مسرحية «العنف» للفاضل الجعايبي وجليلة بكّار/ لطفي العربي السنوسي
كتابة متشفيّة..ترجم الناس بقبحهم..وتنكّل بهم
عن: الصحافة اليوم
لا يستقيم الحديث عن مسرحية «العنف» للفاضل الجعايبي وجليلة بكّار دون العود إلى علامات من التجربة… فهي (أي مسرحية العنف) الباب الخلفي للتجربة أو هي الباب المتروك الذي تردّد أمامه الجعايبي طويلا ولم يفتحه حتى لا تخرج الرائحة فتخنقنا… وقد ترك الجعايبي مفتاح الباب في مكان ما من التجربة فتجلّت نصّا سحيقا بطول المأساة البشرية وعرضها.
نصّ يحفر بتوتّر وبعمق في الآن والهنا… في نفس الجغرافيا وفي ذات التاريخ وفي ميثيولوجيا اليومي القصيّ تأصيلا لكيان عميق من صلصال بشري يعجنه ثم ينكّل به بشماتة وبجنون… هي كتابة تعبث بمادّتها وتهزّها إلى الأماكن السحيقة تلك التي نخشى الاقتراب منها بل نخشى أن نطلق ما في كوامنها من أمراض فنتحوّل إلى وحوش أو مصّاصي دماء… أو آكلي لحوم البشر وهي نيّئة…
كتابة متشفية في واقعها تقوله بصوت عال بلا تجميل وبلا تخفّ، تدفعك إلى الاختناق والتقيّئ… وفي اللحظة التي تقرّر فيها مغادرة المكان (فضاء العرض) لتجنّب الغثيان، ثمّة شيء يشدّك بقوّة ولا يتركك تغادر… نحن مرضى ولا شكّ… ويبدو أنّ الجعايبي مريض حقيقي ـ كذلك ـ ومن المستجعل عرضه على الطبّ النفسي السريري علّه يبرأ… وعلّنا نبرأ ـ أيضا ـ من مرض التلذّذ والاستمتاع بالمشاهدة المكرّرة للجريمة وهي ماثلة أمامنا …لقد نكّل بنا الجعايبي كمتلقين وكان مستمتعا بذلك استمتاعا مرضيا عظيما ـ ولا شكّ ـ.
الخراب حدث من زمان وقد استوى فيه الجنون بالعقل… انتهى الدرس في «فاميليا» حيث كان التداعي عظيما… وفي «جنون» لا معنى للذات البشرية.. و«أبناء المقهى المهجور» في الهوامش… ضاعوا أو سقطوا أو قتلوا هنا أو هناك في البؤر المتعفّنة… في «يحيى يعيش» تمّ إتلاف الذاكرة تماما… إلى حين «تسونامي» الذي هز المباني والمعاني ولم يبق على شيء … شعبا وعشبا… ينهض «بودا» من بعيد حاملا رأسه بين يديه ويصرخ صرخته الموجعة فيتردد دويّها في مسرحية «العنف» حيث كل البقايا أو كل ما تبقى من هياكل عظمية وكل ما هو متروك من «فاميليا» ومن «خمسون» ومن «جنون» ومن «عشاق المقهى المهجور» ومن «يحيى يعيش» وكانوا محبطين في «تسونامي» ما بعد الثورة ثم التقيناهم في مسرحية «العنف» مدمرين تماما بلا رائحة وبلا طعم بشري بعدما أهلكهم «تسونامي» فحوّلهم إلى قتلة ومقتولين بذاكرة معطلة يلفها «غبار» النسيان…
في مسرحية «تسونامي» خرج الجمهور بما في ذلك «الجمهور العليم» مخذولا من التجربة وتردد بعد العرض اجماع بأن المسرحية «ضعيفة» ونصها متواضع وفضاؤها اعتباطي بدلالات سطحية مريحة وأن الجعايبي بذلك وفي كل ذلك قد سقط في الاستسهال ولم يكن جادّا في مقاربته لما حدث في «الثورة» وما بعدها…
والواقع الذي لم ينتبه إليه هذا «الجمهور العليم» من مثقفين ونقاد وصحفيين ومسرحيين هو أن الجعايبي في مسرحية «تسونامي» لم يكتب نصا ولم يرو حكاية بل هو اكتفى بـ «نصّ الثورة» أي مقولاتها وشعاراتها ثم أعاد «البضاعة» إلى جمهور الثوار وقد مرر بذلك رسالة مكثفة مفادها أن نص الثورة وشعاراتها كانا ضعيفين وأن الثورة لم تنتج أي معنى إنساني وأن مطالبها كانت صغيرة، وها هي ثورتكم بنصوصها أردها إليكم علانية وتحت ضوء المسرح تماما كما هي عارية.
تفاجأ جمهور «الحماسة الثورية» بضعف نصه (في تسونامي) الذي لم يكتبه الجعايبي في الواقع.. تفاجأ تماما كذاك الذي يتغزل بجماله صباحا مساء ثم يتفاجأ ببشاعة خلقته في تلك اللحظة التي يقف فيها أمام واجهة بلورية تعرض أحذية المهرّجين.
لماذا قتلتم المرأة التي أكلت أبناءها، هكذا تتكلم جليلة بكار من عزلتها أو من حبسها وهي تخاطب بانكسار فاطمة سعيدان… ترفض مغادرة حبسها بعد العفو التشريعي العام وتسأل عن تلك «النافذة المهشمة» بالمسرح البلدي بمدخل الفنانين وهل تم إصلاحها… لا شيء تبدل في إشارة إلى خيبة أهل الفن والثقافة في بلاد «الطرارني» وفي الرواية ثورة ريادية عجيبة … وقبل ذلك كانت جليلة قد التهمت «وردة حمراء» ثم بصقتها في المكان (لقد ضاقت الرؤيا واختنقت العبارة) حيث يحلق «السنونو» (الخطاف) وحيدا وهو يصنع «ربيعا» دمويا شرها متعفنا سميناه «الربيع العربي» على سبيل الطرافة، لقد أكلت الثورة أبناءها وأسدل الستار على المهزلة..
لم هي نتنة رائحة الياسمين وهو يوشح رقبة «الثورة».. تقتحم لبنى مليكة مكانا فجائعيّا فتكاد تختنق بالرائحة، لقد ذبل الياسمين وفاحت رائحته الكريهة، رائحة الدم المهدور اعتباطا في سبيل اللاشيء.. هكذا بلا معنى تداس الذات البشرية ونأكل لحمها نيئا طريا ونقيم لها طقسا ونصنع من الجثة «عطرا» أو شرابا نشربه معتّقا فنسكر… هل كان باتريك سوسكيند متواطئا مع القتلة حتى يصنع ذاك العطر بتلك الرائحة المقطرة من الجسد الأنثوي الطري.. نعيد اللعبة (الجريمة) ونكررها فنتعود عليها إلى أن تتحول إلى خبر يومي عابر وعادي غير مثير للشفقة أو الاشمئزاز بل مجرّد عنوان على الصحف الصفراء يتصدر صفحات التسلية اليومية لكأنه كلمات متقاطعة.
تتغذى البلاد من الجريمة الإعتباطية.. جريمة لا مبرر لها ولا أسباب غير هذا الاشتهاء الحيواني للقتل بالدم البارد.. وثمّة أصوات غامضة وخافتة لكأنها همسات تجيء أو هي تتسرّب من حانة «غاري بلدي» المجاورة لفضاء العرض المسرحي بدت ـ لنا ـ لكأنّها الخلفية الصوتية للعرض أو هي روايته الحقيقية حيث الخبر اليومي على ألسنة «السكارى» يجري بصمت قبل أن يتلقفه الرقيب فيعيد صياغته وفق «شروطه» حتى لا يتعكّر المزاج العام.. كان «بار غاري بلدي» يغلي بـ«جمهور السكارى» ـ ضحكات وحكايا ـ ولا ندري إن كان الجعايبي (مؤلف العرض) قد انتبه إلى هذه الأصوات التي تسرّبت إلى العرض وفرضت نفسها كخلفية لا تكاد ترى أو تسمع لخفّتها وخجلها من أن تشوّش على «العنف» الذي أحكم الجعايبي محاصرته داخل فضاء مغلق على إيقاع موسيقي لكأنها عجينة حيّة تخرج طيّعة من الأرواح الملقاة على المسرح من خيبتها ومن تردّيها.. نزعت موسيقى العرض نزوعا ملحميا لكأنّه طقس موت تابع رواية الانحطاط البشري في سحيقها العميق. الجعايبي أحكم إغلاق فضاء العرض فلا أحد يجيء ولا أحد يغادر ولا أحد يمضي… نحن (متلقون وممثلون) في انتظار اللاشيء.. و«غودو» لن يجيء أبدا… فلا خلاص.. حيث الشخصيات تبحث عن مؤلف حقيقي ليصوغ مأساتها، جليلة بكار، فاطمة سعيدان، نعمان حمدة، لبنى مليكة، قتلة أو مقتولين … اللعبة هنا بين الشخص والشخصية… ولا ندري أيهما شاهد الزور وخاصة في لحظات التداخل العميقة بينهما، وثمّة لحظات يتكسّر فيها نظام العرض فنتحول نحن كمتلقين إلى جزء من العرض حيث الأنفاس مشدودة ومتوترة بمشاعر غامضة وغاضبة فنحقد على المخرج وعلى المؤلف وعلى الممثلين فنندفع للخروج هربا من كل هذا العري.. ولا نخرج.. لقد تمكّن منا «العنف» فلا مهرب ولا خلاص..
لم يفتتح الجعايبي فضاء العرض ـ لا المبنى ولا المعنى ـ على قضايا من خارج هذه البيئة الاجتماعية المخصوصة المسماة بلادا تونسية بل هو تغذى كـ«مصّاص دماء» من المهزلة التي ينتمي إليها بالضرورة، مهزلته التونسية ما بعد ثورتها الريادية ومن صميم يومها المقتول على العواهن.. واكتفى بذلك وتوغل فيه عميقا بما لا يطاق وبما لا تحتمله الذات البشرية.
كان بإمكان الجعايبي ورفيقته جليلة بكار أن يقولا «العنف» بأكثر جمالية وبأقل قبح وبأقل عراء وأن ينزعا نحو الدلالة والترميز داخل فضاء العرض ولهما الإمكانيات الفنية والذهنية ودرجة كبيرة من الوعي تؤهلهما لذلك إلا أنهما اختارا الكتابة المتشفية في واقعها، تلك التي تعبث بالعجين البشري وتُنكّل به وترجم الناس بقبحهم وتدفعهم إلى تلك المرآة المقعرة حتى يروا وجوههم ـ حقيقتها ـ على الواجهة البلورية التي تعرض أحذية المهرجين..
الآن سأغادر هذا «المقال» وسأعمل على نسيان مسرحية «العنف» حتى لا يستمرّ الاختناق الذي رافقنا منذ غادرنا صالة العرض… كم نحن مرضى…