الحكاية إنسانية .. والصياغات مجتمعية/ د. عايدة علام

سندريللا وتناسج الثقافات
تسعى دراسات النقد المقارن لدراسة طبيعة وحجم التأثيرات بين الآداب من منظور تاريخي واجتماعي، وتهتم في أحد أوجهها برصد التغيرات البنائية والمضمونية التي تحدث في الصيغ التعبيرية الأدبية، عندما تنتقل من مجتمع لآخر، ومن زمن لزمن لاحق، مما ينتج عنه صيغا جديدة تحمل دلالات مغايرة تتعلق بسياقها المجتمعي والزمني المنتقلة منه وإليه، وعليه يهتم هذا النقد برصد ما يطرأ على بنيات ورسائل الصيغ الأدبية، عندما تنتقل لصيغ مختلفة، بين مجتمعات وأزمنة متعددة أو داخل المجتمع الواحد، مما يؤدى لاهتمام الدراسة النقدية المقارنة برصد أواصر التشابه والاختلاف بين الصيغ الفنية الأصلية المنتقلة إليها، واضعة نصب عينيها السياقات المجتمعية التي تحكم كل شعب في رؤيته للفن والمجتمع والعالم، والتوقف بالتالي عند المشترك (الإنساني) بين المجتمعات وثقافاتها المختلفة، والمختلف (الاجتماعي) بينها والذي يمنح ثقافة كل مجتمع هويتها الخاصة. كما يوجهه لدراسة قوة تأثير المصدر على المنتقل إليه، مما يكشف أمامه حجم تأثير أدب مجتمع ما على أدب مجتمع آخر .
تتخذ دراستنا هنا من حكاية (سندريللا) الشهيرة عالميا عينة بحثية لدراسة حجم التغيرات التي تحدث على الحكاية عندما يستلهم مادتها كاتب من مجتمع آخر، ليقدمها لجمهوره في زمن مختلف، معبرا عن مجتمعه بالضرورة، وعن رؤيته هو الخاصة لهذا المجتمع في لحظته الراهنة، وحريصا على أن يقدم له رسالته الأخلاقية أو الاجتماعية أو السياسية عبر هذه الحكاية القابلة لحمل رسائل عدة .
وكما هو متعارف فإن حكاية سندريللا انتقلت من المجتمع المصري القديم، عبر تلاقح الحضارات والثقافات، إلي اليونان فالرومان فأوروبا الحديثة، واشتهرت بشدة بعد أن جمعها ونشرها الأخوين جريم في مجمل حكاياتهما المعروفة، ومن بعدهما وجدناها تظهر بصيغ مختلفة في فرنسا وأسبانيا وإيطاليا، كما عبرت المتوسط لتعود مرة أخرى إلى مصر والعراق، في صيغ ذات بنيات خاصة ورسائل معينة، وهو ما سنعمل هنا على رصده من خلال نص مسرحي للكاتب المصري مجدي  فرج وآخر للكاتب العراقي منصور نعمان، في محاولة للبحث عن المشترك الإنساني الكامن في مادة هذه الحكاية، والمختلف الاجتماعي والثقافي البادي والمضمر في الأبنية الدرامية المصاغ بها هذين النصين .
يدخلنا ذلك لعالم (تناسج الثقافات) الجديد، وما يستتبعه من (تفاعل فنون الفرجة المسرحية)، وذلك حينما تأخذ ثقافة ما حكاية أو أسطورة من ثقافة أخرى لتنسج خيوط بنيتها المستلهمة مع خيوط بنية الثقافة الأصل، مما يخلق بنية جديدة تتطلب أولا حسن النسج بحيث لا تبدو الخيوط المستلهمة مع الخيوط الأصلية في حالة تنافر، كما تتطلب خضوع النسيج الجديد لمعطيات واقع الثقافة الأصلي المجتمعي وذائقة جمهوره، حتى في حالة الاختلاف مع بعض الأعراف القائمة .
وهذا ما يتجلي في استيراد الثقافة العربية لحكاية سندريللا الشهيرة في المجتمع الأوروبي، وأن رأت بعض الدراسات أن هذه القصة مصرية المنشأ، ومأخوذة عن قصة (رادوبي) المذكورة في برديات “شسترى” الفرعونية الموجودة حاليا بالمتحف البريطاني، غير أن بنية القصة المستوردة ونسيجها صيغت بعقلية أوروبية، واتساقا مع مجتمع له ثقافته الخاصة .
وبما أن المسرح يعد، في أحد أوجهه، وسيطا جماليا تربويا وتثقيفيا وترفيهيا يلعب دوره الهام بين تلاميذ المدارس وطلاب الجامعة، في مراحل عمرية شديدة الأهمية، لما تحمله من أحلام سابحة خارج الأطر التقليدية، ومشاعر تمرد على كل المحددات الواقعية والنظم التي تقيد الطائر المنطلق وتعوق انطلاقه في الفضاء، يهتم بنماذج من الموروثات الحكائية الخرافية Fairy Tales المعروفة والمعاد دوما صياغتها جماليا في رحابه وغيره من وسائل الاتصال الجماهيري وفنون الآداب المختلفة، نموذج تمتزج فيه الواقعية بالخرافة، والحقيقة بالأحلام، وتسبح في فضائه الجان مساعدة أو معوقة لحركة البشر، ومنها نموذج حكاية سندريللا الإنسانية الشهيرة، الذي نقاربه هنا للتعرف على كيفية توظيفه مسرحيا بحيث يؤدى لعزلة الفرد عن مجتمعه، أو تبنيه لقيم سلبية تشل قدراته العقلية عن النضج، أو تدفعه لمزيد من الوعي بطاقاته العقلية وكيفية استثماره لما يمتلكه من قدرات إنسانية رفيعة المستوى.
تشير المعلومات المتواترة إلى ظهور قصة سندريللا أو ذات الحذاء الزجاجي أو فتاة الرماد، في العصور الوسطى بمناطق الأوروأسيوية، بحثا عن الخلاص من الفقر والفاقة والمعاملة السيئة من الأثرياء، باعتماد الجمال وسيلة للصعود الاجتماعي والفكاك من أسر الفاقة، وكذلك بصدور أمر ملكي بأحقية فتيات البلد في الزواج بأميرها وملكها القادم، وهو حلم عبرت عنه القصة الفولكلورية، الدائرة وقائعها حول الفتاة سندريللا التي تعيش في ظروف صعبة تنقلب حياتها فجأة إلى حياة منعمة، وتعني كلمة سندريللا بالمجاز الشخص الذي يحقق نصرا وانجازا بعد معاناة بصورة غير متوقعة وكما تعني سندريللا ‘فتاة الرماد’ وصفاً للرماد الذي كان عالقاً بثيابها الرثة أثناء عملها، وقد لاقت حكاية سندريللا في أرجاء العالم القبول والانتشار بسبب هذا التباين بين الفقر الذي كانت تعيشه الفتاة وحلم الثراء الذي سيتحقق لها بالزواج من أمير البلاد .
تقول الحكاية إن سندريللا كانت تعيش مع والديها إلى حين توفت أمها، بعدها عاشت مع والدها الذي كان يحبها كثيراً وكان يتمنى تحقيق كل أمنياتها، وكان يعتقد أنه إذا كان لفتاته الرقيقة أم ستكون بحالة أفضل فتزوج بامرأة كان لها ابنتان. تعاملت معها بلطف، إلى أن توفي الأب، فظهرت الزوجة الجديدة في صورتها التقليدية الرائجة لزوجة الأب القاسية، التي راحت تعاملها كخادمة، تقبع دوما في مطبخ العائلة، لا تتكلم مع أفراد أسرتها، ولا تحاور أحدا غير مجموعة من العصافير والفئران الذين أصبحوا أصدقائها فيساعدونها بأعمال البيت والتنظيف، وفقا لطبيعة الحكايات الخرافية .
وذات يوم ودون مبرر واقعي موضوعي أو منطقي، يصدر ملك البلاد قراراً يخول لكل فتاة من فتيات المدينة حق أن تكون زوجة لابنه الأمير، إذا ما راقت لعين هذا الأمير الشاب، هكذا تبدو الأمور سهلة في الحكايات الشعبية. وسيختار الأمير فتاة واحدة خلال حفل راقص بالقصر الفتاة التي سيحالفها الحظ بالفوز به. وبما أن سندريللا من حقها حضور الحفل الملكي، كفتاة من فتيات المملكة، طالبت بحقها هذا من زوجة أبيها، التي تراوغ في الاستجابة لطلبها، مشترطة أن تقوم الفتاة بتنظيف البيت وإيجاد ثياب جميلة لها لحضور الحفل، فتقوم سندريللا بالتنظيف ويساعدها أصدقائها الفئران والطيور بتجهيز فستان الاحتفال. والذي يتم إنجازه بالفعل، لتذهب به الفتاة لزوجة أبيها، للخروج للحفل، تقف بنات زوجة أبيها الحسودات ضدها، ويقمن بتمزيق فستانها المميز، ويذهبن مع أمهما إلى الحفل، مبقيات الفتاة الطيبة الملتزمة بتعاليم زوجة الأب سجينة بيتها الفقير، إلا أن الساحرة الطيبة لا تتركها حزينة، فتمنحها فستانا أنيقا جديدا وعربة جميلة، محذرة إياها بأن السحر سيزول في منتصف الليل. وفى الحفل الفاخر، لابد وأن يدهش الأمير من جمال سندريللا وأناقة ملبسها، ويطلب منها الرقص فتنسي كل حياتها التعيسة وتنسي تحذير الساحرة، الذي يظهر فجأة حينما تدق الساعة معلنة انتصاف الليل، فتتذكره خارجة باندفاع من القصر، دون حتى كلمة وداع للأمير الذي وقع في هواها من أول نظرة، لجمالها الساحر، وأن تركت له فردة من الحذاء الزجاجي الخاص الذي منحته الساحرة لها .
وفي الصباح الباكر يستدعى الأمير مساعده وسائقه ليبحثا عن صاحبة الحذاء بين فتيات المدينة، وعندما يصلان إلى بيتها تحاول زوجة الأب أن لا يرى الأمير سندريللا، لكن بفضل أصدقاء الأخيرة الأوفياء يتم لقاؤهما ليرتبطا معا بزواج يمنحها الحياة السعيدة التي حرمت منها .
الحلم في الخلاص من الفقر، والأمل في أن تحدث معجزة تمنح الفقير حق الاقتران بحكام البلاد، ظلت تراود الإنسان كثيرا، مما روج لوجود هذه القصة في بلدان أوروبية كثيرة، ومنها انتقلت للعالم العربي، وعبر نموذجين من نماذج استلهام العرب لهذه الحكاية الغربية، وإعادة نسجها في بنية عربية، نحاول هنا أن نصل لجوهر العلاقة التفاعلية بين حكايات غربية وبنيات عربية، تعبر عن ثقافة مجتمع التلقي الذي تتوجه إليه هذه البنيات الدرامية الجديدة.
*******************
يوجه الكاتب المصري “مجدى فرج” مسرحيته المعنونة ب سندريللا إلى “الصغار والكبار”، محددا منذ البداية أنها تصلح موضوعا ولغة وقيما للجميع، وتجرى وقائع المسرحية في “إحدى المدن القديمة”، وفى “أحد الأزمنة القديمة”، مبتعدا مكانيا وزمانيا عن زمن إبداعه للنص الجديد، حريصا على أن يكون موضوع المسرحية (حكاية فولكلورية) يستخلص منها المتلقي المعاصر المعاني والمدلولات المتعددة لها، ولذا يمنح الشخصيات أيضا أسماء غير مصرية، فخطيب سندريللا يدعي أنجلو، وشقيقاتها من أبيها هن بيتا ونيتا، وبقية الشخصيات مجهلة : الأمير والوزير ومدير الشرطة والخالة (زوجة الأب)، ومع ذلك لم يستطع الإفلات من الثقافة العربية، فجعل الساحرة تقترح على سندريللا أن تقدم نفسها للأمير باسم ست الحسن وهو أسم دارج في الحكايات الشعبية المصرية عامة، وكتاب ألف ليلة وليلة خاصة، ويستخدم شخصيتها كمفردة عربية بدفعها في مفتتح المسرحية، التي تمثل عمودها الفقري، تلقى مونولوجا افتتاحيا، تقوم عبره بتدريس الحروف الأبجدية للغة العربية، معتبرة الجمهور تلاميذ فصلها، شارحة هذه الحروف غناء ورقصا، مؤكدة بذلك كدال على علاقتها الوثيقة بالثقافة العربية، وكشخصية درامية على حبها للعلم والمعرفة، ساعية لنقلهما إلى الآخرين بتدريسهما للأطفال المحيطين بها .
ومع توالى وقائع المسرحية، انتقالا بين الغابة والبيت، تقدم المسرحية شخصية سندريللا، التي ستصير في الحكاية نموذجا للحلم المأمول، فهي تمتلك أحاسيس مرهفة، متأملة للطبيعة، ومحبة للأطفال، تحترم من يكبرها في السن، وتفكر في الأمر قبل الإقدام عليه، شخصية عملية ومؤمنة بدورها الاجتماعي، وتتحمل قسوة زوجة الأب في صبر، مؤمنة في النهاية بعدالة السماء، وهى مجموعة من القيم يسعي النص الدرامي لتوجيهها مسرحيا للأطفال، مستغلا الحكاية الغربية في بث القيم المطلوبة في مجتمعه، مقدما شخصيته أمام قوة مناوئة تمثلها زوجة الأب وبنتيها غير الراغبتين في العمل، في الوقت الذي استولت فيه زوجة الأب على ثروة أبيها وعلى الأوراق التي تثبت ملكية سندريللا للبيت، مما يعنى أن الفتاة ليست فقيرة تماما، بل مستولى على أملاكها، وهو ما يجعلها مؤهلة، من مفهوم اجتماعي تقليدي، للاقتران بأمير البلاد، وليس بهدف تحقيق العدل بين الفقراء والأثرياء .
ومع ذلك فالمسرحية تقدم من خلال سندريللا فكرة التفوق العلمي بديلا عن الثروة الضائعة أو الغائبة، مقابل أمير البلاد الذي يمتلك كل شيء، لكنه تعيس لفقدانه الحب، والذي لا ينشغل إلا بافتقاده للفتاة التي تحبه لذاته، وليس لثروته أو مركزه الاجتماعي العالي، فيجيبه والده باقتراح إقامة حفل كبير بالقصر، بمناسبة عيد الحب، يدعو فيه الأسر الكريمة وبناتها، ومن يقع عليها اختياره سوف يتزوجها حتى تؤنس وحدته، وتسير وقائع الدراما في نفس مسار الحكاية الغربية بعد أن تم مسرحتها وإخضاعها لقواعد الدراما، وإن ظلت متعلقة ببنيتها السردية الأولى، وأن قدم النص تبريرا لذهاب سندريللا لقصر الأمير، لا يعتمد على رغبتها في الزواج به، فهي مخطوبة لابن الحطاب أنجلو، بل لتواجه الأمير وتفهمه بأن دعوته هذه للبنات للذهاب إلى قصر أبيه لاختيار واحدة منهن للزواج بها ، أدى للشجار بين بنتي زوجة أبيها ، وأفسد علاقة الأخوة بينهما، وهو تبرير واه، ودافع غير منطقي، يؤدى بالضرورة لعدم تبرير لظهور الساحرة لها لتحقيق الحلم في الاقتران بالأمير لانتشالها من الفقر، فالمخلص لها من الفقر هو خطيبها الحطاب، فلا داعي للحلم بالذهاب إلى القصر، ولا داعي أيضا لخروج الساحرة من قاع المسرح، لتلبي لها أمنية غير ملحة .
يلتقي الأمير بسندريللا، التي صار أسمها ست الحسن ويراقصها ويعرف كم هي محبة للقراءة والرسم وتعرف هي أنه محب للصيد والقنص والرحلات وركوب الخيل، وعندما تسأله ست الحسن عن طبيعة عمله، فيجيبها بأن الأمراء لا يعملون، كاشفة له من خلال حوارها معه عن شخصيته المتهافتة، وحياته التي يعيشها دون معنى وبلا هدف. فجأة تنتبه سندريللا إلى ساعة الحائط فتجدها الثانية عشرة، تجرى مسرعة وفى إثرها يجرى الأمير، وأثناء جريها تفقد حذائها، فيأمر الأمير حراسه وأمين الشرطة بإحضار صاحبة الحذاء، وينفض الحفل وسط دهشة الجميع وخيبة أمل وحسرة كل أم .
تعود سندريللا إلى منزلها، فلا كوخ هنا في المسرحية، بل منزل هو حق للفتاة سلبته منها زوجة أبيها، وبالطبع يدخل عليها الأمير ويجرب قياس الحذاء على قدم بنتي زوجة الأب أولا، فلا يتفق معهما، ثم على قدم من قُدمت له على أنها الخادمة، فجاءت النتيجة ايجابية، وأدرك الأمير أن هذه فتاته التي يبحث عنها لتكون زوجة له، ولكن الفتاة الواعية سندريللا ترفض عرض الأمير بالزواج بها ، فهي مخطوبة للفتى أنجلو ابن الحطاب وتعاهدا بأن يؤسسا بيتهما بجهدهما معا فقط، فهي حقا فقيرة إلا أنها تحب العمل وتحب من يعمل من أجل الآخرين .
هنا تتصادم رؤية كلا منهما للحياة وللواقع المحيط بهما، فالأمير يرى أن عمله ينحصر في أنه يحكم المملكة التي ورثها عن آبائه وأجداده، في حين ترى هي أن حكمه للمملكة ليس عملا، بل عليه أن يعمل كباقي مواطني المملكة، مثلما تعمل هي بالتدريس لأنها تؤمن بقيمة العلم وتعليم الأطفال لبناء المستقبل، كما أن الأمير يرى أن العرف قد جرى في نهاية الحكاية الفولكلورية أن يتزوجا، إلا أن النص الدرامي الجديد يرفض الخضوع لحكاية صنعها زمن سابق ومجتمع مغاير، وتؤمن فتاته بأهمية إحداث ثورة لتغيير المفاهيم المتوارثة الخاطئة من أجل بناء مستقبل أفضل، لذا يرى الأمير أن أفكار سندريللا ليست مهددة لمملكته فحسب بل للتاريخ بأكمله، ويأمر مدير الشرطة بإحضار الفتاة إلى قصره فورا .
تساق الفتاة إلى قصر الأمير، فتواصل محاولاتها في المناقشة مع الأمير لكي تثبت له أن هناك قيما أقوى وأبقى من قيم حب التملك وحب السلطة، فتحل بهذه الصورة المنسوجة الجديدة محل شهرزاد العربية، وتلعب دورها في تغيير مفاهيم وأفكار الحاكم، في حكايات ألف ليلة وليلة، إلا أن هناك فارقا جوهريا بين الاثنتين يتمثل في مقدرة شهرزاد علي تغيير عقلية شهريار في مدة زمنية لا تقل عن ثلاث سنوات أو يزيد قليلا، بينما أرادت سندريللا أن تغير من أفكار الأمير التي تربى عليها، ومتسقة مع سياقه الاجتماعي ومنظومة الحكم التقليدية، خلال سويعات قليلة من اللقاء معه، مما يضعف الموقف الدرامي في نص مجدي فرج، والذي ينتهي بتحول الأمير إلى إنسان آخر أفضل مما سبق على يد سندريللا يعلى فيه من شأن قيم الصداقة والأخوة بين البشر .
************************
يبدو القصر بؤرة الحدث الدرامي، وفضاء المناقشة الفكرية في نص مجدي فرج، ويبدو المنزل مجرد مكان تأتي منه وتعود إليه سندريللا، وتحاول الغابة أن تخلق لنفسها دورا فاعلا بينهما، حيث تمتلك قيمة العمل المثمر وصور تحققه، على حين تبدو هذه الغابة أكبر مساحة وأعمق دلالة في نص الكاتب العراقي د. منصور نعمان، والذي يحمل عنوان (سندريللا وطيور الغابة)، فتصبح الغابة فيه هي فضاء اللقاء الأول بين الفتاة والأمير، وهو فضاء التعارف والنقاش وتبادل الأفكار الأول، قبل لقاء القصر، بل وتصبح طيور الغابة هي رموز الحكمة التي تحاور الفتاة، وهى التي تساعدها في الوصول إلى القصر، وهى الشرط الأساسي الذي تطلبه الفتاة من الأمير مقابل الزواج بها، وهو حماية الطيور من هجمات الصيادين، وتحويل الغابة لمحمية طبيعية يحافظ فيها على كائناتها الفطناء .
يقدم النص العراقي سندريللا كما هي في الحكاية الإنسانية: فتاة فقيرة، تسخرها زوجة أبيها ولبناتها في خدمتهن، تهرع للغابة كي تجد ذاتها متحررة بتحرر الطيور وحياتهن المنطلقة، تقف ذات يوم في وجه الأمير، دون أن تعرفه، لأنها جاء إلى غابتها لصيد طيورها، تعنفه وتطرده وتشترط عليه ألا يقترب بسوء من طيورها، فيقع الفتى في هواها، ويختارها له زوجة قبل قيام الحفل الذي دعي إليه والده، وبررت الطيور عشق الفتى للفتاة ليس لكونها “جميلة”، بل لعاطفتها المتسامية وحبها للطيور المنطلقة، مما يعنى بالتالي رقة مشاعر الأمير وسمو عواطفه، كما أنه يمتلك قوة وشجاعة وفضيلة التسامح، وهى القيم التي تختبرها الطيور معه، كما تختبر فضائل الحب والتسامي الإنساني لدى سندريللا، وما أن ينجحا في الاختبار المتزيي بزى السحر ،حتى تقرر الطيور الوقوف إلى جانب الأمير والفتاة .
تتحرك المسرحية عبر المحطات الأساسية في الحكاية الشهيرة، غير أنها تبنى بين كل محطة وأخرى مواقف تكشف عن رؤية جديدة لحركة سندريللا وأميرها بين هذه المحطات المعروفة، فالفتاة في كوخها مهدرة الحق في الحياة الرغدة، لذا تلجأ للغابة كي تتحرر من أسر مدينتها، وهناك تلتقي بأميرها الذي يقع في هواها لشجاعتها ورقة شعورها، وتقف الطيور إلى جانبها، لاشتراطها على الأمير ألا يقترب من الغابة، وأن يحولها لمحمية، فتحيا الطيور بحرية وسلام، ولهذا يساعدونها في الذهاب بالعصا السحرية الطائرة والملابس الراقية إلى القصر، بالشرط المعروف، وأن تزحزح ساعة من الزمان، فيطلبون منها العودة قبل الواحدة بعد منتصف الليل، بسبب عدم قدرة البوم المسحورة الطيران بعد هذه الساعة، ولما تنسى مرور الوقت بحضرة أميرها، تهرع منفلتة من القصر، لتجد نفسها وسط الغابة، وزوجة أبيها وبنتيها يطاردنها، إلا أن أميرها يصل لموقعها وينقذها من براثن أسرتها الكارهة لها، فتطلب منه سندريللا أن يعفو عنهن، فهي متسامحة في حقها، مما يزيد ارتباط الأمير بها لما تمتلكه من قيم إنسانية راقية .
قدم الكاتب العراقي منصور نعمان هنا رؤية واعية للدور الفاعل الذي يقوم به الإنسان كحاكم للبلاد، عليه حماية ممتلكات الوطن، وكمواطن فيه عليه أن يمتلك شجاعة مواجهة الحاكم وفضيلة التسامح وقيمة الحرية.
أنه النسيج الجديد للحكاية الفولكلورية الغربية بعد أن تم نسجها في نسيج عربي، تتداخل فيه الغابة مع المدينة، والقصر مع الكوخ، والقيم التقليدية بالأفكار الحداثية، لتقدم نسيجا ثقافيا جديدا يعانق الواقع ويستهدف مجتمعه الراهن .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت