السينما الأرجنتينية على ضفاف النيل/ د. حسن عطية
1 -2 باولينا وماريا فى مواجهة اغتصاب الروح والبدن
عن: جريدة القاهرة
حضرت أمريكا اللاتينية في مهرجان القاهرة عبر السينما الأرجنتينية التي أكدت وجودها بأربعة أفلام، ولم تبارح القاهرة صفر اليدين، دون أن يحصل فيلمها (باولينا) على جائزة الهرم البرونزي لأفضل عمل أول في المسابقة الرسمية، وهو إنتاج مشترك مع البرازيل وفرنسا، من إخراج “سنتياجو ميترى” والمشارك في كتابة السيناريو له مع “أدوارد بوراس” و”ماريانو لينياس”، وكان قد حصل الفيلم من قبل في مهرجان (كان) على جائزة أسبوع النقاد ل “أصالة موضوعه وامتلاكه نظرة صارمة للحياة”، وجائزة الفيبريسى للنقاد الدوليين كأفضل عمل في الأقسام الموازية في دورة هذا العام من ذات المهرجان، كما حصل في مهرجان (سان سباستيان) على ثلاث جوائز هي : الجائزة الكبرى لقسم (آفاق لاتينية) وجائزة (إزاى) للشباب ، وجائزة (نظرة أخرى) .
وحضور الأرجنتين فى المهرجان ليس بالمصادفة، بل نظرا لموقعها المتميز فى جغرافية وثقافة أمريكا اللاتينية، فهى أكبر دول أمريكا اللاتينية الناطقة بالأسبانية مساحة، وثالث أكبر اقتصاد بالقارة الجنوبية، ورائدة السينما فيها، وهى الدولة الوحيدة بها التى حصلت على جائزتى (أوسكار) للفيلم الناطق بلغة غير إنجليزية وهما (قصة رسمية) 1985 إخراج “لويس بوينثو” و(سر عيونها) 2009 إخراج “خوان خوسيه كامبانيا” ، فضلا عن العديد من الجوائز العالمية فى (برلين) و(هافانا) ومهرجان (جويا) الأسباني والنظير فى السينما الناطقة بالأسبانية لمهرجان (الأوسكار) الأمريكى الخاص بالأفلام الناطقة بالإنجليزية أساسا.
حضرت الأرجنتين فى مهرجان القاهرة بأربعة أفلام، كما أشرنا سلفا، شاركت فى ثلاثة منها تشيلى وبيرو والبرازيل إلى جانب فرنسا، مما يتيح الفرصة للاٌقتراب من سينما أمريكا الجنوبية الغائبة عن أسواقنا، فإلى جانب الفيلم الفائز بالهرم البرونزي، شاهدنا لها ثلاثة أخرى فى أهم أقسام المهرجان بعد المسابقة الرسمية وهو (مهرجان المهرجانات)، والذى يضع أمام جمهوره فرصة أفضل الأفلام الفائزة فى المهرجانات الدولية فى العام الحالى، وهى (امرأة من طين) إنتاجا مشتركا مع تشيلى، و(ماجيانيس) -أو (ماجلان) كما جاء فى مطبوعات المهرجان – مع بيرو ، ثم (النار) وهو إنتاج أرجنتينى خالص .
** العصابة:
يحمل فيلم (بولينا) Paulina فى مطبوعات المهرجان أسم المرأة التى يدور حدث الفيلم الدرامي حولها، ويبدو أن هذا هو الاسم الشائع المعروف به فى المهرجانات الأوربية، تركيزا كما سنرى على المرأة وليس على محيطها المتشابكة معه، حيث أن الفيلم فى نسخته الأصلية وكما عرض على الشاشة فى المهرجان المصرى حمل أسما آخر هو La patota بمعنى (العصابة)، وصار عنوانا فرعيا للفيلم، وهو ذاته عنوان الفيلم القديم المعتمد عليه فيلمنا الحالى، باعتباره (ريميك) أو إعادة إنتاج له برؤية جديدة وسياق مختلف، وأخرجه عام 1960 “دانيل تينايرى” عن سيناريو ل “ادوارد بوراس” المشارك فى سيناريو الفيلم الجديد، مديرا حدثه الدرامى فيه حول حادث اغتصاب مدرسة فلسفية على يد طلابها، وهذا التغيير فى العنوان بين الفيلمين، يمنح كل واحد منهما دلالات مختلفة، إذا ما انطلقنا فقط من العنوان كعتبة أولى من عتبات تفسير الفيلم الخارجية، دون أن نفرض عليه دلالة كلية، فمتن الفيلم بأحداثه وشخصياته هو مانح الفيلم هذه الدلالة الكلية، مهما تعددت التفسيرات له، وليس العنوان فقط كما يرى أتباع “جيرار جينيت”، فعبر العلاقة بين الإنسان وسياقه المجتمعى وأفكاره المعتنق بها، يطرح الفيلم قضية شائكة تواجه الإنسان عامة والمثقف خاصة بين ما يعتنقه من أفكار نظرية وما يواجهه فى الحياة من مواقف تتناقض مع هذه الأفكار، أو تجبره على اتخاذ موقف تجاهها، حيث يقدم لنا منذ المشاهد الأولى الشابة “باولينا” (دولوروس فونثى) كمحامية ناجحة فى عملها بالعاصمة (بوينوس آيريس) وكعضو نشط فى جمعيات حقوق الإنسان، تقرر أن تعود لمسقط رأسها فى منطقة (مسينونيس) بأقصى جنوب الأرجنتين، لكى تكرس نفسها للنشاط الاجتماعى بمدينتها، وكان أبوها المحامى النشط “فرناندو” قد قام منذ سنوات بمثل ما قررت أن تفعله لكنه لم يستطع أن يستمر ، فعاد للعاصمة كى يصبح قاضيا براجماتيا يحقق العدالة فى المجتمع بعيدا عن الأفكار الثورية .
تشترك “باولينا” فى مشروع لوزارة (التنمية الاجتماعية) للتدريب ونشر الحقوق الديمقراطية فى البلاد، وذلك بالقيام بتدريس هذه الحقوق بإحدى المدارس الريفية الواقعة بأطراف بلدة (بوسادس) بالمنطقة التى ولدت بها ، والغارقة فى الفقر والتهميش السياسي والاجتماعي، يفتتح الفيلم حدثه بمناظرة بين الابنة والأب على نهج دراما “برتولت بريشت”، الذى اعتاد أن يقدم مناقشة نظرية فى البداية، ليدلل بوقائع المسرحية على وجهة نظره فيها، فيصنع الفيلم لقاء عاصفا فى مفتتح الفيلم بين “باولينا” ووالدها ، واضعا لمدة ثمانى دقائق أفكار وقناعات ومشاعر كلا منهما على مائدة المناظرة السياسية والاجتماعية، خاصة بعد أن صار الأب قاضيا مهمته الحكم بموضوعية على القضايا المطروحة أمامه، وأضحت هى محامية تدافع عما تراه صحيحا فى هذا العالم وتنحاز للأفكار الثورية، ثم سرعان ما ينتقل هذا الحوار النظرى الساخن لمعترك العمل الواقعى، بسفر “باولينا” للجنوب وبدأ عملها بين طلاب مراهقين بإحدى المدارس الريفية الفقيرة، بسؤالهم عن النظام السياسى القائم فى الأرجنتين، فلا يعرفون، تحدثهم عن الديمقراطية، وحق الإنسان فى رفض أى فعل يفرض عليه من آخر ، وحقه بالتالى فى إبداء المشاركة أو عدم المشاركة فى نشاط ما، فيواجهونها بأن (فعل) المحاضرة التدريبية هذه هى التى تفرضه عليهم ، وأنهم لا يودون المشاركة فيه، معلنين رفضهم لها ويخرجون من الفصل، مما يضعها فى مأزق أمام إدارة المدرسة.
** متلازمة ستوكهولم :
تحاول “باولينا” فى المحاضرات التالية شرح مفهوم المشاركة الجماعية، فى الوقت الذى تتصادق مع إحدى المدرسات المقيمات بعيدا عن المدرسة، وترى عن قرب مدى التفاوت بين ما تؤمن به من نظريات وقناعات وما تراه على الأرض بغياب المساواة بين الشرائح المجتمعية ـ وتعلل ذلك بجهل المجتمع وليس بخطأ النظريات . وبالتوازى مع هذا المسار التعليمي والحياتى للناشطة الشابة فى القرية الفقيرة، نتعرف على مجموعة من طلاب المدرسة يصادقون فتى لم يكمل تعليمه على علاقة بفتاة تهجره لفتى آخر تعرفت عليه، فيقرر مع أصحابه النيل منها ك (عصابة) ضالة فى الطريق، فيتتبعونها فى الغابة القريبة، ويكمنون لها بين الأشجار لحين عودتها من لقاء لها مع عشيقها الجديد، فى الوقت الذى تعود فيه “باولينا” بالموتوسيكل من زيارة لزميلتها، فيظنونها هى، ويغتصبونها اغتصابا وحشيا دون أن تراهم . بعد أن تهدأ الحالة النفسية ل “باولينا” تعود إلى المدرسة، وتدريجيا تتعرف على المجموعة التى اغتصبتها دون أن تفصح عن أسم واحدا منها، فقد دخلت سيكولوجيا فى الحالة التى يسميها علماء النفس ب (متلازمة ستوكهولم) والتى تجاوز مرحلة الانفعال الأول للضحية فى الشعور بضرورة الانتقام من الجانى فورا، إلى بداية الشعور بالتعاطف مع الجاني مع مرور الأيام وإيجاد المبررات لما فعله، مدعوما بأفكار نظرية حقوقية، تجعلها ترفض أن تجهض نفسها، حينما شعرت بتحرك جنين داخلها، رغم عدم معرفتها بالضبط باسم والده، فهو وجود يمثل البراءة فلماذا يقتل؟، وهو ما يضع المتلقى أمام حادثة تطبيقية لمناظرة “باولينا” وأبيها فى مفتتح الفيلم : هل تتمسك بضرورة معاقبة المغتصبين باسم القانون، أم تعفو عنهم باسم حقوق الإنسان التى تبرر للمراهق أن يقع فى الخطأ مادام جاهلا بحقيقته، ومادام لم يقصد أن يغتصبها هى بالذات، هنا يتمحور موضوع هذا الفيلم حول شخصية “باولينا” ورؤيتها للعالم فى مواجهة الواقع المتردي الذى تجسده (عصابة) المراهقين، ويضحى هدف الفيلم هو وضع المشاهد فى حالة تفكير تجاه الموضوع المثار والرأى المعروض، وليس فقط القبول برأي أي من طرفي المعادلة .
لم يكن فعل الاغتصاب العنيف هو الغاية فى هذا الفيلم، ولم يطلب من الضحية انتقاما عنيفا بمثل العنف الذى وقع عليها، ليحول الفيلم إلى دائرة انتقام ميلودرامية تشويقية، بل راح يطرح القضية بمنظور إنسانى راق، ويدفع المتفرج كما قلت للتفكير فيما حدث من كل جوانبه وليس إشباع غرائزه فى الانتقام الدموى، وكم نحن أحوج للتفكير فيما نطرحه على شاشاتنا، بدلا من إغراقنا فى العنف السادى باسم العدالة الصورية ؟ .
** امرأة الطين:
فيلم أرجنتيني آخر، مشترك الإنتاج مع تشيلى، كتب السيناريو له وأخرجه التشيلي “سيرجيو كاسترو سان مارتين “، وتدور وقائعه فى قرية (ليماري) التشيلية الواقعة بأقصى شمال تشيلي على الحدود مع الأرجنتين، مما يميل بالفيلم تجاه تشيلى، وأن ظلت الأرجنتين بادية فى عملية الإنتاج، ويتمحور حدثه الدرامى فى دائرة متشابهة مع الفيلم السابق حول امرأة وحيدة تدعى “ماريا كارتاخينا” تم اغتصابها أيضا، وأن لم يحمل الفيلم أسمها، بل أشار إليها باعتبارها (امرأة الطين)، تترك بيتها وطفلتها الصغيرة لتذهب للعمل كعاملة موسمية فى جمع العنب بإحدى المزارع، وهى تعود لهذه المزرعة بعد غياب عشر سنوات عنها، نظرا لحاجتها لمال يساعدها على السفر وأبنتها لزيارة أختها بالعاصمة (سانتياجو)، وهو ما يعيد بعث الماضى المختبئ فى صمت بين ضلوعها ، ويثير ما حدث لها مع “راؤول” رئيسها فى العمل وجلادها القديم، والذى يعاود اغتصابها مرة أخرى، فتقرر مباشرة الانتقام منه، فهى مجرد امرأة عاملة بسيطة الثقافة، لا تعرف من حقوق الإنسان غير حق الحياة الكريمة دون قهر الآخر، فتعمل على متابعته حتى تجده وحيدا فى أحد المصانع، وتجبره بمسدس كانت قد خبأته منذ سنوات ببيتها علها تحتاجه يوما للانتقام من الرجل الذى اغتصبها وترك بذرته بأحشائها، فلم تقتلها هى الأخرى بل أصرت على الاحتفاظ بها وتربيتها دون أن تعرف الطفلة من أبيها.
فى المصنع الخالى ليلا تجبر مغتصبها على خلع ملابسه والاستلقاء عاريا فى طرقاته، وتحمل ملابسه لتلقى بها فى البحيرة، فى فعل تجريس له أقصى من القتل، ثم تغطى كل جسدها بطين البحيرة، بعد أن سمعت ذات يوم فى التليفزيون بأن الطين أفضل من أى مزيل آخر لما يعلق بالجسد من أوساخ، وتلقى بنفسها فى البحيرة علها تتطهر تماما مما علق بجسدها وروحها معا .
يذكرنا الفيلم بموضوع قصة “يوسف إدريس” وفيلم “بركات” (الحرام) 1965 المعتمد عليها، حيث العمل الشاق لعمال التراحيل، وقسوة التعامل معهم، وسقوط امرأة ضحية اغتصاب دامية، انتهت بموتها بحمى النفاس، وليس بالانتحار كما فعلت بطلة هذا الفيلم، وأن أضاف الفيلم على ما سبق إشاراته الواضحة لقضايا الهجرة الداخلية ومشاكلها بين الدول مشتركة الحدود، والذكورية التى تحكم العلاقات فى القرية، وفى فضاء سينمائى مصبوغ باللون الأخضر الداكن، يكشف الفيلم عن أن العنف لا يعيش فقط وسط الفوضى والصراخ، بل أيضا فى عباءة الصمت الوحشى، ومن ثم يسكن الألم داخل الإنسان، وعليه مواجهته، سواء بالانتقام من مغتصب الروح والجسد كما فى هذا الفيلم، أو بالتفكير كما فى (باولينا) فيما يجب أن نصنعه أمام ذات الجريمة ونحن نتمسك بحق الإنسان أن يعيش وأن يخطئ ، وهى قضية كما نرى ليست بعيدة عن قضايا مجتمعنا، التى ننجح دوما فى عدم التعرض لها بالعمق المطلوب .