الجميل والتفكير الجمالي/ د. منصور نعمان
خلق الله عز وجل الكون والعالم والحياة, بأروع الصور وأجلها وأنقاها وأكثرها أثارة للدهشة,و إبداع بالألوان والأشكال والأحجام والهيئات, ونوع بالأعمار, فتجلت صور هائلة للجمال, في الإنسان والحيوان والطبيعة, فكانت الكائنات البشرية من الأجناس ما يذهل, والحيوانات ما يجعل العقل البشري عاجزا ومفتونا بما خلقه الله, ومن الجماد ما يجعل الطبيعة كنز لا ينضب من العطاء والفتنة والتعدد, ما يصعب على المرء الإلمام بها. لقد صور القدير كل شيء وقرن بالجمال وعد فعل ألهي لا يرقى إليه أحد. لكن,َ الإنسان الفنان, يدأب مجتهدا, بإعادة لملمة الصور الجمالية في الطبيعة, يحاول تفكيكها وإعادة صياغتها من جديد, وبذلك أنجز فعلا معبرا عن ولهه, ودربته, وإمكانياته بخلق نسق جمالي نسميه الجميل, لهذا عدَ الفنان المبدع, خالق لا للجمال وإنما للجميل. فنوَع وأغنى الحياة وأثرها بعد ان أغترف منها ما يزيده قوة وعطاء, وهو يستنطق الجمال ليساهم بخلق الجميل الذي يقرن بالفن.
والسؤال الذي يثار: هل الفن معني ٌبما يداعب الوجدان الإنساني حسب, أم أن الفن قرين الحياة؟ تساؤل يثار لمعرفة الطابع الفني الأكثر التصاقا بالفن, الذي أضحى جزاءً لا يتجزأ من الوجود البشري .
فقد نقف نتأمل لوحة زيتية على سبيل المثال, نتطلع فيها, نفكر بموضوعها, بالألوان, بالأشكال, بالصيغ الفنية التي تم تناول الموضوع فيها, والأبواب التي ممكن ان تثيرها تلك اللوحة التي استوقفت اٍعجابنا, نتأملها, نحاول أن نفهم , نتعمق فيها, نجتهد أن نقرن اللوحة بموضوع آخر, في واحدة من مواقف الحياة, كأن يكون: سياسيا, اجتماعيا, نفسيا, أو عرف وتقليد مازال يحيا في المجتمع. وقد نذهب أبعد من ذلك, فقد تكون اللوحة تعبير عن موقف أكبر, قد تتعلق لونيا بقضايا لم تخطر على بالنا, لكن اللوحة تشحذ الانتباه, وقد توجه انتباهنا لعوالم بعيدة: تاريخية, أسطورية, سياسية, عقائدية ….الخ
المسألة المهمة, هي كيف تدفعنا اللوحة الى التفكير, واسترجاع المطمور من الصور التي مرت علينا عبر الزمن وأختفت, من الطفولة حتى اللحظة, أو من انبثاق الفكر قبل آلاف السنين. فقد نسترجع ثقافات غابات منذ قرون, أو حكايات جداتنا التي عبرت عن طفولة, كان الخيال فيها شرها, فصور السعلية والطنطل , واللصوص الذين امتهنوا الليل للسطو, وقد تكون الأساطير والخرفات مرتكزا, فنعب من عطر المثيولوجي الكثير الذي رسخ أو علق في الذاكرة الجمعية .
إن الصور تترى وتتعاقب وتتفتح, لتشكل عالما متعرجا سابحا في خيالات المتلقي , ومستقرها ومركز انطلاقها, هو تلك اللوحة الفنية.
إن المنجزات الجمالية على اختلافها في المشارب الفنية وتنوعها بالاتجاهات وصياغاتها الأسلوبية, إنما تتقصد خرق المتلقي. والسؤال الآن يتمركز فيما يتم خرقه, أهو خرق وجدان المتلقي أم خرق تفكيره !!؟ ومنه يشتق سؤال آخر هو : الايكفي التفكير في الحياة وشؤونها, حتى يحملنا الفن على التفكير أيضا ؟؟
اليس من حق الانسان أن يريح نفسه وعقله من التفكير؟ أيكون الفن دافعا للتفكير بدلا من أن يكون المداعب والمسلي للأنسان بعد يوم شاق من العمل؟ والسؤال الأشد خطورة و المتعلق بالفن ووظيفته, الذي يقول : اليست وظيفة الفن هي التسلية وجعل الحياة قابلة للعيش؟
إن ذلك يستدعي إضفاء لمسة من الرقة لتدغدغ المشاعر, وتنعش الإنسان في تناسيه للمشكلات الحياتية ولو إلى حين, ليكون الإنسان قادر على مواجهة تلك المشكلات لاحقا. إن ذلك يشكل المنطق المبسط لمفهوم الفن, بعًدهِ فنا تَزينيا, يمكن الاستغناء عنه أو تعويضه. إن ذلك تضيق لمعنى الفن ويجعله في زاوية مميته إن لم تكن ميتة بالفعل, والفن في جوهره ,حرية في التعبير والممارسة , يكتسب حقوقه الفعلية من خلال ما ينشده الفنان في بلوغه من جانب, وما يمكن أن يثيره من محفزات للمشاعر والأفكار, واسترجاع للذاكرة وتنشيط لها في عمق ذات المتلقي من جانب آخر.
إن الفنون عامة تشتغل على غير المنتبه إليه, فتنبهنا : للصور , للألوان , للأشكال , للموضوعات, للعلاقات , للمواقف, للصراع , للأفكار , وأحيانا في بعض الفنون للحوار كما في المسرح والسينما …الخ. إذا أن العوالم التي يتحرك فيها ومن خلالها الفن ليست محدودة, وإنما العكس, إنها عوالم منفتحة, واسعة, وقابلة للانفتاح والأتساع أكثر, بفعل عملية التذوق الجمالي للفن, والاستجابة وتجددها , وكلما كان القارئ الجمالي – المتلقي- بأفق أكبر , ومرجعيات أعمق, وعقل جدلي باحث, اتسعت قوة المتلقي من جهة و جاذبية المنجز الجمالي وتأثيره من جهة أخرى, سواء أكانت لوحة تشكيلية أم قطعة موسيقية أم فيلم سينمائي أم عرض مسرحي أم منحوتة في الهواء الطلق…..الخ
إن إمكانية اتساع نطاق دائرة التأثير الفني والجمالي من خلال المنجز الفني البارع, لا تتوقف على الطابع الفني الفريد والخصائص التي يستند عليها حسب, وإنما على العقل الذي يستقبل, ويحلل , ويفسر , ويؤول , بمعنى آخر ان أي منجز مهما كان بارعا وجميلا وعبقريا بالطرح والمعالجة , باتخاذ الشكل الفني المثير , والصياغة الجمالية البارعة, قد لا يثير, ولا يشكل فارقا لدى المتلقي الذي لا يميز بين الغث والسمين, أسوة بمن لا يميز بين خربشات طفل وخربشات بيكاسو .
إن المتلقي من يضيف المعنى إلى المنجز , وأن ثقافة المتلقي ومرجعياته ستنعكس بهذه الدرجة أو تلك, على صيغة تلقيه للعمل الفني, فغواية العمل الجمالي, إنما تخاطب غير المرئي في المتلقي, وتجره جرا إلى العوالم التي يتطرق إليها أو يتبناها في المنجز الذي يفترض فيه أن يكون ممتلئا, ثريا, قابلا للفهم وإن كان متسما بالغموض., فالغموض أحيانا يكون دافعا سايكولوجيا , للمسك بتلابيب المتلقي .
إن سرية الجميل بوصفه من صنع الإنسان يحمل في طياته سحر بشري , فيه من اللوعة والتسامي , والتجربة الحية والموقف الجمالي , ما يجعل المنجز ذاته مليئا بالكثير , فالفن بحث في الحياة : بوضوحها وغموضها , جمالها وقبحها, وفي المطلق والممكن.
يلاحظ , أن الفنان في عمله إنما يعمل وفي داخل المنجز الجمالي ثمة زاوية تستقطب المتلقي , لنقل أنها بؤرة الاستقطاب, إلا أنها متغيرة من متلقي الى آخر بحسب جملة عوامل وأسباب, سبق التطرق إليها , ذلك لأن مراكز الاستقطاب مختلفة , ومتنوعة , ومتغيرة للمتلقي الواحد , إذ يمكن أن يطلق المتلقي راياً بعمل فني , يكون بالضد منه , و قد يغيره رأيه بعد حين أو سنين .
إن خاصية المفهوم الجمالي تتقبل تغيير الرأي, وإعادة أولويات المنجز الجمالي وبالتالي أعادة تقوميه من جديد, بمعنى أعادة فهمه من جديد, وليس في ذلك ما يعيب, أو يدل على التزلف, بل يمكن أن تكون خاصية الجميل, إنه قابل للتحاور, وفتح باب الجدل الثفافي , فيدخل أبواب التفكير .
إن إعادة تقييم المنجز الجميل, يفتح باب منح الحياة الفنية بعدا مضافا ,بوصف الفن يتجدد, مثلما يتجدد المتلقي في الحياة, من خلال ما يتم تلقيه معرفيا, فيزداد تطورا ونماء, وتبدو خاصية المنجز الجمالي, إنه يفتح حوارا قد لا يتوقف لمجرد الابتعاد عنه, بل قد تكون تلك ميزيته, إنه يسعى من أجل أن يتمركز و يتواجده في صميم عقل المتلقي وإن ابتعد عنه الأخير, ساعات, أو أياما أو شهورا وأحيانا سنيناً.
إن الحوار الدفين بين المنجز الجمالي والمتلقي, قد تبرز للوهلة الأولى وقد تتأخر عن الظهور, إلا بوجود محفز يساهم بإعادة الحوار وتنشيطه بقوة , كأن يحدث أمرا في الحياة , فيعيد للعقل صورة المنجز الجمالي وروعة تناول الفنان إلى الموضوع , فقد تكون بكيفية التطرق إليه لونيا , أو عبر وسائل فنية مستحدثه. إن الحوافز تشكل طابعا مميزا لمتذوقي الفن , الساعيين الى التطور واقتناص اللحظة الجمالية, لأن فيها, إجابة عن تساؤلات من وجهة نظري تعد دفينة .
إن الجميل يجد موقعا في ذات المتلقي وقد يستقر فيه لسنين, ويشكل تأثيرا مباشرا في كيف يرى وينظر إلى العالم والحياة, بمعنى أن الفن وارتقاء الذائقة الجمالية, يساهم بصورة نشطة, بتفعيل دور الإنسان, بخلق المواءمة, والانسجام بين بني البشر , ويفتح أفقا أرحب لفضاء الجميل الذي يزدان به الفن عامة. فالفن والحياة ليسا بقطبين متنافرين , بل العكس كلاهما يرتوي من الآخر ويغذيه, فالجمال والجميل يتفاعلا معا للارتقاء بالإنسان وجعل الحياة أكثر اتساعا, ومن الأجدر أن تعيش بسلام ووئام.