السينما الأرجنتينية على ضفاف النيل (الجزء 2) / د. حسن عطية
ومازال الماضي يطارد الحاضر
تشير الأفلام الأربعة التي بدأنا قراءتها في مقالنا السابق كعينة من سينما أمريكا اللاتينية المشاركة في مهرجان القاهرة السينمائي ، وكان للأرجنتين ضلع إنتاجي وإبداعي قوى فيها ، تشير لهذا الاهتمام البادي على شاشاتها بالماضي المأسوي المطارد لأبطالها، فالعاملة الريفية “ماريا” طاردها ماضيها في (امرأة الطين) فواجهته بتعريته وقتلت نفسها، والناشطة السياسية المدنية “بولينا” في (العصابة) واجهت أفكارها النظرية الماضوية بالتردد أمام الأوضاع العملية الراهنة فلم تفلح في اتخاذ القرار، ويضيف الفيلمان التاليان أبعادا جديدة لهذا الماضي المطارد لعقل المجتمع وشخصياته، طارحا موضوع الحوار الدائر اليوم بين المصالحة مع هذا الماضي الجاثم على أفئدة الحاضر، أو اتخاذ موقف ثوري منه بالقطيعة الراديكالية معه والنظر للأمام دون غضب.
فيلمنا الثالث هنا (ماجلان) – أو ما “ماجيانس” كما ينطق في لغة البلاد الأسبانية – وهو العمل الأول للممثل المسرحي والسينمائي والتليفزيون والمخرج البيرواني “سلبادور دل سولار”، وتدور أحداثه في ليما عاصمة بيرو وبلهجة أهلها، مما يميل بالفيلم ليكون فيلما بيروانيا خالصا، وأن شاركت الأرجنتين وكولومبيا وأسبانيا في إنتاجه، وجسد أحد أبرز أبطال الفيلم ممثل أرجنتيني شهير، والفيلم مستوحى من رواية (الراكبة) للكاتب البيرواني أيضا “الونسو كويتو”، وحاز على جائزة (سينما تحت الإنشاء) التي تتسابق عبرها أفلام أمريكا اللاتينية الجديدة كقسم موازى للمسابقة الرسمية في مهرجان سان سباستيان الدولي 2014 (أفضل ترجمتها سينما تتقدم بدلا من ترجمتها الحرفية السابقة)، كما فاز في أغسطس الماضي بجائزة العمل الأول في مهرجان ليما السينمائي، فضلا عن العديد من الجوائز في مهرجان سينما أمريكا اللاتينية بمدينة (أويلبا) الأسبانية، وهو يعتمد على حبكة تشويقية يطارد رجل في نصف الفيلم الأول امرأة أربعينية يختفي ماضيهما المشترك خلف لعبة المطاردة هذه، وينشغل نصف الفيلم الثاني بعملية ابتزاز وخطف قام بها هذا الرجل لرئيسه السابق ومخدومه الحالي بهدف مساعدة المرأة، مستعيدا ماضي الشخصيات الثلاث المأسوي داخل لحظة زمنية دموية تورط المجتمع وقتها في حرب شعبية شديدة المأسوية .
ينطلق الفيلم من موقف عارض بسيط، تركب فيه امرأة تاكسي يقوده الرجل، ليكتشفا أنهما كان يعرفان بعضهما البعض منذ أكثر من عشرين عاما، وأن ثالثا كان مفجر العلاقة القديمة بينهما، وهو كولونيل قاس، متقاعد اليوم ومقعد يتحرك على كرسي متحرك ويعانى من الخرف، تولى منذ ربع قرن قيادة أحد فيالق الجيش البيرواني في المعارك الشعبية المسلحة بمدينة (اياكوتشو) بجنوب البلاد ضد قوات حزب (الدرب المضئ) الشيوعي في المدينة، والمشعل وقتها كفاحا مسلحا من أجل إقامة دولة شيوعية ماوية الفكر في البلاد، ورغم سعى الكولونيل منذ تقاعده لاستعادة الاندماج في المجتمع المدني، والعمل على نسيان عذابات الحرب القديمة، والأعمال الوحشية الجاثمة على صدره وبعقله لمشاركته فيها، فأن الماضي لا يتركه يهنأ بحاضره الجديد، حيث تظهر “ثيلينا” ضحية قسوته القديمة، ومجسدة للضحايا الممزقات بين الإساءة والنسيان، والمنساقة في رحلة بحث مستحيلة لعدم النظر للماضي، والاكتفاء بحياتها كامرأة وحيدة مثقلة بالألم ومتعلقة بأمل نسيان ماضيها المؤلم، أو على الأقل لا تجبر على تذكره، رغم علامات التعذيب الجسدي الماثلة على جسدها والتي تذكرها دوما به، غير أن ركوبها صدفة سيارة التاكسي التي يقودها “ماجيانس” وتعرفه عليها، يعيد إليها وإلى السائق وإلى الجنرال أحداث الماضي الأليمة، وكلما هربت منه، يعاود المطاردة لها من خلال إصرار “ماجيانس” على مساعدتها، في الوقت الذي يمتثل فيه للعمل مقهورا سائقا لقائده الكولونيل، والذي يبدو منذ البداية أن ثمة أمرا ما مضمرا بينهما، سر يبدأ في التكشف مع تفجر الحدث الدرامي بلقاء السائق وامرأة الماضي، فهو خاطف الفتاة عندما كان جنديا بالجيش، ومسلما إياها لقائده يمارس عليها ساديته، كما سيبدو أن ثمة عاطفة ما تربطه بالفتاة “ثيلينا” تمتزج برغبة دفينة في التطهر مما فعله في الماضي، والخلاص من عقدة الذنب المستقرة بأعماقه، والتي شكلت بأعماقه عاطفة حب تجاه الفتاة المقهورة .
تتأجج عقدة الذنب داخله، ممتزجة بعاطفة الحب تجاه الفتاة، مع معرفته بأحوالها الراهنة، فهي تعيش بالكاد بالعمل الشاق في محل لتصفيف الشعر، وتعانى من عدم قدرتها على تسديد القروض المالية المجبرة على اقتراضها كي تعيش، فيجدها “ماجيانس” فرصة لتسديد ديونها المعنوية لها، بالتآمر على رئيسه السابق واختطافه وطلب فدية ليمنحها إياها، بينما هي ترفض مساعدته، فالألم قد تأسس داخلها، ومن الصعب إزالة الماضي بمال الحاضر.
* الحريق:
تقدم لنا الأرجنتين فيلمها الرابع في المهرجان، مكتفية بإنتاجها وحدها له، وهو فيلم (النار) وأفضل ترجمته بـ (الحريق)، وهو أول أفلام المخرج “خوان شنتمان” الروائية الطويلة، حيث شارك قبل ذلك في إخراج أجزاء من أفلام روائية مع آخرين، ويبدو الصراع في بداية فيلمه الحالي مجرد صراع مندلع بين عاشقين داخل الغرف المغلقة، إلا أن المجتمع سيظل محيطا بهما، والماضي مؤثرا عليهما منذ اللحظة الأولى، فالمدرس الشاب “مارثيلو” وعاملة المطعم “لوثيا” قد قررا أخيرا شراء مسكن راق يحتويهما ويعيشان حياتهما الراهنة باستقرار فيه، وينتقلان به لوضع اجتماعي متميز لرفاهية السكن الجديد وموقعه في الحي البورجوازي، متغافلين عن مشاق الماضي ووضاعة حياتهما فيه .
وها هما يستيقظان صباحا للذهاب إلى البائع لدفع مائة ألف دولار ثمنا للمسكن الذي اختاراه، وهو أول مسكن يمتلكانه في حياتهما، غير أن البائع يتصل بهما ليؤجل التعاقد لليوم التالي، فيقعان في حيرة أمام هذا المبلغ الضخم الذي لم يحلما به من قبل، ويختلفان حول كيفية إخفاءه عن أعين اللصوص المنتشرين في الشوارع، ويبدأ التوتر يسرى داخلهما، فيخفيان جزءا كبيرا منه في حقيبة يدساها مع المخلفات في غرفة الكرار، ويلفان بقية المال حول وسطيهما، فخارج غرفتهما مخيف والمجتمع غير آمن والدولارات الأمريكية أكثر إغراء من البيزو العملة الوطنية.
أربع وعشرون ساعة معلقة بين ماض غير مستقر ومستقبل يأملان في أن يكون مختلفا داخل مسكن مملوك لهما، ومجتمع محيط بهما خارج غرفتهما ضاغط عليهما، خوفا من فقد المال الذي دفعه لهما والد “لوثيا”، مما يجعل هذا المال محور حديثهما وحركتهما، ومفجر الماضي أمام أعينهما، فالمدرس البسيط غير راض عن تحمل والد فتاته قيمة السكن الذي سيستقران به، وأن راتبه كمدرس لا يمنحه الفرصة لجمع هذا المبلغ، ولا الصرف على حياة فتاته، بينما ترى هي أن الأمر بسيط، كما لا يمكن التراجع عنه، وهما مضطران لقبوله لأن شراء مسكن ملائم في العاصمة الأرجنتينية، كما لدينا في القاهرة، مرتفع الثمن بصورة مخيفة، مما يزيد من حدة التوتر بينهما، خاصة مع خروجهما للعمل، فيتصادم هو في المدرسة مع والد تلميذ أتهمه بضربه، وتتشابك هي مع صاحب المطعم الذي تعمل به، فيزداد توترهما حين يعودان لمسكنهما المستأجر، ليعاودا قراءة علاقتهما التي تبدو شديدة التعقيد، حيث يبدو رفضه القديم لسلوكها الحاد معه متداخلا مع حبه الدائم لروحها، ويمتزج عشقها له بكراهيتها لشخصيته الضعيفة في المدرسة، والتي تعرضه لمشاكل كثيرة في الحياة معها، ويتبادلان الحب والعنف الجسدي واللفظي في مشاهد متوالية، كاشفين عن مجتمع عصابي على وشك الانفجار، وتكوين نفسي أسس في الماضي، لن يحل بمجرد تغيير المسكن المتواضع القديم لمسكن بورجوازي حديث ومملوك لهما بمال الغير؛ والد الزوجة الذي هيمن بماله على حياة الزوج السابقة واللاحقة معا.
الضغط داخل أماكن مغلقة، أختارها المخرج بعناية شديدة، وحصر شخصياته في كادرات متوسطة وغالبة مقربة، تكشف عن هشاشة وتشقق النسيج الاجتماعي والعاطفي بين الأجيال الجديدة، والذي يجعل كل زوج من الشباب غير قادر على التصدي لعنف المجتمع، فينقله بسهولة للعلاقة الوجدانية بينهما التي سرعان ما تنتهي بالفشل، حيث أن الاستقرار الحقيقي ليس داخل المسكن البورجوازي المرفه بل داخل كل زوج من الشباب، وأن عنف الخارج يتطلب مواجهته معا وليس نقله للحياة الزوجية.
يمكننا في النهاية الخروج من القراءة السابقة لعينة من أفلام أمريكا اللاتينية، وفرها لنا مهرجان القاهرة السينمائي، مدعومة بمعرفة بعالم أمريكا اللاتينية، أن نشير إلى مشابهة قضايا وهموم هذا المجتمع المعبرة عنه أفلامه لقضايانا وهموم مجتمعنا التي تعبر عنه أفلام مخرجينا الجادة، وليس التجارية الهشة، مما يدعونا لضرورة دعم وجود هذه السينما على شاشاتنا، والعمل على نشرها أمام جمهورنا الذي عودناه فقط على سينما الأكشن الأمريكية شمالية، وسينما الميلودراما الاستعراضية الهندية المبهرة، وقد كانت لنا فرصة ذهبية سابقة أهدرناها، حينما فتح لنا منذ ربع قرن المنتج والمخرج المكسيكي الشهير “أرتورو ريبستين” عالم أمريكا اللاتينية بإنتاجه لفيلمينعن روايات “نجيب محفوظ” هما (بداية ونهاية) الذي أخرجه بنفسه و(زقاق المدق) أو (زقاق المعجزات) كما عرض من إخراج “خورخي فونس”، تمت المحافظة فيهما على وقائع الروايتين الأساسية، والإشارة في تتراتهما لأسم كاتبنا الكبير، ونجحا نجاحا مذهلا في أسواق ومهرجانات أمريكا اللاتينية وأوربا، ومع ذلك فلم يفكر أحدا من منتجينا الاتفاق مع “ريبستين” على إنتاج أفلام مشتركة عن روايات أخري ل”محفوظ” بعد (مكسكتها) أو روايات للمكسيكى”خوان رولفو” بعد (تمصيرها) ، تفتح لنا أسواقا جديدة وربما أنتاجا مشتركا بديلا عن عجزنا عن تحقيق إنتاج مشترك مع دول تنطق العربية مثلنا .