مسرحية"الرخ"..العبور نحو الداخل لتحرير النفس من الوهم وتطهيرها من القسوة / رسمي محاسنة
بيت اّيل للسقوط، ويفتقر للحماية الداخلية، وتنوع المواقف فيه، لم تعمل على تمتين أعمدة البيت، إنما استجابت للخوف الساكن في النفوس، ورعب الوهم القادم من الخارج، في هذه الأجواء يضعنا المخرج د.مخلد الزيودي بمسرحية “الرخ” التي كتبها العراقي د.محمد صبري، وقام بإعدادها “نصر الزعبي”، تفتح الستارة على بيت لأسرة تعمل بالخياطة، حيث الأدوات اللازمة من آلة خياطة، ومقابض تعليق وقماش ودمى، وحوارات نزقة بين الابن (محمد الإدريسي) ، والأب (حسن خمايسة)، والأم (دلال فياض)، هذه الحوارات التي يحسمها الأب بقوله”هم يفصلون، ونحن نخيط”، جملة تختصر زمنا ووضعا نعيشه، فهذه العزلة، واللامبالاة، وعدم الاهتمام بالخارج لا تدوم طويلا، وتؤسس لتهاوي الشخوص والأحداث لاحقا.
“الزيودي” في هذا العمل يزيح الأقنعة جانبا عن حقيقة الواقع، ويعري الشخصيات، وبقسوة يضع المتلقي أمام نفسه مواجها بالأسئلة والقلق، فهذه الازدواجية التي تتعامل بها الأسرة، سواء على مستوى الازدواجية بذات الشخصية، أو على مستوى ازدواجية رؤية الآخرين، مما يجعل حياتهم تدور في دوائر فارغة لا توصل إلى نتيجة، فالاغتراب المزدوج عن الذات وعن الآخر، أصبح هو البيئة التي تدور بها الأحداث، ووصلت إلى المرحلة التي لم يعد أحد فيها يميز الآخر، فهو لا يسمع، والآخر لا يسمعه، وفي ظل هذا التشظي والاغتراب، تظهر شخصية القادم من بعيد، “احمد العمري”، هذا الذي يرى البانوراما المتشظية أمامه بكل الوضوح، ويمتلك الأدوات التي تجعله يحرك الخيوط كما يريد، ولعل أهم الخيوط التي بيديه، هي معرفته لدواخل هذه الشخصيات المستلبة والمتهالكة، وبالتالي فهو صاحب القرار في تحديد مصائر الشخصيات، وهو الذي يسير الشخوص والأحداث حسب مصالحه ورغباته ونوازعه. وهو دائما يثير الرعب في الشخصيات المرعوبة أصلا، بذلك السؤال..ماذا يحدث في الخارج؟؟ وما يحدث في الخارج هو من صنع يديه هو، وهو الذي يوجه الحدث، ويصنع الخوف والدمار دون أن يلوث يديه، ودون أن تغيب عن وجهه ابتسامته الأنيقة.
تتحول حياة الأسرة إلى حالة من الرعب الدائم، والخوف المأزوم الذي يؤدي إلى تدمير الذات، وتدمير الآخرين، وتصبح القسوة هي القيمة العليا عند هؤلاء المحكومين بالقسوة، حيث لم يعد للجمال بكل دلالاته أي وجود، حتى الأجساد لم تعد كما كانت، فالتشوه الداخلي، رافقه تشوه في الشكل الخارجي، فالشروخ الأفقية والعمودية أنهكت النفوس والأجساد، وهذا الوهم الذي يحكم الوعي وتفاصيل الحياة، دفع بالشخوص إلى خارج صيرورتها الإنسانية، ولم يكن “الزيودي” رحيما بالمتلقي، فهو يريده أن يخرج محملا بالأسئلة، وأن يطرح على ذاته ألف سؤال وسؤال، عن حقيقية هذا الذي يحركنا من الخارج، وعن حقيقة هذا الوهم الساكن فينا، وعن حقيقة هذه الرؤية المزدوجة التي نرى بها الآخرين، فكانت هذه النتيجة المأساوية التي يعيشها الفرد والمجتمع من اغتراب عن الذات وعن القضايا التي تخصه، وعن إنسانيته الغائبة تحت قوة الوهم، وقوة القوة.
ولا أريد أن أضع العمل تحت يافطة أي مدرسة مسرحية، فهو يعيد إنتاج واقع نعيشه أكبر من كل التسميات، وأن ما يقوم به هو وضعنا بمواجهة أنفسنا، فهذه الدمى التي يوظفها بالعرض، وتحاورها الشخصيات، هي تلك الثنائيات التي نحملها بداخلنا، إنها الأضداد التي تعمل كمرايا لأنفسنا، ثنائيات تجعلنا نراوح في دائرة الوهم، وفي هذا البيت الذي تحول إلى مساحة حرب دامية بين الأسرة نفسها، وتحت أنظار ذلك الغريب الذي يستمتع بانجازاته التي تنفذها الشخصيات بأيديها.
“الرخ” تطرح أسئلة موجعة، علّها تعيد بعض الوعي المفقود في منظومة تعاملنا مع أنفسنا، ومع بعضنا، ومع الخارج، هذه القسوة التي قد تعيد إنتاج الذات من جديد وفق رؤية بعيدة عن هذا الماّل الذي وصلنا إليه.
“الزيودي” قدم العمل وفق رؤية إخراجية تستند إلى ثقافته ووعيه وموقفه من الحياة الرافضة لامتهان الإنسان، فكان هذا الجسد بحركته وتشوهاته والأقنعة التي يتخفي خلفها، حتى يحقق الغاية من العرض، وبحوارات مكثفة أعدها “نصر الزعبي” متخلصا من سردية النص الأصلي، وفي توظيف لفضاءات المسرح، ومفردات الديكور والإكسسوارات، وتوظيف واع للدمى والأقنعة، وحتى دراجة الغريب، المصممة بشكل مركب، تحمل دلالات كثيرة، وموسيقى”نصر الزعبي” جاءت مرافقة ومعبرة عن أجواء العمل بقسوته وتحولاته، وإضاءة “محمود المجالي” موظفة بشكل صحيح، وأداء لافت للممثلين، فإذا كان احمد العمري قد قدّم ما هو متوقع منه، بفهم للشخصية، حافظ على إيقاعها طوال العرض، وحتى عندما كان يغيب عن الخشبة، كنت تحس بحضوره، والرهبة من إطلالته القادمة، في حين أن كل من دلال فياض، وحسن خمايسة، ومحمد الإدريسي، قدموا أدوارهم بوعي وفهم لدواخل الشخصية وتحولاتها.