الضحك … الصورة الصادمة / د. منصور نعمان

هل الضحك حاجة ضرورية للإنسان؟ وهل يكون الضحك مفيدا ومعالجا لمشكلاته أم تزجية للوقت حسب؟ فما الضحك !؟  ولم كان الضحك  توأم التراجيديا, ولكليهما جمهور عريض, يتشوق  لمتابعة العروض المسرحية؟.
من منا لم  يرقه الضحك؟ فحين نسمع كلمات  تنطق بطريقة خارجة عن  المألوف أو السياق ونصطدم بها , أو مواقف  لم  نحسب لها  حساب, تحدث فجأة دون سابق إنذار, مما يحدث خللا في كيفية استقبالها لأنها تعد خارجة عن منظمومة التفكير المتفق عليه بين  أفراد مجتمع معين,و أحياننا نستمع إلى نكته بريئة يدمج  فيها راوي  النكـتة صورا وحوار غير متوقع, وكأنه  يشكل  عالم كولاجي  بطريقة  ظريفة تشد  المستمعين  بقوة, فيعيد  ترتيب  المألوف ويكسبه  قالبا  جديدا, مغايرا  عما  أعتدنا  عليه, فيشدنا مجبرين  لمعرفة ما سيؤول إليه الموقف, وكيف ستكون النتيجة؟
إن غير المتوقع يحدث انقلابا في  التفكير والاستقبال, فيتفجر  الموقف, وتحدث  الصدمة, لذلك سترتفع  الضحكات  والكركرات وقد  لا تتوقف  بسهولة  لفضاعة  الصورة وبنيتها  الكولاجية, وقد  يحدث  أننا بمجرد  استذكارها من جديد  بعد  حين, فإذا  الضحك  يعود  مجددا, لذلك  الموقف, فصورة  الأفعال أو  الحوار أو تكوين الموقف من التماسك  بحيث لا نستطيع  تجاهله.
نضحك ملء  أشداقنا, ونتحرك  بحرية, ونطلق  أصواتنا بقوة مؤيدين للموقف, وفي عقلنا  أننا نستمع لنكته أو نلاحظ موقفا  ما. إلا أن ثمة عمليات  تجري  داخل مشاعرنا وعقولنا, إذ يكون  التعامل مع الموقف مبني بهذه  الدرجة أو تلك, على المتلقي  ذاته, وما يحمل  من  ثقافة ووعي  اجتماعي متماسك. فالضحك يزيد التقارب بين المجموعة , بل ويقربهم إلى بعضهم  الآخر, وينشط أجسادهم  ويعافيهم, ويمنحهم  القوة اللازمة للمواصلة والاستمرار وعلامات الفرح والسعادة تدغدغهم , فالبهجة والارتياح يشكل  علامة فارقة لهم. والسؤال الذي  يطرح وبإلحاح هو:  ما الضحك !!؟
إن الضحك  مجددا  لحيوية ونشاط الإنسان, ويشكل  دوافع  اجتماعية وروابط قوية بين  الناس , فالوشائج  تتعمق, والأفكار تتقارب, وتكاد أن تكون العقول متوحدة فيما بينها. نفهم  من ذلك أن الضحك حاجة إنسانية, تتطلب مهارة عالية في تركيب الموقف, أو الحوار ,أو الصورة المتسمة نوعا ما  بغرائبيتها. وفي كتاب (الضحك) لمؤلفه الفيلسوف الفرنسي (هنري برجسون) يشدد على الضحك محددا إياه بنتاج التفكير العقلي لما يحدث أمامنا, بكلمة أخرى, قد  ننفجر ضاحكين حتى تكاد  أن تتقطع أمعائنا ونحن نستمع لراوي نكتة بارع , بمعنى أننا نستطيع بقدرتنا على التخيل, أن نتصور الموقف, وكأننا نشاهده فعليا أمامنا, إذا أن العقل لوحدة لا يبدو لي كافيا لتغطية مفهوم الضحك,  إذ لا ينحصر الضحك بما نرى حسب, و إنما بما يمكن تخيله أثناء الاستماع  للنكتة أو مشاهدة الموقف.
وعليه فإن اشتغال العقل, أمر لابد منه, من أجل عزل المشاعر عن الموقف, وهو ما يؤكده ( برجسون ), فالعقل يأخذ الأمور المنطقية التي لا يكون عليها اختلافا, ففي شرح  لنظرية أرسطو, يأخذ  المؤلف  الشارح لإعطاء مثلا على الموقف  الكوميدي يقول  فيه: “من العادي أن يجري إنسان بسرعة كبيرة هربا من كلب يطارده ليعضه. من  المؤكد أن هذه  الصورة  ليست  مضحكة, لكن إن قلبنا الأوضاع عقليا وغيرنا المواقع وجعلنا الآتي: كلب يجري بسرعة كبيرة ويجري  خلفه إنسان  ليعض الكلب”.
إن بناء صوره وتركيبها يسترعي الانتباه, فالتفكير هاهنا جزء منتمي للصورة على الرغم من صعوبة حدوثها فعليا, أو  عدم إمكانية حصولها, وبذلك  فإن الموقف الضاحك مبني على تجميع  غير المتوقع في موقف في الأصل قلبت فيه  الموازنة المألوفة أو  المعتادة.
لكن ( برجسون ) يثير قضية غاية في الأهمية والمتعلقة بالشعور, إذ يفترض في  الضحك عزل  الشعور عمن يقع عليه  الحدث: ويضرب  مثلا غاية في الروعة قائلا: “امرأة عجوز تعبر الشارع وإذا بها تدوس  بقدمها قشرة موز, فتنقلب رأسا  على عقب, إذ ترتفع قدميها إلى الأعلى بينما كلتا يديها تمس الأرض, فإذا صادف اثنان, أحدهما انتبه لشقلبه العجوز-وهي  الخارجة عن فيزياء الحركة واليتها  المعتادة-  فإنه  سيضحك, بمعزل  عن العجوز المسكينة التي ربما تكسرت أضلعها. أما الآخر فإنه لن يضحك,  بل تسمر بمكانه متألما  لما حدث  للعجوز وانفعل  متعاطفا معها, وقد يهرع مسرعا لمساعدتها.أما  من  كان يضحك فإنه لا يلتفت إلى هذه الناحية إطلاقا بل يشدد على النمط الحركي غير المتزن للمرأة العجوز, فيستمر بالضحك, أما الشخص  الآخر قد يجهش  بالبكاء”.
يبدو أن الإنسانية مركبة بين الحاجتين, وكلتاهما تكمل الواحدة الأخرى, إذ لا يمكن أن نتصور حياة لا يتخللها الضحك أو الشعور بالألم, وعلى  الرغم  من كونهما نتيجة من نتائج  بنية المجتمعات وطرائق  التفكير في تسيد إحداهما عن الأخرى  في لحظة من اللحظات.
إن حاجات الإنسان متعددة, فإذا كان الضحك تعضيدا للعلاقات الاجتماعية وتمتينها عقليا, فإن العاطفة الجياشة والشعور  الإنساني له ذات  الدور, وبما أن البشرية عاشت أطوارا ومحنا وصروفا وويلات لا عد لها, فإن الهاجس يقترب  من  الشعور  العاطفي الحزين  الجامع للكل, وإذا كانت  بدايات  المسرح دينية فإنها قد تبلورت من هذين الخطين: الضحك  الماجن, والحزن العميق. وحتى بعد أن اكتملت صورة المسرح وتبلورت لدى العقل النقدي (أرسطو) الذي تطرق إلى  المسألة لكنه اختزل الأمر على المأساة, لعمقها وترسانتها الراسخة القوية المتجذرة في الشعور الجمعي , وما نتج منها من صنف آخر يسمى الميلودرما. وقد حدد أرسطو الكوميديا وما نتج  منها صنف أخر يسمى ( الفارس ) أو المهزلة.
لقد  اصطبغ الأدب العالمي بالاتجاهين, كما في الحياة, بل إن التداخل بينهما أضحى مسوغا, إذ جمعت المأساة بالكوميديا  في  الدراما, إذ  أن نصوص شكسبير لا تخلوا أبدا من التداخل بين النقيضين, ففي مسرحية (هاملت) لمؤلفها شكسبير, كان مشهد حفار القبور, الساخر من الجماجم وهو يحفر قبرا, والجمجمة كانت يوما تحكم وتتحكم, وهي الآن بيد حفار القبور, يخاطبها ساخرا وضاحكا, بينما هاملت وقد اتقد شعوره بعد تورد عاطفته لأبيه المقتول غدرا. وحدث الأمر ذاته في  مسرحية ( الملك لير) إذ يقف البهلول في مشهد العاصفة يندب حظ سيده لير, وكأن سخرية القدر أن يجمعهما معا في ليلة  عاصفة نستمع لأنين لير الذي يصل ندائه عنان السماء بعد  فجيعة طرد ابنته إليه ولحرسه, وفي الوقت ذاته نسمع ما يقوله  البهلول ساخرا من سيده.
إن جمع المأساة بالكوميديا ببنية النص الدرامي, إنما يقدم صورة من الحياة إلى الحياة وقد غارت وتعمقت  تشققاتها.
وقد انتبه ( انطوان تشيخوف ) بحسه المتألق, وروحه المرحة, فقد عالج أشد اللحظات توترا بين الأبطال بجعل المضحك  مبكيا في نصوصه الصغيرة والكبيرة على حد  سواء( الدب ,الخطوبة ,الخال فانيا, النورس  أو طائر البحر… وغيرها )
إذ تم نسج الموقف الدرامي بدراية عالية جدا. ففي ( الدب ) كانت حاجة الضابط لاسترداد المال من الأرملة, إلا أن إحساسا  يخالجه بالتقرب إليها, والأرملة تعيش ذات الإحساس الذي طغى عليهما, فتحولت المطالبة بالمال والاصطدام بينهما إلى  حالة أخرى مغايرة ألا وهي التقرب اللاإرادي بينهما , الضابط يريد المال والأرملة لا تملك المال لتعطيه للدائن, إلا أن  الأمر خرج عن السيطرة بالتجاذب بينهما على الرغم من عدم إعلان ذلك وجها  لوجه.
إن  المزاوجة بين  الكوميدي والمأساوي, شكل اتجاها آخر معمق للوعي البشري, وفتح نافذة لفهم التطلع الإنساني, من أجل  استيعاب الوضع القائم والدفاع عن بني البشر, بعد أن تحولت الحياة إلى مضحكة مبكية في آن واحد .
إن  اجتماع  الضحك والبكاء, إنما تعبير عن صورة لفجيعة الإنسان, في خمسينيات القرن الماضي , الذي شهد تصاعد  لمحنة الإنسان وجودا وكيانا أمام الآلية والمككنة التي استولت على المشاعر, تماما كما ذهب ( بكيت ) في  نصه ( في  انتظار كودوت). إذ خلط بين الضحك  والمرارة, فتكونت صورة أخرى لما يسمى بالكوميديا السوداء, إذ قرن المصير  البشري ولوعة المصير ونهايته المفجعة, بالحركات الضاحكة للبطلين ( فلاديمير و استراجون) وكأنهما مهرجين في سيرك, فقد  اتسمت الحركة بالآلية  والتكرار تعبيرا عن عبث الوجود. بانتظار القادم الذي لا يأتي (كودوت), الذي يغير باستمرار موعد قدومه, مما يضطرا البطلين أن يبقيا منتظرين, وكأن الوضع البشري, بقى منتظرا لقدوم المنقذ والمغيير  لوجه العالم والحياة.
والأمر ذاته  فعلة ( يونسكو ) في نصوصه الكبيرة والصغيرة (اميديه, الكراسي, المستأجر الجديد, الأستاذ). ففي الكراسي  على  سبيل  المثال, عجوزان يعيشان منعزلين عن العالم, ويتخيلا قدوم ضيوف لا حصر لهم وكلاهما مشغول بالترحيب  بالضيوف والتحدث معهم ويبلغ الازدحام حدا لا يستطيع كلا العجوزين أن يلتقيا. المدهش أن الصورة من نسج خيال  العجوزين, إذ لا وجود للضيوف, ولا للكراسي, إنما كان الأمر صنيعة خيالهما حسب.
إن ( يونسكو ) كان بارعا برسم صورة مدهشة وعريضة للمضحك  المبكي لعالم  يسوده  الخواء, وعدم الإيمان وطحن  لإنسانية الإنسان, فإن أضحكانا كلا العجوزين بأن دفاعهما وترحيبهما بالضيوف المتخيلين, فإن ذلك يضحك ويبكي في  الوقت ذاته.
وفي ضوئه, يمكن القول أن الضحك حاجة مهمة من حاجات البشر, لكي يوازن حياته وما اكتظت  به من ضغوط كبيرة، وتحديات. ففي المجتمعات التي تتضخم فيها الأحزان ويطحن فيها الإنسان, تتولد الحاجة الأكبر للسخرية من الأوضاع  المزرية والمواقف القاهرة، فالضحك والسخرية, إنما هي خلق موازنة بين الاستلاب الإنساني لوجوده من جهة والتعبير  بقوة عن إنسانية تنتزع بصلافه. إن الضحك تحول إلى صورة صادمة ومحيرة وبالقدر ذاته معبرة عن  الوجود البشري.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت