعبي من غير أن يقطع صلته بالحاضر والمستقبل. وينهج نهجاً جمعياً في التأليف والإخراج والعرض الفني، ويشارك جمهوره مشاركة حقيقية يعيش بين ظهراني الجماهير ويصغى إلى نبض قلوبها وأصواتها وزفراتها وغضبها وحزنها وفرحها. إن الدعوة لإحياء الحكواتي في التجارب المسرحية المعاصرة تتمثل بإعادة النظر في مسرحنا العربي، وإعادة النظر في طبيعة علاقته بجمهوره وقضاياه وهمومه الإنسانية والقومية والوطنية”(15).
ومما يميز جماعة مسرح الحكواتي، علاقتها المباشرة مع الجمهور من خلال تحويل رؤية المشاهدين من رؤية سكونية إلى رؤية فاعلة تتيح لهم إمكانية المشاركة المجدية في الممارسة المسرحية، وذلك عن طريق كسر الإيهام المسرحي من خلال تطوير أسلوب الحكواتي! فالحكواتي بعلاقته المباشرة مع الجمهور – كما قلنا سابقاً – يروي ويجسد المشاهد بواسطة أدوات بسيطة ومكشوفة، فيحقق بذلك إزالة (العازل) التقليدي بين خشبة المسرح وكل ما هو خارجه. كما يعتمد مسرح الحكواتي على مشاركة الجمهور في تنظيم العروض من خلال التوجه إلى الفئات الشعبية في أماكن تواجدها، مما يحقق الشرط الموضوعي لأن يكون الجمهور بموقعه في حالة انسجام مع إطار العرض، ومؤهلاً بالتالي للمشاركة الفعالة (16).
** مسرحة التراث:
تطور أمر التراث لدى المسرحيين، فبحثوا فيه واكتشفوا المُخرج والبناء المسرحي والعرض المسرحي، بل والممثل أيضاً حتى ولو كان خليفة أو أميراً!! فالدكتور علي الراعي اعتبر الخليفة المتوكل مخرجاً مسرحياً!! قائلاً عنه: ” إنه اشتغل بالإخراج المسرحي! ذات مرة شرب فيها في قصره المسمى بالبركوار، فقال لندمائه: أريد أن أقيم احتفالاً بالورود. ولم يكن ذلك أوانها، فقالوا له: ليست هذه أيام ورد. ولكن الخليفة الفنان لم يقف حائراً أمام هذه العقبة الهينة، فأمر بسك خمسة ملايين درهم من الوزن الخفيف وطلب أن تصبغ بالألوان: الأسود والأصفر والأحمر، وأن يترك بعضها على لونه الأصلي. ثم انتظر حتى كان يوم فيه ريح فأمر أن تنصب قبة لها أربعون باباً، فأصطبح فيها والندماء حوله وعلى الخدم وعددهم سبعمائة، أقبية جديدة وقلنسوات لكل منها لون يغاير سائر الأقبية والقلنسوات. وأمر المتوكل إذ ذاك بنثر الدراهم كما ينثر الورد، فكانت الريح تحملها لخفتها، فتتطاير في الهواء كما يتطاير الورد. وبهذا تم للخليفة الفنان والمخرج المسرحي ما أراد” (17)!
وتمادى الراعي في تصوراته، فبعد أن جعل الخليفة المتوكل مخرجاً مسرحياً، جعله أيضاً صاحب أول مسرح خاص يُبنى في قصره!! وعن هذا الأمر قال الراعي: كان المتوكل يكن وداً خاصاً لجماعة من الممثلين الهزليين، أطلق عليهم اسم (السمّاجة) [ أي الحكواتية ] وهم قوم يحاكون حركات بعض الناس ويمثلونهم في مظاهر مضحكة، إيناساً للناس. وتصادف أن دخل إسحق بن إبراهيم، على المتوكل، وغضب مما رآه من أعمال هؤلاء فخرج غاضباً، ولاحظ المتوكل ذلك فأعاده، ثم قال له: يا أبا الحسين، لا تغضب، فوالله لا تراني على مثلها أبداً. وبُني للمتوكل بعد ذلك مجلس مشرف، ينظر منه إلى السماجة. وهكذا، لم يتخل المتوكل عن حبه لتمثيل السماجة، وإنما صنع لنفسه مقصورة يرى منها العرض عن بعد، أي إنه بنى مسرحاً بدائياً، ممثلوه السماجة ومتفرجه الوحيد المتوكل (18)!
ومن الواضح أن سيطرة التراث كانت قوية على الدكتور الراعي، فبعد أن جعل الخليفة المتوكل مخرجاً ومتفرجاً وصاحب مسرح خاص، جعل الخليفة الأمين ممثلاً!! فقد سرد الراعي قصة أوردها ابن خلدون عن الخليفة الأمين بأنه كان يلعب بحصان خشبي وسط رقص وغناء الجواري فعلق الراعي عليها قائلاً: ” فهذا خليفة آخر فنان، اشترك بشخصه في التمثيل والرقص، ولم يقتنع بدور المنتج والممول” (19).
كما أورد علي الراعي وصفاً دقيقاً لأحد العروض المسرحية – من وجهة نظره – أيام هارون الرشيد، قائلاً: كان الرشيد والمأمون من بعده يخرجان للصلاة يوم الجمعة بأعظم مظاهر الخلافة يتقدم الموكب فرقة من المشاة تحمل الرايات الخفاقة، تتقدمهم فرقة الموسيقى بلباس خاص بها، تصدح بالأنغام الشجية، ثم يظهر خلف الموسيقى رجال أشداء متنكبين أقواسهم، شاهرين سيوفهم، ويأتي جماعة الوزراء والأمراء وأرباب الدولة، في خيول مطهمة، ويهل الخليفة وهو يرتدي طيلساناً أسود، ممتطياً جواداً من خيرة الجياد العربية، ويتبعه رجال الدولة والحراس. فهذا الموكب هو في صميمه عرض مسرحي مُخرج بعناية، مكانه طرقات بغداد وحركته المسرحية من قصر الخليفة إلى المسجد وبطله الرئيسي: الخليفة، ومتفرجوه هم جماهير الناس والهدف منه – إلى جوار إظهار الأبهة – أن يقع كل ذلك في نفوس الناس موقع المتعة” (20).
هذه الأقوال – والاقتباسات التاريخية والتراثية – شجعت الباحثين الآخرين ليعيدوا النظر في التراث من أجل استخراج نصوص مسرحية منه، أو من أجل إعادة كتابة التراث في صورة مسرحية، وهو ما أطلق عليه مسرحة التراث! فعلى سبيل المثال نجد علي عقلة عرسان يتحدث عن القصص والمرويات التراثية المكتوبة من قبل مؤلفين، مثل: حكاية أبي القاسم البغدادي التي ألفها أبو المطهر الأزدي الفارسي في القرن الخامس الميلادي، فنجد الباحث – علي عقلة عرسان – يُعيد صياغة القصة في قالب مسرحي حديث، ويصنع من القصة مسرحية متكاملة! ويفسر الباحث عمله هذا بقوله: ” قمت بإعداد نص مسرحي عن حكاية أبي القاسم البغدادي لم أتدخل فيه إلا ببعض العبارات البسيطة في مجال الوصف أو الربط. أما الحوار فهو حوار المؤلف دون زيادة. مع الإشارة إلى أنني أسقطت الكلام المعاد والبذيء مما لا يمكن ذكره، وكذلك بعض أسماء وأوصاف الأماكن والملابس والمأكولات بأنواعها ….. وأعتقد أن هذا النص بوضعه الذي أقدمه فيه، قابل للإخراج والتمثيل والعرض مع ما يمكن أن يقوم به المخرج من حذف للحفاظ على حيوية العرض وإمكان تقديمه من قبل شخصية واحدة يقع عليها معظم العبء، ولمقتضيات درامية” (21).
وبالأسلوب نفسه أعاد الباحث صياغة مجموعة كبيرة من النصوص التراثية، وصنع منها نصوصاً مسرحية كاملة، ومن هذه النصوص التراثية الممسرحة: حكاية الشيخ صنعان التي يرجع تاريخها إلى القرن الثالث الهجري التي أوردها فريد الدين العطار في كتابه (منطق الطير)، ورسالة التوابع والزوابع أو شجرة الفكاهة لابن شُهيد الأندلسي القرطبي، وحكايات كتاب كليلة ودمنة، والمقامة الحلوانية والمضيرية والشعرية، وقصة الإسراء والمعراج (22).
وبالنسبة إلى مسرحة (المقامات)، فالجدير بالذكر إن عبد الله النديم، نشر في مجلته (الأستاذ) عام 1893، خبراً تحت عنوان (جمعيتا المسامرة والفتوح الخيرية)، أوضح فيه، أن جمعية المسامرة تخصصت في تمثيل (مقامات الحريري) بعد تحويلها إلى عروض مسرحية من أجل التهذيب والوعظ، وحث المتفرجين على ترك الرذيلة والتمسك بالفضيلة، وهذه العروض قام ببطولتها كل من: محمود حمدي، ومصطفى العوامري، وصالح فهمي، ومحمد منجي (23).
ومسرحة المقامات – لا سيما (مقامات الحريري) – لم تقتصر على مصر وحدها بل قام بالعمل نفسه في تونس عام 1936 الأديب حميدة الحبيب في كتابه (بزوغ القمر) المطبوع في المطبعة التونسية الصنادلية. والكتاب يقع في ثمانية عشر جزءاً، وهو عبارة عن ” إفراغ المقامات الحريرية في قواب الروايات المسرحية، فبدأ أولاً بذكر خلاصة المقامة وبيان مميزاتها وذكر اللغات التي ترجمت إليها ثم يذكر المقامة بنصها ثم يفرغها في قالب رواية تمثيلية مسرحية، على أسلوب الروايات في الحوار وتبادل الحديث والتوسع على قدر الحاجة. ولم يكتف في ذلك بمجرد اللفظ بل أراد أن يكون عمله عملاً تطبيقياً فنشر عدة صور تمثل المناظر المأخوذة من المقامات” (24).
كما قام الدكتور عمر محمد الطالب بمسرحة التراث أيضاً، عندما نشر صياغة المسألة الزنبورية المشهورة في كتب التراث النحوي – المعروفة بالمناظرة بين سيبويه والكسائي، التي وردت في كتاب مجالس العلماء للزجاجي – في صورة مشهد مسرحي قام بصياغته (كاصد ياسر، وطه محسن)، ونشر أيضاً مشهداً مسرحياً بالأسلوب نفسه لمجلس علي بن حمزة الكسائي مع المفضل الضبي بحضرة الرشيد، وقد مسرحها كذلك (كاصد ياسر، وطه محسن) (25).
لم يكتف الدكتور عمر محمد الطالب بمسرحة التراث النحوي والأدبي، بل تحدث عن مسرحة القرآن الكريم، والحديث الشريف، مستشهداً بما قام به توفيق الحكيم في مسرحيته (أهل الكهف)، قائلاً: ” ونجد في القرآن الكريم قصصاً درامياً وحواراً وحركة وصراعاً لا يحتاج تحويلها إلى عمل مسرحي إلا إلى جهد ضئيل مثل قصص يوسف وإبراهيم وموسى ومريم وزكريا وآدم وحواء وأيوب ونوح وغيرهم، هذا بالإضافة إلى المشاهد المسرحية التي يمكن استخلاصها من القرآن الكريم”. ومن ناحية التطبيق وجدناه يختار مشاهد مسرحية من سورة الأعراف للتدليل على فكرته، ثم قام بالعمل التطبيقي نفسه على سورة يوسف، ثم تطرق إلى مسرحة الحديث الشريف وجاء بنموذج مسرحي لأحد أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم (26).
** كتاب الأسرار:
وإذا كان بعض الباحثين حاولوا مسرحة التراث العربي والإسلامي، ففي التراث كنوز لم تُكتشف بعد، وبها أشكال مسرحية ومظاهر درامية متنوعة. فبفضل رعاية سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير دولة قطر، وحرمه سمو الشيخة موزة بنت ناصر المسند؛ خرج إلى النور عام 2008 (كتاب الأسرار في نتائج الأفكار) – بمناسبة افتتاح المتحف الإسلامي في دولة قطر – حيث قام سموهما بتمويل مشروع تحقيق ونشر مخطوطة الكتاب بعد اكتشافها! فهذا الكتاب يُعد أحدث مخطوطة مكتشفة في مجال الهندسة الميكانيكية إسلامياً وعربياً، ألفه العالم المهندس المسلم الأندلسي أحمد بن خلف المرادي في قرطبة في ظل الحكم الإسلامي للأندلس. ومخطوطة الكتاب – المنسوخة بالخط المغربي في طليطلة عام 1266م – ظلت قروناً طويلة سجينة بفلورنسا في مكتبة (ميديشيا لورينسيانا  Biblioteca Medicea Laurenziana)، حتى تم اكتشافها؛ ومن ثم تحقيقها ونشرها في كتاب أنيق للغاية بواسطة هيئة المتاحف القطرية، وتم عرضه وبيعه لأول مرة في افتتاح المتحف الإسلامي في قطر. وأهمية كتاب الأسرار تكمن في رسوماته وأشكاله الهندسية، التي تتمثل في: الساعات المائية، والصناديق أو المسارح الميكانيكية، والآلات العسكرية، والآبار السحرية، والمزاول أو الساعات الشمسية. وما يهمنا من هذا كله (المسارح الميكانيكية)، لأنها ألعاب مجسمة كانت تحكي حكايات وقصص، وكانت تُعرض على الجمهور أو في الساحات خارج القصور، وهذه الألعاب تُعد إرهاصاً لفن العرائس، أو العرائس المتحركة، أي أن الكتاب يحمل بين أوراقه شكلاً – أو أشكالاً – من المظاهر المسرحية، التي تنتمي إلى البيئة العربية والإسلامية منذ القرن الثالث عشر الميلادي.
فالكتاب – مثلاً – يذكر قصص بعض الألعاب، مثل (قصة الحب والحيات الخبيثة) ويحكي المؤلف قصتها، قائلاً: ” كان ياما كان، في سالف العصر والأوان، كان هناك فتى يحب فتاة حباً شديداً. وكل يوم كان الفتى يتسلل إلى أمام بيت حبيبته، ويخرج من بئر أمام باب البيت، ويدعو حبيبته للخروج بأشعار جميلة. وإذ تخرج الفتاة لتلقى حبيبها، تأتي الغزلان من كل مكان لتستمع للحبيبين الولهانين. لكن سعادة الأحبة قصيرة، فحالما يلقى الحبيبين بعضهما، تخرج من الأحراش حيات خبيثة، فتهرب الغزلان، وتعود الحبيبة على داخل البيت في ذعر شديد، ويختبئ الفتى داخل البئر من جديد منتظراً أن تختفي الحيات ليعود ويلقى حبيبته وتتكرر القصة من جديد “.
** الهوامـش:
(1): ـ راجع : إيتيين دريوتون – المسرح المصري القديم – ترجمة د.ثروت عكاشة – الهيئة المصرية العامة للكتاب – ط (2)- 1988 – ص (33 – 150).
(2): – ومنهم على سبيل المثال: د.عمر الدسوقي – المسرحية .. نشأتها وتاريخها وأصولها – مكتبة الأنجلو المصرية- ط(1)- 1954- ص(11)، د.محمد مندور – المسرح الحديث وسلسلة التطورات السابقة – مجلة (المجلة) – عدد(7) – يولية 1957 – ص(102)، عبد الرحمن صدقي – مولد المسرح على أعتاب المعبد – مجلة (المجلة) – عدد(15) – مارس 1958 – ص(73)، د.سمير سرحان – تاريخ الدراما .. البدايات الأولى .. الكاهن يؤلف للمسرح – مجلة (المسرح)- عدد(13) – يناير 1965 – ص(65)، رشدي صالح – المسرح العربي – مطبوعات الجديد – عدد(4) – يونية 1972 – ص(10)، د.علي إبراهيم أبو زيد – تمثيليات خيال الظل – دار المعارف – ط(2) – 1983 – ص(13-17).
(3) – مجلة (المجلة) – عدد 111 – مارس 1966 – ص(28، 29).
(4)– علي عقلة عرسان – الظواهر المسرحية عند العرب – منشورات اتحاد الكتاب العرب – دمشق – 1985 – ط3 – ص(30، 31).
(5):– علي عقلة عرسان –السابق– ص(72، 73).
(6):– تمارا الكساندروفنا بوتينتسيفا – ألف عام وعام على المسرح العربي – ترجمة توفيق المؤذن – دار الفارابي – بيروت – ط2 – 1990 – ص(68، 69).
(7): – راجع صهاريج اللؤلؤ للسيد توفيق البكري نقلاً عن د.عمر الدسوقي – المسرحية نشأتها وتاريخها وأصولها –السابق– ص(12).
(8): – علي عقلة عرسان –السابق– ص(119).
(9): ـ راجع: د.علي الراعي – المسرح في الوطن العربي – سلسلة عالم المعرفة : المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت – عدد25 – يناير 1980 – ص(12، 13).
(10): – مجدي عبد الرشيد بحر – القرية المصرية في عصر سلاطين المماليك – سلسلة تاريخ المصريين عدد 170 – الهيئة المصرية 1999 – ص(49، 50).
(11): – شوكت عبد الكريم البياتي – تطور فن الحكواتي في التراث اعربي وأثره في المسرح العربي المعاصر – دار الشئون الثقافية العامة – بغداد – 1989 – ص(72).
(12): – راجع: شوكت عبد الكريم البياتي –السابق– ص(82 – 85).
(13): – شوكت عبد الكريم البياتي –السابق– ص(9).
(14): – شوكت عبد الكريم البياتي –السابق– ص(182 – 188).
(15): – شوكت عبد الكريم البياتي –السابق– ص(10).
(16): – راجع: بيان مسرح الحكواتي – مجلة (البيان) – الكويت – عدد 163 – أكتوبر 1979 – ص(10، 11).
(17): – د.علي الراعي –السابق.
(18): – راجع: د.علي الراعي –السابق– ص(14، 15).
(19): – د.علي الراعي –السابق– ص(15).
(20): – د.علي الراعي –السابق– ص(19).
(21): – علي عقلة عرسان – السابق – ص(184).
(22): – راجع: علي عقلة عرسان –السابق– ص(241 – 620).
(23): – راجع: مجلة الأستاذ – عدد 32 – فى 28/3/1893 – ص(759،760).
(24): – المجلة الزيتونية – الجزء الأول – رجب 1355 هجرية – سبتمبر 1936.
(25): – راجع: د.عمر محمد الطالب – ملامح المسرحية العربية الإسلامية – منشورات دار الآفاق الجديدة – المغرب –
1987 – ص(85 – 88).
(26): – راجع: د.عمر محمد الطالب –السابق– ص(134 – 161).
 
 
أ.د. سيد علي إسماعيل/ قسم اللغة العربية – كلية الآداب – جامعة حلوان/ مصر
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت