البعد الفلسفي في المأساة الإغريقية/ د.منصور نعمان
هل ارتبطت الفلسفة بالنص الدرامي؟! أليس لكل منهما ميدانه؟! فما دخل الفلسفة بالنصوص الدرامية؟ وإذا كانت الأفكار الفلسفية، تتسم بالجمود والتيبس والثقل وهي تتطرق إلى الوضع الإنساني وتجد المسوغات لهذه العلاقة أو تلك في الوجود، فكيف يكون للفلسفة مكان داخل النصوص؟ والتساؤلات المثارة هي: كيف يتشرب النص أفكارا فلسفية؟ وما هي دوافع تلك النصوص؟ وكيف يتم تذويب الأفكار، حد عدم رؤيتها.
ما من شك أن الدراما في نهاية المطاف عبارة عن قصة تروى بطريقة تختلف عن طريقة القص الروائي، بمعنى أن هناك قصة ما، يمكن اختزالها، وتوضيحها للقارئ، وبدوره يستوعبها، قصة مثلما أشار (أرسطو) لها بداية ووسط ونهاية، أي ممكنه الفهم والاستيعاب، بل وتتحول مع الأيام جزءا لا يتجزأ من المفهوم الاجتماعي والإنساني.
ولكن، ما دخل القصص التي تجلب المتعة للإنسان بالفلسفة؟ أيمكن أن تكون المتعة الراقية متفلسفة؟!
إن خارطة الدراما على مر العصور بمختلف المؤلفين والظروف والاتجاهات الأدبية والأشكال الفنية والصيغ الجمالية المبهرة التي تكتسيها نصوص الدراما الراقية والتي صمدت أمام التحولات الكبرى في الحياة، تشير بعمق لفلسفة غائرة في النصوص، بل الأدهى، إمكانية أن نتفهم الحياة من خلال تلك النصوص التي تحمل جنينيا مستقرات متفلسفة للحياة آنذاك. فإن تطلعنا إلى النصوص الكلاسيكية المهمة والمتبقية لمؤلفين عمالقة (اسخيلوس، سوفوكلس و يوربيدس) فإننا نجد مثلما أكدت الدراسات المتعمقة، أن موضوع القدر وغلبته لمن يتحداه من بني البشر، إذ شكل القدر القوة المهيمنة على حيوات الأبطال، ومؤسسا لكل تحركاتهم على الرغم من صلابة الأبطال واستمرارهم بالتحدي ومحاولتهم لخرقه وتجاوز مقدراته.
إن الحركة والحركة المضادة بين البطل وقدره، إنما هي صراع لا يتوقف بين حركة القدر المهيمن من جهة، وحركة الأبطال من جهة أخرى. السؤال: لماذا يتشكل القدر بهذه المواصفات المسيطرة بقوة عجائبية؟ ما القصد من ورائه؟! أهناك مفهوم ما يجري التستر عليه؟! إذا كان الأمر كذلك. فما هو ذلك القصد؟
إن الطابع الأكثر تميزا لعالم الأفكار، بأشد وتائره، وأكثرها دفعا واندفاعا وتسليطا للضوء، كان من خلال انتهاج نهج مسيس للنصوص الكبيرة، وجعله خطا استراتيجيا لطريقة فهم واستيعاب العالم الذي يشكل المحور الأساس في النزاعات والاصطدام بين الساسة والحكام ومن يحملون الأفكار من أجل التغيير، إن النصوص كفيلة بامتصاص جُل الأفكار التي ينادي بها الساسة المتحكمون بالاقتدار وبلورة التوجهات الجوهرية للمدينة، أو الإمبراطورية، كما هو حال الرومان. ولا يمكن فهم هذه الحقائق بمعزل عن المحركات التي تصوغ ضوابط لا تخرق، واتجاهات لا تصد، وعقل يُسير القواعد الجماهيرية –الشعب – في تلك الحقب، ويخلق نزعة مؤثرة أكبر من كونها تيارا يمر عابرا وينتهي بعد غد.
إن العقلية الإغريقية، عقلية بمناخ فلسفي تماما، فإن منشأ الفلسفة تاريخيا كان إغريقيا، إن تم استثناء فلسفة الحضارات السابقة وما خلفوه من شرائع وعمارة ومنحوتات-التي تعد فلسفة أو ترتبط بالفلسفة من وجهة نظري – بكلمة أخرى إن شيوع الظاهرة الفلسفية بوجود الفلاسفة الأساتذة مثل سقراط، أفلاطون، أرسطو، والحركات الفلسفية التي شكلت تيارات حركة بالأفكار مثل: الفيثاغورية، والسفسطائية، التي شكلت تيارات تقارع الفلسفة الراسخة، كما هو حال الفلسفة السفسطائية، التي نادت أن الإنسان مقياس كل شيء، إنما يدلل على اشتداد صراع الأفكار المتفلسفة، عن علاقة الإنسان بما يقع خارج عالمه الفيزيقي، بعالم المثل أو التساؤلات عن وضع الإنسان بين ما يقع على الأرض وما يقع خارج الحواس، أو تلك التي اهتمت بالإنسان بوصفه، أس الوجود بوصفه مقياسا لكل شيء.
ما يمكن قوله: أن الفلسفة شائعة لدى الإغريق، ويسعون للحفاظ على كيانهم وتكوينهم، إنسانهم وحضارتهم، وأفكارهم المتفلسفة المعبرة عن وجودهم الفخورين به، والدراما خير من يحمل الأفكار ويطرحها، والفلسفة خير من يدربها ويوصلها بطاقة كبيرة ودفع شديد الوتيرة، فما الذي حدث؟
كان القدر، شكلا من أشكال الميتافيزيقيا، أما الإنسان –البطل – ابن الأرض المتطلع والحالم بالتغيير على ما هو فيه من نعيم ديمقراطي!! إلا أنها ديمقراطية السادة فيما بينهم، ويعيش بينهم العبيد أو من سبي في الحروب وأضحى عبدا أجيرا لسادة كلهم أشداء ويؤمنون بالديمقراطية إلى حد كبير. وإذا علمنا أن مؤلفي الإغريق من السادة ومنهم من شارك في الحروب مثل ( اسخيلوس) وانتصروا فيها. لهذا فإن المؤسسة المدنية –المسرح – تعد وجها من أوجه السلطة السياسية، ووظيفته تدعيم الكيان السياسي وترسيخه، بل وتعميقه وتجذيره، هذا إذا علمنا أن غالبية الجمهور العريض الذي يشاهد تلك العروض هم من العبيد المأجورين الحالمين بالحرية التي يفتقدونها في ظل ترسانة النظام السياسي، وتشير بعض الدراسات، أن السادة كانوا يعطون للعبيد المال وإجازة لمشاهدة تلك العروض المسرحية في المسارح الكبيرة المفتوحة التي تستقبل الآلاف منهم. حتى الآن يبدو الأمر طبيعيا، أما ما سيتم التطرق إليه تاليا، هو حجر الزاوية بالمقال ونطرح السؤال الآتي: ما الغاية التي يقصدها السادة من وراء كرمهم مع العبيد. أهو حبهم المفرط للعبيد؟!
بالطبع لا، وإلا لأعتقوا رقابهم من العبودية ليكونوا أحرارا مثلهم. إن السبب الكبير لكرم السادة هو : أن يزداد العبد عبودية، وأن لا يفكر العبد أبدا أن ينظر إلى السادة إلا نظرة رضا وشكر لأنه باق على قيد الحياة، فالسادة علية القوم، المقربون من دست الحكم ومن الآلهة. وفي الدراما الإغريقية من يقف بوجه إرادة الآلهة ويحاول التفكير بتحديد مصيره بإرادته ويختط طريقا مخالفا لما تهواه الآلهة، فإن مصيره كمصير أبطال المآسي الكبيرة والتي يمحق فيها البطل محقا لا رحمة فيه، وسيورث اللعنة لأبنائه من بعده وتتوالد اللعنة إلى ما لانهاية ففي مسرحية (أوديب ملكا) ترسم الآلهة مصير طفل لم يولد بعد وتحدد مسار حياته، بأنه سيقتل أباه ويتزوج من أمه ويكون أخا لأبنائه. إن هذا الرسم المرعب للبطل حفزه أن يهرب منه وأن يترك كورنثه إلى طيبه، بقصد عدم تنفيذ الإرادة الإلهية، وما أن يصل قريبا من طيبة وأثناء ذلك يتشاجر فيقتل الحرس والرجل الذي يقلونه إلا واحدا قد هرب، وما أن يدخل المدينة وأذابه يواجه لغزا محيرا، وما أن حل اللغز حتى نصب ملكا على طيبه، والملك يتزوج الملكة، فتزوج من أمه الأرملة، دون علمه، وتمضي الأيام وتكون له ذرية، إلا أن الشعب طالب الملك أوديب بتخليصه من مرض الطاعون الذي فتك بالمدينة، وما أن علم أن سبب ذلك هوعدم القصاص من قاتل الملك السابق ( لايوس) حتى يصدر أوامره المتشددة بحق من يخفي القاتل أو يتستر عليه، فيشتد الصراع وتزداد وتيرة المناكفات بين كريون وأوديب، والأخير وتريسياس رجل الدين -عالم الغيب – التي عدها أوديب مؤامرة سياسية للإطاحة بحكمه، وإذا برسول يأتي للملك يعلمه بأن شعب كورنثه يطلبونه ليكون ملكا عليهم، ويكشف حقيقة أوديب، بأن ملك كورنثة كان عقيما، وأنه- أي أوديب- كان طفلا معلقا على شجرة ترك ليموت، لكن الخادم رأف لحاله ولم يقتله كما أمر بذلك الملك لايوس، والرسول أخذه إلى كورنثا وأعطاه لملكهم العقيم.
انكشفت حقيقة أوديب، وما أن حقق مع الخادم حتى ثبتت الحقيقة وما أن ذهب إلى زوجته / أمه حتى وجدها قد شنقت نفسها، فسمل كلتا عينيه، فتحول الملك إلى شحاذ يجر لعنة الآلهة هو وذريته.
ما أن يشاهد العبد كيف تلقى (أوديب) صفعة الآلهة للملك المطاع، لمن حل اللغز الذي أودى بحياة الكثيرين.
ماذا يفعل العبد؟ إلا يتنفس الصعداء إن بقي بعيدا عن غضب الآلهة؟ ألن يكون أكثر طاعة لسيده وأن جلده، وحط من شأنه، وأذاقه السقم. أليست هذه فلسفة النظام الإغريقي الصارم المتجذر والمتغلغل داخل ثنايا النص الدرامي؟ إلا تترسخ أفكار النظام دراميا وتنتظم وتؤثر وتستعبد العبيد فوق ما هم عليه من عبودية.
إن النص يحمل في ثناياه فلسفة النظام وسياسته، وجعل النظام السياسي والفكري متسيدا للحياة الاجتماعية، في ضوء فلسفة الكون والعالم والحياة، والأدهى يجعلها أكثر قبولا ومصداقية في الوقت ذاته.
إن فلسفة النظام تحولت إلى شكل جمالي – ممسرح– وتهيأ المهرجانات المقامة والطقوس الاحتفالية المهيأة ضمن تخطيط ممنهج وعقل استراتيجي، يتقصد التثبيت والرسوخ والتعميق والبقاء بطريقة علمية وجمالية ممتعة، وفي الوقت ذاته يبث فلسفته، ويجعل المتلقي أكثر استسلاما وقبولا لترسانة النظام.