الظواهر المسرحية في العالم العربي (الحلقة السادسة والأخيرة)/ أ.د. سيد علي إسماعيل

** مظاهر مسرحية مُهمشة:
هناك مظاهر مسرحية، كانت تُقدم في الشوارع والأزقة والحواري والاحتفالات الشعبية، ولكنها مُهمشة، حيث لم تلق الاهتمام اللائق بها، ولم نجد كتابات مسهبة عنها، ومنها:
1 – المحبظون:
يُعد ما يقدمه المحبظون من عروض هزلية مظهراً من المظاهر المسرحية، التي انتشرت في القرن التاسع عشر. وقد نقل لنا الرحالة المستشرق (إدوارد وليم لين) عرضاً لهم، قائلاً:” يسر المصريون كثيراً بالعروض التي يقدمها (المحبظون)، وهم مهرجو المهازل المبتذلة. ويؤدي هؤلاء مهازلهم عامة خلال الاحتفالات التي تسبق الأعراس وحفلات الختان في منازل كبار القوم، فيستقطبون حلقات المتجمهرين إلى عروضهم في ساحات القاهرة العامة. ولا تستحق عروضهم في الواقع الاسترسال في وصفها، فهم يستدرون تصفيق الناس من خلال أعمالهم المبتذلة ودعاباتهم السوقية. ويقتصر الممثلون على الصبية والرجال، أما المرأة فيقوم بدورها رجل أو صبي متنكراً في زيّها. وسأعرض للقارئ نموذجاً عن أحد عروضهم التي قدموها أمام الباشا منذ فترة وجيزة خلال احتفال أقامه بمناسبة ختن أحد أولاده، ويتم في مثل هذه المناسبات ختن العديد من أولاد أصحاب المقامات. واقتصرت شخصيات المسرحية على الناظر وشيخ البلد وخادمه وكاتب قبطي وفلاح مدين للحكومة وزوجته وخمسة أشخاص آخرين مثّل اثنان منهما دور طبالين وثالث عازف مزمار وظهر الاثنان الباقيان في دور راقصين. دخل الناظر وعازف المزمار حلبة التمثيل بعد أن مهد لدخولهما هؤلاء الخمسة بتطبيلهم وتزميرهم ورقصهم. وسأل الناظر: (كم يبلغ دين عوض بن رجب؟) فأجابه الخمسة الذين يمثلون دور الفلاحين البسطاء: (أطلب من النصراني أن ينظر في سجله). وكان الكاتب النصراني متمنطقاً (دواية) كبيرة ومرتدياً ثياب قبطي ومعتمراً عمامة سوداء، فسأله شيخ البلد: (كم هو المبلغ المكتوب ضد عوض بن رجب؟) فأجابه الكاتب: (ألف قرش). فعاد الشيخ يسأله: (وكم دفع حتى الآن؟) فرد عليه الكاتب: (خمسة قروش). فألتفت الشيخ إلى الفلاح قائلاً: (لما لا تحضر المال يا رجل؟) فيجيبه الفلاح: (لا أملك قرشاً منه). فتعجب الشيخ: (لا تملك قرشاً واحداً! إطرحوه أرضاً). فطرحوه وأحضروا قطعة أحشاء منتفخة تشبه كرباجاً كبيراً وانهالوا يضربون الفلاح ضرباً مبرحاً. فراح يصيح بالناظر بصوت متهدج: (وشرف ذيل الحصان يا بيه! وشرف سروال زوجتك يا بيه! وشرف عصبة زوجتك يا بيه!). ولكن استنجاده ذهب أدراج الرياح فضُرب طوال عشرين دقيقة ثم زُج به في السجن. ثم ننتقل إلى مشهد الفلاح وزوجته التي أتت لزيارته تسأله: (كيف حالك؟) فيجيبها المسكين: (إعملى معروفاً وخذي كشكاً وبيضاً وشعيرية إلى منزل الكاتب النصراني واستدري عطفه عله يطلق سراحي). فأخذت الزوجة الأغراض في ثلاث سلات إلى منزل الكاتب وسألت بعضهم: (أين هو المعلم حنا؟) فأتاها الجواب: (يجلس هناك) فتوجهت إليه وقالت له: (يا معلم حنا أرجو أن تقبل مني هذه الهدية وتفك أسر زوجي).
– (ومن هو زوجك؟)
– (الفلاح المدين بألف قرش).
– (أحضري عشرين أو ثلاثين قرشاً وأدفعيها رشوة إلى شيخ البلد). فانصرفت المسكينة وعادت إلى شيخ البلد ومعها المال المطلوب. فسألها الشيخ: (ما هذا؟).
– (خذها رشوة وفك قيد زوجي).
– (حسناً، إذهبي إلى الناظر). فخرجت ورسمت جفونها بشيء من الكحل وحنّت يديها بالحناء الحمراء وانطلقت إلى الناظر. وألقت عليه التحية قائله: (عمت مساءً يا سيدي).
– (ماذا تريدين؟).
– (أنا زوجة عوض المدين بألف قرش).
– (وماذا تريدين؟).
– (زوجي في السجن وأتوسل إليك لتطلق سراحه). وراحت توزع ابتساماتها بينما كانت تتحدث إلى الناظر حتى تظهر له أنها لا تسأله هذه الخدمة دون أن تمنحه مقابلها مكافأة. وحصل الناظر بالفعل على مكافأته وحصلت هي على حرية زوجها. وقد مثّل هؤلاء الخمسة هذه المسرحية أمام الباشا حتى يتنبه لمسلك المسؤولين عن جمع الضرائب” (1).
2 – أولاد رابية:
هي فرقة مصرية جوالة كانت تُقدم – في عهودها الأولى – عروضاً هزلية في الشوارع والأفراح والمناسبات الشعبية، وموضوعات عروضها تتنوع بين قصص الماضي وأحداث الحاضر، بعد إعادة صياغتها بصورة هزلية ساخرة مبتذلة لإضحاك المشاهدين، معتمدة في ذلك الألفاظ الخادشة للحياء والأعمال الفاحشة. وربما حدث تطور ما في موضوعاتها وأدواتها الفنية فأصبحت عروضها في عام 1869م توضع ضمن إعلانات الصحف. وبعض المراجع تعد فرقة أولاد رابية إرهاصاً للمسرح، وأن فرقة أحمد فهيم الفار – الممثل الهزلي – كانت على شاكلتها (2). فأولاد رابية – في عروضهم – كانوا يتهكمون على الطبقات الحاكمة لسلبها المزارع وسرقة المواشي، والعقوبات الصارمة التي فرضوها من ضرب بالسياط، أو إعدام رجل لأنه سرق 20 فضة (بارة)، أو شنق شخص ما؛ لأن المدير أو المأمور غضب. وكان العنف والضرب بالعصا والسجن من العقوبات التي أنزلت بالمستضعفين سيئي الحظ من المقومات المشتركة في هذه العروض. كما كانوا يسخرون من أولئك الذين فشلوا في الدفاع عن شرفهم، وأولئك الذين وثقوا ثقة شديدة في خدمهم وعبيدهم، وغالباً ما استهدفت العروض الأوروبيين والأقليات الدينية من المسيحيين واليهود.
3 – صندوق الدنيا:
صندوق الدنيا أو صندوق العجايب، هو شكل من الأشكال الشعبية المسرحية في مصر – وفي بعض البلدان العربية – وهو عبارة عن عرض متتابع لمجموعة من صور الأبطال والأحداث، وهذا النمط يدخل في باب التمثيل على سبيل المجاز لأن عارض الصور يتخذ منهج المنشد أو القصاص في السرد، وتلوين الصوت. والصورة إنما تكبر عن طريق عدسات تحدد بالضرورة عدد المشاهدين الذين ينفرد كل واحد منهم بوجدانه الخاص. وقلما يزيدون في العرض الواحد على أصابع اليد الواحدة. وصندوق الدنيا يحمله صاحبه على ظهره هو والدكة، التي يجلس عليها المشاهدون ويطوف به الشوارع والحارات والقرى. وكلما لمح من قريب أو بعيد سرباً من الأطفال، وضع صندوقه على الحامل وأمامه (الدكة) ونادى الأطفال وأشباههم لكي يسرعوا لرؤية (السفيرة عزيزة) والشاطر حسن وغيرهما من عجائب الأرض، ويخف إليه المشاهدون بعد أن يدفعوا ملاليمهم ويجلسوا على الدكة، وتسدل على رؤوسهم الستارة حتى لا يختلس معهم أحد ممن لم يدفع الملاليم النظر إلى ما يُعرض من أعاجيب، ومن خلال فتحات زجاجية يرى المشاهدون عدة صور ملونة تتعاقب أمام أبصارهم المشدوهة. وصاحب الصندوق يفسر ما يرونه ويعلق عليه تعليقات مثيرة قائلاً: (شوف يا سيدي، وآدي السفيرة عزيزة اللي جمالها ما خطرش، وعينها اللي زي الفنجان، وبقها اللي زي خاتم سليمان، اتفرج يا سلام وعندك كمان، عنتر بن شداد اللي قتل الفرسان وأدهش الأنام وكل ده عشان عبلة صاحبة الدلال والجمال) (3).
** خاتمــة:
تحدثنا عن المظاهر المسرحية، التي حاول الباحثون إقناعنا بأنها تُمثل المسرح العربي المفقود، أملاً في تصديق أننا نملك مسرحاً عربياً له خصوصية، تختلف عن المسرح العالمي! ولكن هذا الأمل لم يتحقق، وبرر هذا الأمر سعد الله ونوس بقوله:” إن خلو تراثنا من المسرح كان بمثابة الجُرح الغائر في كبريائنا الحضارية. ولهذا صرفنا الكثير من الجهد إما لتسويغ هذا النقص، أو لتلفيق تراث مسرحي يستدرك النقص، ويضفي على حضارتنا كمالاً ” (4).
إذن لم يبق أمامنا إلا العودة إلى مقولتنا الأولى (المسرح فن غربي وافد إلينا)! وأول من جلبه وقدمه (مارون النقاش 1817-1855م) رائد المسرح العربي بلا منازع، حيث إنه أول من أقام مسرحاً عربياً في بيته في بيروت، وعرض فيه أول مسرحية باللغة العربية، وهي مسرحية (البخيل) عام 1848م، التي حضرها بعض القناصل والأعيان. وفي عام 1850 عرض مسرحيته الثانية (هارون الرشيد) أو (أبو الحسن المغفل)، ثم عرض مسرحيته الثالثة والأخيرة، وهي (طرطوف) لموليير، التي قدمها باسم (السليط الحسود). ولحسن الحظ أن تاريخ هذا الرائد مازال معروفاً، ومتداولاً بين أيدي الدارسين بفضل شقيقه (نقولا النقاش)، الذي نشر كتاباً عام 1869 بعنوان (أرزة لبنان)، جمع فيه كل أعمال شقيقه مارون من (مسرحيات، وخطب، وأشعار، وتاريخ …. إلخ).
وللأسف الشديد تتعرض ريادة (مارون النقاش) للمسرح العربي إلى محاولات صهيونية للتشكيك في حقيقتها التاريخية وقيمتها الفنية، يقوم بها الكيان الصهيوني في محاولة – يائسة – للقول بأن اليهود هم أصحاب الريادة في تاريخ المسرح العربي!! فقد نشر الدكتور فيليب سادجروف عام 1996 كتاباً بالإنجليزية بعنوان (المسرح المصري في القرن التاسع عشر) (5)، قال فيه: إن أول مسرحية عربية كتبها يهودي جزائري اسمه (إبراهام دانينوس)، وكانت بعنوان (نزاهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة طرياق في العراق)، وهي مطبوعة بالحجر في الجزائر عام 1847م! كما ألمح بأن مسرح مارون النقاش كان أوربي الطراز!!
ومن خلال هذه الإشارات، يفهم القارئ أن سادجروف يقصد بأن الريادة الحقيقية للمسرح العربي لم تكن على يد مارون النقاش – صاحب التجارب المسرحية العربية الأوروبية الطراز – بل كانت على يد إبراهام دانينوس مؤلف أول مسرحية عربية الطراز! وتجلية هذا الأمر، تتمثل في أن سادجروف نشر – بعد كتابه هذا مباشرة – كتاباً آخر عام 1996م بالاشتراك مع شامويل موريه Shmuel Moreh – أستاذ الأدب العربي الحديث بالجامعة العبرية – بعنوان (الحركة المسرحية عند يهود البلاد العربية في القرن التاسع عشر). وهذا الكتاب احتوى نصوصاً مسرحية عربية لمؤلفين من اليهود العرب في الجزائر وسورية، والدراسات المصاحبة لهذه النصوص تصف مؤلفيها بأنهم رواد المسرح العربي الحديث، وأول نص مسرحي منشور كان (نزاهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة طرياق في العراق) لإبراهام دانينوس.
وعلى الرغم من أن الكتاب ذكر صراحة إن هذه المسرحية تم اكتشافها من غير ذكر تاريخ لها أو مكان لنشرها، إلا أن الكتاب نشرها وذكر إنها أُلفت حوالي سنة 1847م، وفي موضع آخر قال ربما سنة 1847م!! وهذا يعني أن هذا التأريخ غير مؤكد، ومن المحتمل أن المسرحية غير مؤرخة!! ومهما يكن الأمر، فإن هذا التاريخ يسبق التاريخ المعروف لعرض مسرحية (البخيل) بوصفها الريادة العربية المسرحية المعروفة لمارون النقاش، إلا أن كتاب الحركة المسرحية عند يهود البلاد العربية شكك في هذا التاريخ عندما تناول مسرحية (البخيل) مُشيراً إلى أنها مُثلت في بيروت عام 1847م أو في فبراير 1848م، كما جاء صراحة في الكتاب. ومن خلال هذا التشكيك ينتهي الكتاب إلى استنتاج مفاده، أن مارون النقاش لم يكن رائداً مسرحياً عربياً عام 1848م، لأن عروضه كانت أوروبية الطابع، بعكس إبراهام دانينوس مؤلف أول مسرحية عربية الطابع عام 1847م.
وبذلك يستنتج قارئ الكتاب أن اليهود كانوا رواداً للحركة المسرحية العربية في القرن التاسع عشر. وفي عام 1997م قال شامويل موريه صراحة في مقدمة مسرحية (الأحمق البسيط): ” وبذا يكون إبراهام دانينوس قد سبق مارون النقاش منشئ المسرح العربي “! والجدير بالذكر في هذا المقام، أن الدكتور مخلوف بوكروح – الأستاذ الجزائري – أعاد تحقيق ونشر مسرحية (نزاهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة طرياق في العراق) – عام 2003م في الجزائر – وفي تقديمه أكد على أن ريادة مؤلفها تتمثل في تأليفها ونشرها، من غير أن يتنكر لريادة مارون النقاش المعروفة، أو التلميح ليهودية إبراهام دانينوس. كما أنني قابلت الدكتور مخلوف بوكروح في الجزائر، وتحدثت معه في هذا الشأن، فأكدّ لي أن نص مسرحية إبراهام دانينوس غير مؤرخ، بل والنسخة الوحيدة غير موجودة الآن في المكتبة الوطنية الجزائرية (6)!!
** الهواميـش:
(1):– إدوارد وليم لاين – عادات المصريين المحدّثين وتقاليدهم (مصر ما بين 1833-1835) – ترجمة: سهير دسّوم – مكتبة مدبولى بالقاهرة – ط1 – 1991 – ص(399 – 401).
(2):– للمزيد، انظر: جريدة الوقائع المصرية 31/3/1869م، مجلة وادي النيل 23/4/1869م، علي مبارك – علم الدين – الجزء الثاني – مطبعة جريدة المحروسة بالإسكندرية – 1882م – ص(403)، أحمد أمين – قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية – مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر – ط1 – 1953 – (مادة ابن رابية أو أولاد رابية) – ص(9)، د.نجوى عانوس – مسرح يعقوب صنوع – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1984م – ص(14، 15)، مانفريد فويديش ويعقوب لاندو – المسرح الشعبي العربي في القاهرة سنة 1909م: أحمد الفار ومسرحياته الشعبية – سلسلة النشرات الإسلامية – عدد38 – دار النشر: فرانتس شتاينر شتوتكارت – بيروت 1993م، حبيب أبلا مالطي – الأحمق البسيط: رواية كوميدية – تحقيق وتقديم : شامويل موريه وموسى شواربه – سلسلة منشورات الكرمل – عدد7 – حيفا – 1997م – ص(22، 23).
(3):– راجع: د.علي إبراهيم أبو زيد – تمثيليات خيال الظل – دار المعارف – 1983 – ط2 – ص (40، 41).
(4):– سعد الله ونوس – السابق – ص(15).
(5): – هذا الكتاب قمت بنشره في مصر عام 2007 من خلال المركز القومي للمسرح، وقام بترجمته د.أمين العيوطي، وقمت بكتابة المقدمة والتعليقات على الترجمة.
(6): – للمزيد ينظر: P.C. Sadgrove & Shmuel Moreh: Jewish Contributions to Nineteenth-Century Arabic Theatre, Oxford: Oxford University Press, 1996.، حبيب أبلا مالطي – الأحمق البسيط: رواية كوميدية – تحقيق وتقديم: شامويل موريه وموسى شواربه – سلسلة منشورات الكرمل – عدد7 – حيفا – 1997م – ص(24)، إبراهيم دانينوس – نزاهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة طرياق في العراق – تحقيق وتقديم: مخلوف بوكروح – المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، وحدة الرغاية – الجزائر – 2003م.
 
* * أ.د. سيد علي إسماعيل/ قسم اللغة العربية – كلية الآداب – جامعة حلوان
 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت