مسرحيّة برج الوصيف: بين «الواقع الأمريكي» وسوء الاقتباس/ عادل النقاطي
شهد ركح المركب الثقافي بالقيروان نهاية الأسبوع الماضي عرضا لمسرحية برج الوصيف للشاذلي العرفاوي من إنتاج المسرح الوطني، العمل مقتبس من مسرحية « قطة على سطح من الصفيح الساخن» للكاتب الأمريكي تنيسي ويليامز، وقد قام بأداء أدوارها كل من صلاح مصدق وعبد القادر بن سعيد ومهذب الرميلي وسهام مصدق وشاكرة الرماح وصالحة النصراوي.
يقول تينسي وليامز عن مسرحيته هذه «إنّ الهدف الذي آمل أن أحققه في هذه المسرحية ليس هو حل المشكلة النفسية التي يعانيها رجل بعينه وإنما أحاول أن أضع يدي على نوع التجربة التي تمر بها جماعة من الناس». والجماعة المقصودة التي حكاها وليامز واقتبس حكايتها العرفاوي، أسرة تعيش في دلتا المسيسبي في الولايات الأمريكية المتحدة أو برج الوصيف في تونس أو أي مكان زراعي آخر، وعلى رأسها رجل مُصاب بالسرطان وقد اخفت عنه أسرته هذا النبأ موهمين إياه بأنه مجرد التهاب بالقولون، هذا الأب الثري المالك لـ28 هكتارا حسب وليامز و28 ألف في قراءة العرفاوي، هذا الأب كان يردد في سره دوما كيف اترك هذه الثروة لأناس أكرههم؟
هذا الأب الذي يميل إلى ابنه الأصغر يفشل في إنقاذه من عقدته النفسية والإحباط الذي أصابه بسبب موت صديق له مما يجعل زوجته هي الأخرى تكابد معه عزلته وانطواءه وعدم الإنجاب لانقطاع المعاشرة.. أمّا الابن الآخر وزوجته فيمثلان البلادة والجشع والرياء ويتهالكان على ميراث الأب ويتباهيان بكثرة الأولاد وفي قراءة العرفاوي جعلهما متستّريْن بغطاء الدين الذي ألصق به كل صفات الانتهازية والمادية وحتى الإجرام.
إذا لماذا اختار العرفاوي هذا النص الذي أسره ولم يتحرر من صراعاته و«خرافته» فتتبعه نقطة نقطة؟ وما مدى تطابق نمط المجتمع الأمريكي المادي الاستهلاكي والمجتمع التونسي العربي المسلم حتى يمكن إسقاط أفكار هذا النص عليه؟
إنّ الفرق كبير بين المجتمعين الأمريكي والتونسي فإن كان الأول مجتمعا استهلاكيا ماديا لا يؤمن بالإنسان إلاّ منتجا أو قويا لا مكان فيه للمحتضرين والضعفاء الذين يجب التخلص منهم بسرعة ودوسهم من قبل الأقوياء الجدد الذين سيضمنون تواصل الثروة والقيادة ، عكس الحضارة العربية المسلمة المؤمنة بالقيم واحترام الكبار حتى في حالة عجزهم، والانقياد لحكمتهم وحكمهم رغم كل ما خسروه من عضلات وخلايا دماغية في رحلة العمر الطويل، إذن في دراماتوجيا العرفاوي حين صور محاولة تخلص الابن وزوجته المتدينين من وصاية الأب المحتضر وعدم الصبر حتى نهايته الطبيعية تعسّف على الواقع الذي تحاول أن ترتقي إليه المسرحية، كذلك في أسئلة الحماة المحرجة لكنتّها الثانية عن علاقتها الجنسية بطريقة مباشرة فجة بعيدة كل البعد عن الواقع الريفي التونسي أو العربي.
العرفاوي أخذ الجمل بما حمل فلم يغيّر من نص «تينيسي» الأصلي الكثير رغم الإمكانيات المتاحة فإن كان شرعيا جدا اقتباس أي فكرة لكتّاب عالميين كبار فإنه من الابتذال عدم الاجتهاد في إعادة الكتابة وتغيير ما يجب تغييره وإهداء المتفرج حكاية جديدة لفكرة عالمية معروفة.
بعيدا عن النص يمكن القول أنّ العمل رغم رتابة البداية ارتفع نسقه رويدا رويدا فرأينا لوحات درامية تشكيليّة لعبت فيها خبرة الممثلين دورا كبيرا في إيصال صور «كارت بوستالية» منمقة وفاخرة إلى القاعة التي تجاوبت معها بالتصفيق، حيث ارتفع التمثيل إلى مستوى الجودة والحرفيّة للجميع دون استثناء.
الديكور كان عبارة عن غرفة نوم يتصدرها فراش صعد فوقه الجميع بداية ونهاية وهو يحمل هوس تينيسي ويليامز بالجنس فمعظم مسرحياته ذات طابع جنسي أو ما يدور حول الشذوذ الجنسي ماعدا مسرحية الحيوانات الزجاجية فموضوعها عن الزواج، فالفراش في المسرحية هو أصل مشكلة أحد الابنيْن الجنسية والإنجابية، ومكان موت الأب ورمز الخصوبة للابن الثاني ومكان عقوق الأم، وربما مكان خيانة محتملة بين الابن السكير وزوجة الأخ المتدينة التي تخلت عن تدينها لممارسة لعبة إغواء آثمة، هذا الفراش اجتهد المخرج في توليد الدلالات منه وبعث الرسائل التي ذكرتها فكان وظيفيا رغم استمراره في نفس المكان طيلة المسرحية.
الحفر الموسيقي كان من أكثر الأشياء تميزا في العمل حيث تم الاعتماد على سجل الفن الشعبي بزكرته وعروبياته وأبياته بـ«رجوليته» بأصوات فخمة وقوية تأتي من قاع الأرض السمراء وإيقاعاتها الأصيلة واكبت أهم حدث في المسرحية وهو إخبار الأب بحقيقة مرضه ودخوله مرحلة الاحتضار المادي والمعنوي والوقوف على الأطلال.
وأخيرا يبدو أن التعسف الكبير في تونسة العمل والتقيّد بالروح الأمريكية فيه جعله على مستوى النص والأحداث لقيطا لا هوية له رغم اجتهادات العاملين فيه، كما أنّ محاولة إلباسه جبة اللهجة والأسماء والدّين كانت محاولة غير ناجحة حسب اعتقادي وكان بالإمكان التسلح فقط بالفكرة وبناء واقع دراماتورجي جديد ينطلق من أحداث واقعية منطلقها الثورة التي وان ادّعى صاحب العمل وجودها فيه فإننا لم نر لها أثرا واحدا.