الظواهر المسرحية في العالم العربي (الحلقة الرابعة) / أ.د. سيد علي إسماعيل

** نبيل بهجت وفرقة ومضة:
تحدثنا من قبل عن دعوة سعد الله ونوس لإحياء فن خيال الظل في سورية، كما تحدثنا عن فن القراقوز، ولا نستطيع الاكتفاء بما كتبناه عن هذين الفنين، قبل أن نتحدث عن تجربة الدكتور نبيل بهجت، الذي أحيا الفنين بصورة عملية من خلال فرقته (ومضة)، وتجربة هذا الباحث جديرة بالاهتمام وإلقاء الضوء عليها، لذلك سنتركه يتحدث بنفسه عن هذه التجربة:
يقول الدكتور نبيل بهجت في مقدمة كتابه (الأراجوز المصري) الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة: “لم تكن تجربتي مع الأراجوز وخيال الظل مجرد دراسة أتقدم بها لنيل درجة علمية أو أقدمها للقارئ، بل كانت تجربة حياة بدأت منذ عشر سنوات واستمرت حتى هذه اللحظة، أحيا بها ومعها محاولاً إعادة هذه الفنون إلى الحياة مرة أخرى، لإيماني الشخصي بأن التراث الشعبي أحد مصادر تشكيل الوعي المصري والتأريخ للذاكرة المصرية ….. إن رغبتي في فهم العقلية المصرية ومصادر تكوينها وآليات اتخاذ القرار فيها دفعني للاهتمام بالتراث الشعبي كأحد أهم إبداعاتها، وجاءت هذه التجربة في إطار رصدي للواقع المصري والتحولات التي تطرأ عليه …… ومن ثم كان شعار تجربتي: ( إن لدينا ما يستطيع أن يعبر عنا )، واتخذت (ومضة) اسماً لفرقتي التي أسستها لإحياء هذه الفنون بمعنى: (بريق في الظلام الدامس) لتلفت الأنظار إلى الإمكانيات التي يمتلكها مجتمعنا للنهوض مرة أخرى …… تعتمد بعض الدول على الأفكار والمنتجات التراثية، فسياحة مصارعة الثيران في إسبانيا، والمنتجات اليدوية في الهند تؤكد على أهمية التركيز والاهتمام بـ (اقتصاديات التراث) التي ربما كانت فرقة ومضة إحدى نماذجها التطبيقية التي سعت للاستفادة من التراث اقتصادياً، وخلق فرص عمل للشباب والمحافظة على أساتذة الفن ككنوز بشرية وتوفير مصادر دخل ثابتة لهم ونشر فني الأراجوز وخيال الظل على مستوى محلي ودولي ……… ومن ثم كان علينا أن نسعى لخلق حالة مسرحية من العناصر الشعبية يمكن أن تؤدى في أي مكان وبأقل التجهيزات، تقف بقدم في التراث وبالأخرى في الواقع، وتحمل دلالات متعددة يفهمها كل فرد حسب وعيه.ومن هنا بدأَتْ محاولتي لإحياء فني خيال الظل والأراجوز والعجيب أن جميع الأكاديميين أكدوا لي عند بداية بحثي أن هذه الظواهر انتهت من الوجود، في الوقت الذي مازال حتى كتابة هذه السطور عدد ليس بقليل من لاعبي الأراجوز يطوفون الشوارع حاملين تراث اللعبة معتمدين على المنح التي يتلقونها من الجمهور مصدر رزق لهم. حاولت العثور على أحد اللاعبين الذين شاهدتهم في بلدتي منذ الطفولة إلا أنني فشلت، مما زاد من عزمي، فطفت شوارع القاهرة وموالد مصر حتى عثرت على عدد من اللاعبين، فكان لقائي بشيخ لاعبي الأراجوز (صابر المصري) في مقهى التجارة بشارع محمد علي، كذلك قابلت (صابر شيكو) بمقهى نجيب السواح، و(صلاح المصري) بمولد فاطمة النبوية، و(سمير عبد العظيم)، و(حسن سلطان) بمولد السيدة زينب، و(سيد الأسمر) بمولد النبي بإحدى مناطق الهرم. أما بالنسبة لخيال الظل فلم أعثر إلا على لاعب واحد وهو الراحل (حسن خنوفة) الذي التقيت به قبيل وفاته بثلاثة شهور وقدر لي الله أن سجلت جميع تراثه. ومن الطريف أن أحداً لم يكن يعلم كيف كانت تصنع الأمانة، عدا عم صابر المصري الذي رفض – في البداية – الانضمام إلى الورشة التي قمت بإعدادها وظل يراقبها من بعيد حتى تأكد من صدق محاولاتنا فانضم إلينا وأعطانا كل خبرته، واستمر معنا إلى الآن. والجدير بالملاحظة أن محاولاتي هذه تزامنت مع الغزو الأمريكي للعراق، وهي نفس الظرفية التاريخية التي بدأ فيها (ابن دانيال) تقديم باباته في مصر إبان الغزو التتري للعراق أيضاً، وسعيت لتقديم نمر الأراجوز كما هي دون حذف أو إضافة، واعتمد العرض الأول على نمرتي (حرب اليهود) و(الأراجوز ومراته)، وعدد من لوحات خيال الظل التي تعري السلبية العربية أمام أزمة العراق، واعتمدت على الراوي للربط بين اللوحات المختلفة، وتكرر العرض في أماكن متعددة، حيث قدمت الفرقة 30 ليلة في الافتتاح التجريبي لحديقة الأزهر، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي نقدم فيها عروضنا في أماكن مفتوحة حيث قمنا بتقديم 45 عرضاً في شوارع القاهرة لأبرهن على حيوية هذه الفنون حيث كانت تجذب الجماهير بشكل تلقائي، وهو ما حدث في حديقة الأزهر مع عرضنا الجديد، مما يؤكد على أن هناك شفرة تربط العروض الشعبية بالجماهير تجعلهم حريصين على متابعتها. وشارك العرض في مهرجان (ابن عروس) بتونس، وحصل لاعب الأراجوز صابر المصري على جائزة أفضل ممثل، وحصل العرض على جائزة أفضل عمل للمحافظة على التراث، وأقمنا المهرجان الأول للأراجوز وخيال الظل بالتعاون مع اليونسكو ووزارة الثقافة المصرية في مركز الهناجر، ثم الملتقى الأول للعروسة الشعبية بالتعاون بين الفرقة وصندوق التنمية الثقافية بقصر الأمير طاز والذي قدمنا فيه عرض (أراجوز دوت كوم)، الذي وقف على الكذب السياسي خاصة بعد إعلان (كولن باول) بأن التقارير التي بررت هجوم أمريكا على العراق كانت كاذبة، واستلهم العرض قصة أندرسون (ملابس الأمبراطور الجديدة). ثم بدأ التخطيط بعد ذلك للانتقال بهذا الفن لخطوة أكبر، حيث تم الاتفاق مع مسرح BTE بالولايات المتحدة الأمريكية على إقامة عرض مشترك يجوب الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بعد أن شاهدت المخرجة (لوري ماكانس) أحد عروض الفرقة. وسافر معي من أعضاء الفرقة كل من (علي أبو زيد) و(مصطفى الصباغ) للاشتراك في التمثيل، ووقع اختياري على سيرة (علي الزيبق) الذي يعد رمزاَ للمقاومة الشعبية المشروعة، وعكفت على كتابة العرض الذي ترجم إلى الإنجليزية، وطاف العرض المسارح والجامعات والمدارس وحقق نجاحاً كبيراً. حيث قُدم في مائة وواحد وعشرين ليلة عرض، لأكثر من أربعين ألف مشاهد، وتم تصنيف المشروع كأحد أهم المشاريع الثقافية، وأسست قبل عودتي ركناً للعروسة المصرية ضم 43 عروسة من أعمالي بمركز أطلانطا جورجيا للعرائس، وعادت الفرق
ة من رحلتها وفتحت أبوابها مرة أخرى كمدرسة يدخلها راغبي تعلم هذه الفنون، ويخرج منها وقد اكتسب مهاراتها المختلفة، وقد تلقى المشروع دعماً مباشراً من وزير الثقافة المصري، حيث أصبحت الفرقة جزءًا من صندوق التنمية الثقافية تقدم عروضها من خلاله. وتعتمد العروض على الأراجوز وخيال الظل كلغة أساسية تمتزج بالراوي والغناء الشعبي والرقص الشعبي أحياناً، بهدف الاستفادة من إمكانيات الفرجة الشعبية لتحقيق حالة مسرحية مصرية نجحنا إلى حد كبير في الوصول إليها. وسأعرض في عجالة لبعض التجارب التي قمنا بها. يبدأ عرض (علي الزيبق) بصوت الراوي لتبدأ به الأحداث، ثم تنتقل إلى الشاشة ثم الراوي ثم الأراجوز البشري، ثم الأراجوز الدمية ثم الشاشة ثم الراوي …. وهكذا، ويحدث حوار بين الشاشة ودمية الأراجوز وبين الممثل والشاشة ودمية الأراجوز. وهكذا يتم الانتقال من حدث إلى آخر وتتداخل التقنيات الشعبية لتحقق حالة متكاملة هي “العرض”، ويصمم العرض على أساس إتاحة الفرصة لعناصر الفرجة الشعبية فعرض (أراجوز في مزاد)، يبدأ بعرض لنمر الأراجوز التقليدية كعرض لحياته السابقة، كذلك يستفيد عرض (أحلام ملك) من نمرة (الحانوتي النصاب) حيث يقدمها كاملة داخل العرض، كذلك يقدم عرض (أراجوز دوت كوم) نمرة (الشحات) وتوظف نمر الأراجوز داخل العروض بما يخدم السياق الدرامي، بل إن إحدى نسخ (علي الزيبق) التي قدمتها الفرقة اعتمدت بشكل كامل على نمر الأراجوز. ويبدأ عرض (أراجوز في مزاد) بمزاد على مقتنيات الأراجوز، وعندما يصل البيع إلى عروسة الأراجوز يصرخ ابنه ويبدأ في سرد قصة الأراجوز المناضل وتعرض نمرتين للأراجوز في بداية الأحداث، ثم ننتقل إلى الشاشة ويدور العرض بعد ذلك بين الشاشة والراوي حتى النهاية، ويأتي دور الراوي في هذه المسرحية ليمهد لنقل الأحداث من مكان لآخر، فالراوي هو المسئول عن الربط بين الأحداث وسرد ما يتعذر عرضه فعليه تقع مسئولية بناء حبكة العرض. وتسعى عروضنا إلى بناء جمهور فاعل وهو أحد أولويات العروض الشعبية، وفي هذا الصدد قمنا بعمل تجربة (مسرح الجمهور) والتي شارك فيها خمسون فرداً من القارات الخمس، حيث تم تقسيمهم إلى عشر مجموعات وتم إعطاء كل مجموعة جزءًا من النص المترجم إلى الإنجليزية، وقمنا بتدريبهم على استخدام العرائس وعرض المشاهد وقامت كل مجموعة بأداء الجزء الذي تم تدريبهم عليه لتعود بعد ذلك إلى كراسي الجماهير، وسعت التجربة إلى تحقيق عدد من الأهداف منها المشاركة الفعالة للجمهور – كسر مفاهيم العجز، وتحرير الجمهور من أثر المقاعد، وكسر المألوف في أساليب التعامل مع الجمهور- ومن هنا جاءت استجابات الجمهور بشكل إبداعي. واعتمد عرض (ملك ولا أراجوز) على استجابات الجمهور التي تحدد مجرى العرض، ويبدأ العرض بقمع الجمهور والممثلين وتوجيه اللوم لهم على عدم القدرة على الفعل وتحذيرهم من الحديث أثناء العرض، وتدور الأحداث حول الملك الذي أصابه الملل، وفشلت كل محاولات الترويح عنه، ويعرض عليه وزيره أن يقوم الملك بنفسه بتمثيل بعض الأدوار، وينتقل الملك من حدوتة إلى أخرى بناء على رغبة الجمهور، وتتحدث عروسة الخيال مع الجمهور، وتطلب رأيهم في العديد من الأشياء فلو طلب الجمهور توقف العرض يحدث ذلك فوراً، وتعتمد النهاية على اختيار الجمهور، ويبنى العرض على أساس استنطاق الجمهور الذي تم قمعه منذ البداية. ويحدث الحوار بين الممثل والشاشة، الشاشة والأراجوز، الشاشة والجمهور، الأراجوز والجمهور، كذلك يحرص العرض على مزج تقنيات المسرح الشعبي وإعادة إبداع مفرداته حيث نرى الأراجوز بشراً ودمية خشبية (قفاز) ثم عروسة خيال وهو من شأنه أن يساهم في خلق الإيحاء الذي هو جوهر الأداء التمثيلي في هذه العروض، كذلك فإن تفعيل الجمهور وإشراكه وظيفة أساسية في العروض الشعبية سبقت التجارب العالمية وانطلاقاً من هذا فإننا نطلب من الجمهور إعادة إنتاج ما قدمناه من خلال رسم بعض مناظر العرض، وتمثل الرسومات المختلفة أحد أشكال الاستجابات للعرض. والملاحظ أن البعض يربط العروض بقيم ثقافية وسياسية داخل المجتمع، كما قام البعض الآخر بإعادة إبداع الشخصيات فهو يرسم الشخصيات لا كما قدمناها ولكن كما رآها هو. ومما هو جدير بالذكر إن الفرقة أقامت ما يزيد على 50 ورشة تدريب لتعليم هذا اللون من الفنون في مصر وأمريكا وتونس والأردن، وبالتعاون مع جهات ومراكز ثقافية مختلفة استفاد منها فنانون مصريون وأجانب كذلك شاركت في العديد من المسلسلات التليفزيونية وبعض الأعمال لكبار المخرجين وأنتجت الفرق عدداً من العروض من تأليفي وإخراجي : (أراجوز دوت كوم، أراجوز في مزاد، ملك ولا أراجوز، خلو بالكم، ملاعيب شيحة، عرايسنا، أنا وأخويا على التمساح، علي الزيبق، جحا وحاكم المدينة، الفلاح الفصيح، أحلام ملك، دون كيشوت، حكايات الأراجوز المصري، شعبيات، حكايات شارع المعز، عربية الأراجوز، حكايات كتاب). وأنتجت بالتعاون مع مجموعة من الفنانين الإيطاليين عروض : (جحا المصري وجحا الإيطالي، جحا والحياة، مغامرات جحا، السندباد). وشاركت في العديد من المهرجانات والاحتفاليات الثقافية حول العالم وحصلت على العديد من الجوائز، وحرصاً على توثيق العرائس الشعبية المصرية – والتي لاحظتُ استبدال لاعبي الأراجوز الدمى الأصلية بأخرى بلاستيكية – قمتُ بجمع النماذج الأصلية وأعدتها للحياة مرة أخرى وقمت بعمل ثمانية معارض للعروسة الشعبية ثلاثة منها بأمريكا وواحد بأسطنبول وأربعة في مصر، كما أنتجت عدداً من الأفلام الوث
ائقية لتسجيل تراث هذه الفنون منها (بابات حسن خنوفة) توثيقاً لتراث الراحل (حسن خنوفة)، كذلك 19 فيلماً بعنوان (نمر الأراجوز) لتوثيق نمر الأراجوز لأكثر من لاعب إيماناً مني بأن التوثيق أحد آليات الاستمرار والانتشار. لقد أعطى لي الأراجوز وخيال الظل أكثر مما قدمت لهما، ومن خلال تجربتي أدعو العاملين في حقل المسرح والتراث إلى تحويل معارفهم إلى واقع عملي .. فإنا لدينا ما يستطيع أن يعبر عنا “.
** مسرح التعازي:
يُعد كتاب (الإسلام والمسرح) – للمؤلف التونسي محمد عزيزة، الذي ترجمه من الفرنسية إلى العربية د.رفيق الصبان عام 1971، هو – أهم مرجع لمسرح التعازي! وهذه الحقيقة سيطرت على كافة الكتابات المسرحية، التي تطرقت لهذا المسرح! وعندما بدأت البحث في مسرح التعازي، وجدت أموراً جديدة، سبقت كتاب محمد عزيزة، تتعلق بمسرح التعازي، وتكشف لنا أسراراً خفية لم يتطرق إليها أحد في الأبحاث المنشورة من قبل!
فعلى سبيل المثال، وجدت أن طائفة (الفرس/الإيرانيين) في مصر، كانوا يقيمون احتفالاتهم الشيعية في القاهرة عام 1886، ويمارسون طقوس مسرح التعازي كما تُقام الآن! فقد أخبرتنا جريدة (الحقوق)، التي تصدر في القاهرة بعرض لهذا الاحتفال – أُقيم في تكية الجمالية مروراً بمسجد الحسين وصولاً إلى تكية الحمزاوي – نشرته الجريدة عام 1886، تحت عنوان (الحسن والحسين)، قالت فيه: ” اعتاد مسلمو الفرس في أكثر أماكن وجودهم إحياء الليالي العشر من أول محرم الحرام باجتماعات أخوية وتلاوة أخبار وخطب دينية تذكاراً لمقتل الإمام الحسين بن الإمام علي كرم الله وجه، وفيها يجددون النواح والتأسف على شهيد كربلاء ومن قتل معه من أخوته وأولاده وأحفاده إشارة إلى ما كان عندما أمر يزيد بن معاوية بأن يجهز كل من بقى من نسل الإمام علي من نساء وأطفال ويردوا إلى مكة …… ولكي يجعلوا هذا الاحتفال تاماً يتبرع بعضهم لتشخيص القتلى فإن الإمام الحسين لم يمت إلا بعد ثلاثٍ وثلاثين طعنة رمح وسيف وهكذا من معه من ذوي القربى فيندفع بعضهم إلى عمل حلقات منها حاملة الخناجر يثخنون جباههم والدم يسيل على أجسامهم ومنها رافعات السلاسل الحديدية ونحوها يضربون بها أعضاءهم ومنها عاريات الأوساط العليا يقرعون صدورهم ونحو ذلك مما يذكّر الناظر أنهم يشهدون مشهد كربلاء. ففي هذا المحرم أخذ الإيرانيون بالاجتماع ليلة بعد ليلة في تكيتي الحمزاوي والجمالية يتبادلون عبارات الأسف والأسى على ما كان في تلك الأزمنة الغابرة ويتناوبون الدعوات وعمل المبرات ويتلو خطباؤهم المواعظ والتأبينات إلى أن كانت الليلة العاشرة وهي الليلة الكبرى فاجتمع أكثرهم في تكية الجمالية ومن هناك خرجت حلقاتهم يتبعها المولولون والمتفرجون فمروا بمقام سيدنا الحسين رضي الله عنه حيث أخذ الضجيج والأعوال بارتفاع وأصحاب الحلقات بإتمام ما أخذوا على أنفسهم من العمل فاحتدم الخطب وانكمشت أنفس الناظرين من ذلك المنظر المحزن إلى أن وصلوا إلى تكية الحمزاوي ودخلوها مضرجين بالدماء مكبلين بالحديد والضربات منقطعي الأصوات من شدة الولاول زرق الصدور من كثرة القرع وبعد هنية انسحبت حلقة الدم وبعدها بقية الحلقات وانصرف الناس فوجاً بعد فوج”. (1)
وإن كانت جريدة الحقوق وصفت لنا صورة مسرح التعازي في القاهرة عام 1886، فإن جرجي زيدان وصف لنا هذا المسرح كما حدث في إيران عام 1811، من خلال وصف أحد الرحالة – بإضافات جديدة لم نقرأ عنها – تحت عنوان (التمثيل العربي)، قائلاً: “من قبيل التمثيل الديني كما يفعل الشيعة بتمثيل مقتل الحسين برواية، تبتدئ بيوم خروجه من مكة، وتنتهي ساعة قتله، وهو الفصل الأخير من الرواية، ويسمونه (روز قتل) أي يوم القتل. فهذا الفصل يمثلونه في يوم عاشوراء بحضور الشاه ورجال دولته في ساحة كبيرة، فيشخصون: الحسين، وشمر، والعباس، وجعفر، وزينب، وسكينة، وكلثوم، وأم ليلى، وعمر بن سعد، وغيرهم. وكيفية الواقعة من أول النهار إلى آخره، ومقتل الحسين وأصحابه. ويفعلون ذلك في ساحة ينصبون فيها الخيام عليها شارات الحداد، فيقوم شيخ فيقرأ على الناس حكاية مقتل الحسين بنغم محزن، ولا يكاد يبدأ بالقراءة حتى تهيج عواطف السامعين، فيبكون، ويندبون، وينوحون. فيطوف عليهم شيخ بقطنة يلتقط بها دموعهم ثم يعصرها في قارورة، تحفظ بها للاستشفاء عندما يعزّ الشفاء، وتنفد حيل الأطباء. وقد وصف ذلك الاحتفال العلامة موريه في كتاب له اسمه (الرحلة الثانية إلى فارس)، وهي حفلة عاشوراء، شهدها بنفسه في أصفهان سنة 1811م قال: وفي يوم عاشوراء بعث الشاه إلى السفير يدعوه لحضور الاحتفال (يوم القتل)، فسرنا معه؛ فأجلسونا في خيمة خاصة بنا بالقرب من خيمة جلالته بحيث نشرف على الساحة الكبيرة، فرأينا عند مدخلها جماعة من القاجارية، وهم من قبيلة العائلة المالكة، وقوفاً حفاة على شكل دائرة في وسطها رجل يرنم لهم، وهم يوقعون أنغامه بالقرع على صدورهم. وفي بعض جوانب الساحة مكان مثلوا به كربلاء، وبالقرب منه خيمتان تمثلان معسكر الحسين، الذي كان يقيم فيه مع عائلته. وفي وسط الساحة مرسح من الخشب مغطى بالسجاد لتمثيل الرواية عليه. ولم يبدؤوا بالاحتفال حتى جاء الشاه، وجلس في خيمته. فبدؤوا بالتمثيل، فجاء رجل ضخم عاري الجسم إلا الحقوين، يحمل قناة طولها 30 قدماً مرتكزة في منطقة من جلد حول خصره، وفي أعلاها راية عريضة مكتوب عليها بعض الآيات القرآنية. ثم جاء رجل آخر في مثل ذلك تماماً، وجاء بعده رجل أضخم منهما، وأكثر عرياً، يحمل قربة ماء رمزاً عما قاساه الحسين من العطش في ذلك اليوم. ثم جاؤوا بتابوت عظيم يسمونه (قبر الحسين)، يحمله ثمانية رجال على أكتافهم، وعليه الشيلان الثمينة، وفي صدره أكليل أهليلجي الشكل مكسو بالحجارة الكريمة، وفوقه كوكب من الألماس، يتلألأ كالشمس. وفي جوانب التابوت كثير من الحلي والمجوهرات. وهو مكسو بالشيلان الكشميرية الملوكية، وعلى قمته عمامة، يريدون بها عمامة الحسين. وإلى كل من جانبي التابوت رجلان يحملان علمين، تتدلى منهما الشيلان الثمينة ينتهي العلم من أعلاه بشكل كف مفتوحة رمزاً عن يد الحسين. ثم جاؤوا بأربعة أفراس مسرجة في أثمن ما يكون، وعلى جباهها صفائح من الذهب مرصعة بالألماس، تنعكس عنها الأشعة حتى تبهر الناظرين. وعلى ظهورها شيلان كشميرية وخز مزركش بالذهب، تتدلى إلى جانبها، وفوق السروج أدوات تدل على مقتل الحسين. فلما اجتمع هؤلاء في الساحة، وقفوا صفاً واحداً على حدة، ثم جاء جماعة …. عليهم ملامح البداوة والخشونة، وقد تلطخت أجسامهم بالدماء، وهم ينشدون أنشودة بدوية، ويراد بهم أصحاب الحسين وأهله، الذين قتلوا معه. ثم جاءوا بجواد أبيض عليه جروح عديدة، يمثل الجواد الذي قتل الحسين فوقه. ثم جاء خمسون رجلاً في يد كل منهم قطعتان من الخشب، يضرب إحداهما بالأخرى. فاصطفوا صفاً واحداً أمام الشاه، ثم مشوا مشية منتظمة على توقيع رجل منهم وهم يصفقون. ثم بدؤوا بتمثيل المعركة وكيفية قتل الحسين ورفاقه. وفي نهاية هذا الفصل رأينا الحسين طريحاً على الأرض، وقد وثب رجال يزيد ليقتلوه، فسمعنا أصوات الندب والنواح من سائر أنحاء الساحة، وشاهدنا الدموع تتساقط من أعين الناس، حتى لم يبق أحد لم يبك، وثار بعضهم على القتلة، الذين مثلوا رجال يزيد. فلم يكد يقتل الحسين حتى فرّ هؤلاء وتعقبهم الناس يرمونهم بالحجارة ….. وانتهى هذا الفصل بإحراق كربلاء، وهي أعشاش أقاموها في بعض جوانب الساحة. ثم ظهر قبر الحسين مغشياً بالألوان السوداء، وفوقها جلد نمر محشو يريدون به أسداً يقولون إنه حرس جثته بعد موته. وأفظع ما شاهدناه في هذا الموقف جثث أصحاب الحسين ملقاة ورؤوسها بعيدة عنها، وهو منظر مع كونه تمثيلياً فإن النفس تنقبض منه كثيراً، فالناظر إلى تلك الجثث يرى الأبدان مصفوفة والرؤوس بالقرب منها حتى يخال له إنه يرى حقيقة ….. ثم اختتم التمثيل بخطبة لفظها أحد المشايخ في مدح الحسين ورثائه” (2).
كما نشرت جريدة (السياسة) المصرية عام 1926 معلومات جديدة عن هذا الموضوع، تحت عنوان (المسرح الفارسي – الدرامة الدينية في بلاد العجم)، قائلة: ” إن بلاد فارس حديثة العهد بالدرامه، ومع ذلك فقد كان للتمثيل تأثير عظيم في الشعب الفارسي. وتنحصر الدرامه عندهم في تمثيل مأساة واحدة، هي مصرع الخليفة علي وأهل بيته، التي يحتفل القوم بذكره في شهر محرم من كل عام. والتمثيل في بلاد العجم مصبوغ على وجه الإجمال بصبغة دينية. فإذا ما انتاب المرض أحد وجهاء الفرس، استعان بجوقة تمثيلية على تمثيل مأساة دينية أو على الأقل نذر بأن يقوم بذلك في أقرب وقت. وكثيراً ما يقف المتدينون من الفرس الأموال الطائلة على التمثيل، وقد يتبارى كبار أغنيائهم بإهداء التحف والهدايا الفاخرة إلى القائمين بأمر التمثيل، وقد بلغت الحماسة من بعضهم أنه تعهد بتقديم المشروبات المبردة لجميع الذين يشهدون التمثيل في يوم مصرع الحسين وأصحابه، الذين توفوا من العطش في صحراء كربلاء. وأوصى رجل من الأغنياء بمال ينفق ريعه في شراء العطور لينفح بها الذين يحضرون التمثيل ….. والواقع أن المسرح كان أحسن وسيلة استعان بها الفرس للإعراب عن عواطفهم الوطنية، وما يجول في صدورهم ……. ويقام التمثيل الديني في التكايا في كل يوم من أيام شهر محرم. وقد يقام أيضاً في الخلاء. أما المسرح فهو عادة مصطبة مرتفعة قليلاً، تنحدر انحداراً تدريجياً إلى الأرض من جميع جوانبها. ويقف عليها الممثلون طول مدة الرواية. وتُكسى المصطبة بالسجادات العجمية الفاخرة، وتُزين بالمرائي والمصابيح .. والنساء لا يظهرن بين الممثلين بل ينوب عنهن أحداث يشبهون بوجوههم وأصواتهم الفتيات، ويتقاضون أجوراً عالية. ولعل أغرب ما يجده المرء في المسرح الفارسي أن الممثلين يقرأون أدوارهم قراءة، ومدير المسرح واقف أمامهم بعصا صغيرة يُشير إلى كل منهم، عندما يبدأ دوره أن يتقدم لتلاوته، ويساعده على قراءة ما قد يشكل عليه. وفي أثناء ذلك تُدار المرطبات على الممثلين كما يفعل القوم في الصين. وقد تجد على المسرح بعض أفراد من النظام ممن لا علاقة لهم بالممثلين على الأخلاق لكنهم يستفزون حماسة الجمهور بتصفيقهم. وقد يلقى أحدهم خطبة في مصرع الحسن والحسين مما لا محل للإسهاب فيه هنا. وكثيراً ما تثير تلك الخطبة أشجان الحاضرين فيبكون وينتحبون، وتقوم بين القوم ضجة عظيمة. ومنهم من يمزق ثيابه، ويحثون التراب على رؤسهم لشدة ما يصيبهم من الحزن عند سماعهم مأساة الحسن والحسين. وأغلب ما تكون هذه الخطبة في أول التمثيل أو قبله” (3).
 
** الهواميـش:
(1): – مجلة الحقوق – عدد 33 – 16/10/1886 – ص (279).
(2): – جرجي زيدان – التمثيل العربي – مجلة الهلال – السنة 14 – 1905 و1906 – ص(141، و142).
(3): – جريدة (السياسة) – 5/12/1926
 
* أ.د. سيد علي إسماعيل / قسم اللغة العربية – كلية الآداب – جامعة حلوان
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت