المثاقفة مسرحيا: نحت للأصول أم مأزق حدّ الهوّوية/ بقلم: حاتم التليلي محمودي
مقدّمة ضرورية :
تكشف لنا علاقة الإنسان بالمقدس، في أزمنة البدايات، عن ذلك الصراع الذي يهدف إلى تمعين العالم، ويقودنا من جديد إلى البحث في تلك الأصول، بعيدا عن صورتها الآنية، المجرّدة من المتعاليات، أو الموظفة في أنظمة دينية وأجهزة سياسية تبعدها عن صفاءها الأول. فهي تظل دائما على رغبة في تقديم بدائل لا واقعية، خاصّة أمام تعارضها مع عالم التقنية وسقوط العلم والعقل في التحجر والثبات حدّ الدوغمائية، ممّا ينجرّ عن ذلك نشوء فجوة كبيرة بين الإنسان وعالمه الرّوحي والميثي. وهذه العلاقة كانت قد ترجمت عبر أشكال تعبيرية وفنّية متنوعة ومختلفة، ممّا أكسبها طابعا فرجويا جعل من المقدس يتمظهر في أشكال احتفالية متعددة ومختلفة بتعدّد واختلاف الحضارة أو الثقافة التي نشأ فيها. كما مهّد له ليصبح أرضا خصبة وطاقة كبيرة وركيزة من ركائز المسرح.
يذهب البعض إلى تعريف الفرجة على أنّها أصل انبثاق الفنّ، وكمحاولة للدخول في تخوم المفاهيم، نستطيع القول بأنّ المقدس من جهة طقوسه الاحتفالية – الفرجوية، نادرا ما يتخلّى عن جانبه الماورائي – السحري، فهوة عبارة عن تجربة يخوضها الإنسان للإقامة في الفراغ نحو إمكانية التموطن خارج الذّات، ومحاولة جادّة للوصول إلى المطلق. وهو برغم عدم انفصاله عن اليومي – لأنّه غالبا ما يرسخ في الذاكرة – إلاّ أنّه يظل دائما خارج السّائد، وهو ما قاد المسرحي “باربا” Barba للتحدّث عن إمكانية نشوء ركح آخر، وعن الماقبل- الفرجوي باعتباره خلخلة للحواس، وتمظهر خارق، واستبدال للمألوف بالغريب، والمؤسّس بالفوضى والعقلاني باللاعقلاني، كما أنّه موغل في تشاكله مع التاريخي، ومتعدّد في مجالاته وأبعاده المعرفية، وغير محدّد أو ملزم بركح في حدّ ذاته. ذلك أنه نقيض الواقعي في صورته المحنّطة، ومنفلت في اغلب الأحوال عن المسرح، ممّا يؤدي بهذا الأخير إلى استحضار فنون أخرى كالسينما وألعاب السيرك في محاولة لتوليد المدهش والسحري كي لا تحدث قطيعته مع المتفرّج.
إنّ الفرجوي، أمر من الممكن أن تشهده جلّ المجتمعات، وعادة ما يكون شعبيا وعفويا. أما المسرح فهو محاولة تلعب دور التقنين، إذ هناك التمارين والإخراج والكتابة وخصوصية الخشبة أو الركح. واستنادا إلى “جان دوفينيو” القائل بأنّ المسرح أشبه بالتعبير عن التناقضات الحياتية وعن الإحساس بتمزّق اليومي وعن الرغبة الملحّة في تحقيق الحرّية المطلقة التي تصل أحيانا حدّ الإقامة في اللامتوقع، نستطيع القول بأنّ المقدّس في أشكاله الفرجوية المتعدّدة كالرقص والأناشيد والغناء، هو الآخر مدار يهدف إلى خلق نموذج حيّ للدراما، ولكنّها دراما عفوية، لا تنتظر نصّا جاهزا وتخطيطا مسبقا للتمارين والإضاءة وغيرها، بل تتطلّب ركحا ومخرجا مغايرين.
أسئلة عديدة، طرحتها الدراسات الانثروبولوجية والفلكلورية والمسرحية، في تناولها لموضوع الفرجة، خاصّة منذ ستينات القرن الماضي، من الممكن القول، أن معظم اهتماماتها، كانت بمثابة ردّة فعل على تلك الاهتمامات المبالغ فيها حول المقاربة النصّية ومحاولة انجازها فرجويا.
مثّل هذا الإشكال أرضا خصبة لميلاد نظريات ومدارس حديثة خلخلت معظم المفاهيم السّائدة، حيث تم تخطّي الثالوث المقدّس لأرسطو( وحدة الزمان، وحدة المكان، وحدة الحدث)، كما تمّ تقويض التصوّر السائد حول معمارية الركح، انطلاقا من هندسة فضاءات مغايرة ومختلفة. وهو ما مكّن المسرح من الدخول إلى مجال التجريب والمغامرة والبحث. إلّا أنّ هذا لم يمنع العديد من المسرحيين والمبدعين من العودة إلى الماقبل- الفرجوي. وهذه العودة، من الممكن وصفها برحلة البحث عن مرحلة النقاء، أو رواية الدخول من جديد في أزمنة البدايات، حيث طفولية المسرح. ومن هنا أمكن الحديث عن المسرح الاحتفالي الذي ولد كردّة فعل على تلك الأسباب التي جعلت من البعض يتحدّث عن أفول المسرح وموته في عصر سادت فيه التقنية وأصبح الاغتراب سيّد الموقف تجاه الحضارة الغربية والإنسانية ككلّ. لهذا فإننا سنحاول في البدء، الإشارة إلى هذه التجربة في حقلها الجغرافي الغربي، وظلالها عربيا.
أزمة الثقافة الغربية: سحر الشرق
حاولت معظم أعمال المسرحيين الغربيين ( كوكتو، بيتر بروك، ألفارد جيري، باربا، أنطونان أرطو) إدانة حضارتهم، ذلك أنّ الغرب، يعيش أزمة خانقة، بعد أن أصبحت حياة الإنسان فارغة، بتخلّيها عن المقدّس وانتظامها في مناهج علمية صارمة، إذ ماتت القيم الحقيقية وفقدت قيمتها وأفلت الأساطير. لقد غابت التيّارات غير المرئية، التي تسيطر على الحياة وتجعل من التمرّد الماورائي محمّلا بالسحر، إلاّ أنّ “بيتر بروك” في كتابه ” المساحة الفارغة” ظلّ مصرّا على ضرورة الإمساك بها فنّيا، وهو ما جعله منشغلا بالتعرّف على جلّ الأنماط المسرحية في المجتمعات الأخرى –غير الغربية. ومع ” كوكتو” صار الفنّ مقترنا بالفردانية والفوضى والانحراف، كردّة فعل تجاه بؤس الواقعية الزائفة وعدمية الحياة وفواجعها المرّة وسقوطها في التكرار الفاجع وسكونها في الثبات، ممّا جعل من الإنسان محاصرا كلّيا إزاء موته الرّوحي والميثي. وهو ما جعله يعرّف المسرحية على أنّها سرّ ولغز فأصبحت ضمن حدود المصادفة والوحي والأحاجي والتعازيم والنذور، بغية اشباع الجوع الانساني تجاه ما يمكن أن نصطلح عليه بالمعجزة. وكان قد تجلّى ذلك في أعماله المفارقة للعقل والمنطق (عروسان في برج إيفل). أمّا “أنطونان أرطو” فقد حمل المسرح ليتشاكل مع تخوم الأنثروبولوجيا، بالتمرّد على قواعده الفنّية وانفتاحه على زمن البدايات واستقطابه لجملة من الروافد في مسرحه ( مسرح القسوة ) حيث أمكن التحدث عن المسرح الاحتفالي المتأصّل في الطّقوس، والمهدّم للنصّ، والمحوّل للممثّل إلى جسد يحتفل بالجنون، أو بطلا أسطوريا محمّلا بأبعاد كونية أوسع من الزمن والهوية. لقد ذهب “أرطو” إلى نقد الكاثوليكية التي أغرقت المسرح الغربي بالمواضيع السيكولوجية المبتذلة، وفي المقابل أكّد على ضرورة أخذ المعتقدات البدائية بعين الاعتبار كي تتمّ الاستفادة من طقوس هذه الديانات وبنياتها الرّمزية المكثّفة. ومن هنا أمكن التحدّث عن “أرطو المشرقي”، ذلك أنه رأى في الشرق الممكن الوحيد الذي لم تخل سلّته الأنطولوجية من اللاواقعيّ، ولم يكتف بذلك، إنّما أخذ الكثير من تعاليم اللاما وتراث المكسيكيين والفراعنة القدامى والفرس، متقلّبا بين النبوّة والغنوصيّة،ومن هنا كان السلوك المسرحي الذي أراد له، خارجا عن نطاقه العادي، وإنما هو عمل فرجوي قوامه التدرّب على عراك المستحيل وخوض المغامرة في التجريب، ونزوح في اتجاه الغريب والغامض والمدهش، ورغبة ملحّة لا تهدأ إلا بالدّخول في مناخ من التحوّلات القصوى،وما القسوة التي نظّر لها إلا محاولة عنيفة لانبعاث الإنسان من جديد، في شكله العذري الأوّل. إلا أنّ هذا كان مستحيلا في نظره ما لم تتمّ الدعوة لإعادة المسرح إلى جذوره الدينية والأسطورية المرتبطة أساسا بالطقوس والشعائر والمتجلّية في أشكال احتفالية وفرجوية.
في نشأة الهوّوية الثقافية
وجد الآخر، الغربي، ضالّته في الشرق، موطن القوى البدائية. فكان مصدر اهتماماته وملاذه في الخلاص. وهذا الاهتمام، إن كان يعكس موقفا ما، فإنّه ضرورة يبين بأنّ الشرق – هذا العالم النامي كما تمّ وصفه – يحمل مخزونا روحيا لا ينضب، وانه بالرغم من تبعيته المزعومة، يحمل في حضارته ” جينات” ثقافية من الممكن أن تتحوّل إلى قوّة بركانية نشيطة، شريطة الاهتمام بها وتوظيفها، فالمسرح ليس كما يزعم البعض، مجرّد تقنية يتم التأثّر بها واستيرادها. فقد اعترف المسرحي “باربا” Barba ليقول بأن المسرح التقليدي عبارة عن نموذج من أصل أوروبي أو غربي جرى فرضه على الثقافات الأخرى، وهو اعتراف ضمني يكشف ويدين الاستعمار، وبما أنّ قائل هذا القول مسرحي غربي ، فإنّ هذا يجعلنا نقوّض المبدأ القائل بتفوّق الآخر فنّيا، فعامل القوّة له دوره في طمس التجارب المحلّية للشعوب، وهي تجارب مغايرة وفريدة وملهمة، من الممكن النظر إليها على أساس أنّها نطفة للتأسيس خارج دائرة التبعية. فالمسرح العربي له تاريخه وذاكرته، من خلال تعدّد الظواهر التعبيرية والطقوس الاحتفالية وتنوّعها. والحفل لا يمكن أن يكون إلا متعدّدا لأنّه هو منبع الاختلاف الذي يجعل من المسرح لا يتأسس خارج معطياتنا كما رأى المغربي عبد الكريم برشيد، ولكن وللأسف، إن تحديد ضرب من مسرح المثاقفة يعتمد على ارفاد تجارب قديمة من التراث أو حديثة من حقل ثقافي مختلف، لم يمكّن إلا من سيطرة جديدة تختلف في أشكالها عن تلك التي تحدّث باربا، إذ أنّ بعض الأعمال المسرحية جعلتنا ننسى الأصل الذي انتحلته أو اقتبسته ولا نتحكّم إليه إلا من خلال صدى هذه الأعمال، كما إن هناك تجارب أخرى بدعوى العودة إلى تأصيل مسرحنا الخاصّ لم تمثّل سوى سقوطا في تخوم الانطواء الذّاتي مكرّسة بذلك ضربا من الهوّوية، كنموذج للهجنة الثقافية خارج تخوم تناسج السياقات الثقافيّة.
* حاتم التليلي محمودي/ باحث تونسيّ.