"المسرح الفردي في الوطن العربي…"

عن/ جريدة المساء، عدد: 2857
تداخل الأجناس الفنية والأدبية أصبح ضرورة واردة، فرضتها الوضعية الثقافية الحالية، لما أفرزته من تفاعل على المستوى الإبداعي، فبدون هذا الجوار والحوار والانفتاح، لا يمكن لأي تجربة إبداعية كيفما كان نوعها أن تضمن سيرورتها في الزمان والمكان، وهي ظاهرة أطلق عليها النقاد «تعدد الأجناس». ورغم اختلاف هاته الأجناس، تمكن العديد من الكتاب من تجاوز الشروط الراسخة والثابتة والقائمة للفعل الإبداعي في محاولة للبحث عن منافذ أخرى، تجعل من تجاربهم الإبداعية مطبخا ومختبرا، وشرفة أو عتبة للغور في مغامرات استكشافية عبر الترحال والتنقل من جنس إلى آخر. لذلك أصبح العبور من الشعر إلى القصة أو الرواية أو العكس…حالة خاصة تعتبر في حد ذاتها حقا في دفاع الكاتب عن مشروعية ما ينتجه فكرا وكتابة، فالواقع برهن على أهمية هذا الانفتاح، لما يحبل به من أفكار جديدة قد تساهم في بلورة الرؤية الإبداعية وإثراء الإنتاج الثقافي بصفة عامة، خاصة بعد ظهور سلطة الصورة التي أصبحت تحديا مطروحا على الأدب. اهتمام التشكيلي والسينمائي بالأجناس الأدبية صار هو الآخر أمرا واردا، لاكتمال مشروع الرؤية الإبداعية في شموليتها، وما عرفه تضامن والتفاف الفنانين والمثقفين حول إنتاج المعرفة جماعيا في أواخر القرن الماضي، ليس إلا دليل على أهمية هذا التفاعل الإيجابي، الذي شكل اتجاهات أدبية وفنية متعددة، كان نتاجه ظهور مدارس متعددة بمقومات إبداعية جماعية.
** محمد الشغروشني:
يأتي كتاب «المسرح الفردي في الوطن العربي.. مسرح عبد الحق الزروالي نموذجا» للإعلامي والناقد الطاهر الطويل في سياق الإصدارات التي ترعاها الهيئة العربية للمسرح، وكأحد تجليات العمل الثقافي والجمالي الذي تسعى هذه الهيئة إلى ترسيخه كتقليد توثيقي لمجمل الحركية المسرحية العربية، نصا وعرضا ونقدا، وعلى مستوى التلقي من خلال المهرجان السنوي المتنقل بين العواصم العربية، إسهاما من هذه المؤسسة في حفظ الذاكرة المسرحية من جهة، وتحفيز الفاعلين المسرحيين على امتداد الخريطة العربية على الإنتاج والإبداع من جهة أخرى.
تتوزع المادة النقدية لكتاب «المسرح الفردي في الوطن العربي..» على مساحة 134 صفحة من القطع المتوسط، وينقسم المتن إلى ثلاثة فصول هي على التوالي: هوية المسرح الفردي، تجربة عبد الحق الزروالي، قراءة في مسرحية «رحلة العطش» لعبد الحق الزروالي؛ بالإضافة إلى خاتمة ومدخل صدره المؤلف بمجموعة من الأسئلة/ المفاتيح أو العتبات المشهية لتقبل خطابه النقدي، الذي يروم التوثيق للظاهرة المسرحية موضوع الدراسة، وهي المونودراما في سياقيها الغربي والعربي، وموضعة تجربة المسرح الفردي عند أحد رواده وخلاصه، ممثلا في المبدع عبد الحق الزروالي قيد البحث والتحليل لأحد نصوصه الدرامية الرائدة في مجالها.
لقد سعى هذا المؤلف على المستوى المنهجي إلى الاعتماد على قراءتين اختصت إحداهما بمقاربة تعاقبية تأريخية لظاهرة مسرحية ذات جذور تاريخية تعود إلى بدايات الفن المسرحي أو الظاهرة التمثيلية الإنسانية منذ اليونان حتى اليوم، وهي ما اصطلح عليه بالمسرح الفردي أو مسرح الممثل الواحد أو المونودراما، هذا المصطلح المحايث بطبيعة خطابه لأحد عناصر النص الدرامي، وهو المونولوج أو المناجاة أو الحوار الداخلي، وإن كان المونولوج يختلف اختلافا جذريا عن المونودراما، بالرغم من التقاطعات التي تجمعه مع هذا الجنس المسرحي، ذلك أن المونولوج استغوار للذات المفردة باستحضار آلامها وآمالها في لحظة تفرد خاصة بعيدا عن صراع الشخصيات مع بعضها البعض أو صراع شخصية ما مع محيطها؛ فالمونولوج كشف عن أسرار الأنا أمام الأنا/الذات وأمام الآخرين أو جمهور المتلقين، في لحظة انفلات من سياق الأحداث الجارية داخل النص الدرامي أو العرض المسرحي وإن كان يشكل إضاءة لها. والمونولوج بهذا المعنى رؤية للعالم والشخصيات والكون والذات لذاتها معا؛ بينما المونودراما عمل مسرحي متكامل بقدر ما يحكي مأساة الذات الحاكية أو الراوية أو المشخصة، بقدر ما يعرض أحداثا وشخصيات وأفعالا عبر الاستحضار والتخييل، ويتوسل لذلك بكل الممكنات والوسائل الركحية، ممثلة في السينوغرافيا والأكسسوار والأقنعة التشخيصية والمادية والملابس وغيرها.
ولئن كان المونولوج خطابا تهرب به الشخصية من جماعيتها إلى فردانيتها، باعتبارها عنصرا أو شخصية من باقي العناصر أو الشخصيات الصانعة للأحداث؛ فإن المونودراما ما انفكت تؤسس خطابها الدرامي والركحي على المفرد الذي ينشد جماعيته وتعدديته؛ بدءا من المرحلة البدئية للمسرح اليوناني مع تجربة «ثيسبيس»، وصولا إلى ما سمي بالأشكال الماقبل مسرحية العربية كالسامر والحكواتي وغيرهما من الأشكال المسرحية المنتشرة على امتداد الخريطة العربية، والتي شكلت موضوعا للسجال النقدي والنظري حول تأصيل المسرح العربي في مواجهة صدمة الحداثة المسرحية الغربية، وتعددت بشأنها الاتجاهات والرؤى والمواقف، من منطلق «التمرد على الشكل الغربي التقليدي للمسرح، لأنه ذو طبيعة زجرية وقمعية تكبح كل رغبة في محو أية قطيعة كائنة أو ممكنة بين الممثل والجمهور، كما أنها تعمل على تكريس نمط من الطقوس الصارمة، تعطي السيادة الكاملة لفكرة الإيهام..».
بينما أفرد المؤلف الفصل الثاني لمقاربة موضوعة المونودراما كاشتغال أساسي في مسرح عبد الحق الزروالي، باعتباره من الرواد المسرحيين الذين كرسوا حياتهم الفنية لهذا الجنس المسرحي، واتخذوا الظاهرة المسرحية الفردية أسلوبا تعبيريا جماليا ومسرحيا، تتحاور فيه الهموم والقضايا الذاتية والموضوعية، وتتوحد داخلها الذات الكاتبة والرؤية الإخراجية والعمل التشخيصي؛ لا زال يراكم منجزه الإبداعي بصبر وعناد ثقافي متفرد، إلا أنه غدا يشكل امتدادا تاريخيا في سياق المشهد المسرحي مغربيا وعربيا؛ وأثار جدلا نقديا ومقاربات توزعت بين الرفض والقبول، وأثمرت مجموعة من الخصائص النوعية لهذا الجنس المسرحي من منطلق كونه إضافة جمالية وفكرية لجسد الممارسة المسرحية، تنبني على الاستمرارية والامتداد الزمكاني، واستلهام المأثور الشعبي ومنجزات المسرح العالمي، ورؤية فكرية تعيد للفرد حضوره الفاعل في المجتمع في مواجهة الآلة القمعية، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو غيرها من الأدوات الكابتة للحرية الفردية.
وعلى مستوى الداخل، اختصت تجربة عبد الحق الزروالي بخصائص جمالية، منها الاختزال والتكثيف وردم الهوة الفاصلة بين الممثل والمتلقي واعتماد النص الدرامي قاعدة أساسية للعرض المسرحي، بالإضافة إلى حضور المرأة كرمز متعدد الدلالات في جل أعمال هذا المبدع المسرحي، واعتماده على لغة ذات ميسم شعري في خطابه الدرامي والركحي معا.
أما القراءة الثانية فقد استندت على مقاربة سيميولوجية، سعى المؤلف من خلالها إلى تحليل البنية الحكائية لمتن النص الدرامي «رحلة العطش»، كاشفا عن الشخصيات والصراع والفضاء المكاني والزماني والحوار، ومستبطنا الحقل الدلالي ومرجعياته الثاوية في جسد النص.
وإيمانا من المؤلف بأحقية السؤال كمفتاح للمعرفة، فقد ذيل الدراسة بالتساؤل عن مستقبل المسرح الفردي في الوطن العربي، إذ يكتب: «إن استمرارية مسرح الممثل الواحد وتطوره، تتطلب وعيا عميقا بأسسه الفنية وأيضا وجود ريبرتوار نظري ونصي في المجال نفسه». وإن كنا لا نختلف مع المؤلف فيما خلص إليه من هذه الدراسة، فإن المونودراما هي في حاجة كذلك إلى الممثل القادر على حمل عبء العرض بكل ما يتطلبه ذلك من إمكانيات وقدرات فكرية وتخييلية وجمالية.
** الدَّال الإيقَاعي في ديوان «حانة المحو» لصالح البريني
ـ رشيد الخديري:
يَتَشَعَّب الخطاب الشعري في تجربة «حانة المحو» للشاعر المغربي صالح لبريني، ويتكامل وفقَ رؤى وذُروات تروم الإقامة في الكتابة، ذلك أن المُتعالي النَّصِّي يُراهنُ على عددٍ من الدوال بُغيَة الوصول إلى النَّهر الشِّعري، نهيرٌ دافق باستمرار، يُغَيِّرُ مجراه ويتجدد بتجدد «نبض الخلية»، حيث تصير الذاكرةُ منفى والحروف جسراً للعبور نحو سراديب الذات، وصالح البريني أصابته لعنة الكتابة مذ أمدٍ بعيد، ظل متيقناً بقدرة الكتابة على تنظيم نبضات القلب، والإقدام على الحياة، إنها لعنات قدرية تُرَتِّبُ تلك الفوضى التي تتركها أشكال الشغف والجنون، وما أجمله من جنونٍ، حينَ تتآمر القصيدة على نفسها، على مبدعها، على الأنساق والرؤى، لتسكن في الأخير مساحات بحجم الأنفاس.
«النفحة الموسيقية للكلمات»، بتعبير الشاعر السوري عماد الدين موسى، هي ما تتصف به تجربة «حانة المحو»، فقد ظلت القصائد السبع محكومةً بنفس إيقاعي- جرسي، كدال أكبر تتصالح فيه التجربة الشعرية وتتكامل مكونةً سلالم موسيقية بالتوزاي مع باقي الدوال الأخرى. صحيح، أن الإيقاع الشعري يعلو تارة ويخفت تارات أخرى، بحسب الطاقة التفجيرية – الانفجارية للحروف، بمعنى آخر، الدَّال الإيقاعي يُوهمنا في أكثر من مقطع، بأننا إزاء عمل شعري ينتمي ضمنيا إلى شعر التفعيلة، وهو في الواقع ينتسب إلى القصيدة النثرية، وهذا يوضِّحُ بجلاء التَّشَبُّع بإيقاعات القصيدة العربية. ثمة إذن وعي باشتراطات القصيدة الآن، وببنائها الجمالي والدلالي، والشاعر في جنوحه نحو الإقامة في الإيقاع، رغم أن قصيدة النثر- كما يتوهم البعض منزوعة الإيقاع والخيال- لكن، هناك من الشعراء من يحسنُ الإنصات إلى ذاته، والذات في كلياتها مرتع للموسيقى والإيقاع.
في القصيدة المفتتح «قنديل الغياب»، يأخذ الإيقاع في البداية، بل يتَلَبَّسُ تفعيلات المتدارك، لكن، سرعان ما سيتفتت الإيقاع أمام التفجيرات الشعورية – الشعرية، ويخفت أمام قوة التعابير والصوريات، وهنا، يتم اللجوء إلى التوزيع الجملي والتعالقات النصية وبنية الحروف، وتوارد الحواس كنوعٍ من التمارين الإضافية على تلبس الإيقاع والاحتماء في دواله، يقول صالح البريني في قصيدة «قنديل الغياب»: يتربَّعُ عرشُ سرِّي/ وسرِّي لا يملكه إلا شعري/ يُظلِّلني بسدفة دهري (ص: 08). يتكرر حرف الراء أربع مرات، وبتكراره يتواتر الجرس الشعري في اتساقٍ تام مع حالة البوح والانطلاق… سري/ شعري/ دهري كنظامٍ تقفوي إيقاعي راهن عليه الشاعر من أجل فتح قنوات للتهوية والرفع من منسوب الأداء الشعري بما يتوافق مع الرؤى والأوفاق والمرجآت. هذه الرؤى المُراهن عليها في العملية الشعرية لا تستقيم عند صالح البريني بدونِ إيقاعٍ تستند عليه، تستضيء به وتتشعب فيه، ودائماً التّموجات الإيقاعية تلقي بظلالها داخل النسيج الشعري، حيث لا تخلو القصائد في هذه التجربة الشعرية منها. ثمة رهان إذن على الإيقاع لنقل الدفق الشعوري، ومحاولة ضبط الشحنة التعبيرية وتأطيرها بما يخدم النص.
إن الإيقاع الشعري في حانة المحو يستمد سيرورته من الشعرية العربية. صحيح أن ذلك يبدو ملتبساً حين يتعلق الأمر بـ»قصيدة النثر»، لكن، بالنسبة للشاعر صالح البريني، الذي اكتوى بنيران القصيدة ممارسةً وتنظيراً، كتابةً وتدريساً، يدرك تمام الإدراك الغايات الكبرى من الإيقاع والإيقاعية في تأثيث أفضية النص الشعري، وكما قلنا واستتباعاً لما سبق، فإن الرهان على خلق عالم مموسق من خلال موسيقى الحروف والتوزيع الجملي الغاية منه: الإقامة في الكتابة بنفس مغاير عن التجارب المُجايلة، والنأي بها بعيداً عن اجتراحات القصيدة راهناً، والتي أصابت أصحابها بالتنطع والتعالي والتطاوسية، وكل ما هناك، تعالقات نصية بدون روح ولا وعي بالكتابة الشعرية. ومهما يكن، فإن الشاعر يتغيا التحليق في سماوات القصيدة، بالاتكاء على الدال الإيقاعي، والاتجاه بالكتابة نحو أفق رحب رحابة الشاعر صالح البريني.
** سؤال الحداثة وما بعدها في كتاب محمد الشيكر
إصداره الجديد تحت عنوان: «الفن في أفق ما بعد الحداثة: التشكيل المغربي نموذجا» بمقدمة، متسائلا عن مفهوم ما بعد الحداثة في الفن، لكنه اعتبر هذا المدخل توطئة سجالية تحمل أكثر من معنى وتتضمن دلالات متعددة، جعل منها جسرا ليستجمع عددا من الآراء حول هذا المفهوم، قبل أن يتحدث عن إمكانية وجوده، خاصة في التشكيل المغربي كنموذج.
ولهذا اعتبر الباحث هذه التوطئة بمثابة سؤال لا يريد الخوض فيه قبل الحديث عن مفهوم الحداثة أولا، مستشهدا بمقطع من حوار للمفكر المغربي عبد الله العروي، الذي أعرب عن رأيه وعن رفضه المطلق لمفهوم ما بعد الحداثة، إذ يقول: «لقد كثر الكلام لدى بعض المثقفين أو أنصافهم عن مجتمع ما بعد الحداثة! أي مجتمع ما بعد الحداثة بالنسبة للمغرب؟! نعرف مجتمع ما قبل الحداثة، ولم نر مجتمع الحداثة بعد».
وبهذا يكون الباحث محمد الشيكر بعدما استشهد بهذا المقطع من حوار العروي، قد شكك هو الآخر في وجود مفهوم ما بعد الحداثة، باعتباره لا يشكل القطيعة المبرمة مع الحداثة، لما تشكله من لبس باعتبارها على حد ما يدعو إليه المفكر المغربي محمد سبيلا «بالامتساخ التاريخي وعمى الألوان».
لم يقف الباحث محمد الشيكر عند هذه الآراء، بل ذهب لينتقي وجهات نظر أخرى كما هو الحال عند الفيلسوف فانسان ديكومب، إذ يقول: «لقد كان الإنسان الحداثي يعتقد، بعمق، بأن للتاريخ معنى، من ثمة كان بمقدوره أن يتشيع ويدافع عن قضايا بعينها، وأن يلتزم داخل تنظيم سياسي. أما الإنسان ما بعد الحداثي فهو نفس هذا الشخص الحداثي، وقد تغلب فيه الحس النقدي على آخر ما تبقى من سذاجته».
وبهذا يكون الخطاب النقدي الذي اعتمده محمد الشيكر في هذا المؤلف، هو خطاب مبني على مرجعية فلسفية أراد لها أن تكون دليلا ومقياسا لتحليله نظريا للنص المرئي، انطلاقا من مناهج اختلفت في تصوراتها لمفهوم ما بعد الحداثة اعتمادا على حس استنباطي وشاعري لا تخلو من لمسة شخصية في طريقة التحليل والتمحيص.
ولهذا ومن هذا المنطلق، استند محمد الشيكر في مؤلفه عن الحداثة وحداثة الحداثة أو كما سماها بالحداثة والحداثة البعدية، إلى ثلاث مراحل تناولت الإرهاصات الأولية كفعل إستيتيقي عند كل من الغرباوي والشرقاوي، في شقها الأول، ثم تشكل الخطاب الحداثي انطلاقا من تجربة مدرسة الدار البيضاء لكل من فريد بلكاهية، محمد شبعة ومحمد المليحي في الشق الثاني، بينما تناول في الشق الثالث والأخير أعطاب الحداثة التشكيلية المغربية، التي أحالتنا على إحدى مقالات الباحث الجمالي إبراهيم الحيسن تحت عنوان: «المنجز التشكيلي بالمغرب: خرافة الانخراط في الحداثة البصرية».
فبعد جرده التاريخي لبداية التشكيل المغربي منذ سنة 1916، في الفصل الأول من الكتاب مع ظهور الفنان محمد بنعلي الرباطي، أشار محمد الشيكر إلى أن بدايات التشكيل المغربي الفعلية لم تسجل حضورها إلا مع ظهور الفن الفطري، في أواخر الثلاثينيات، مقترنة بأسماء من عيار أحمد الودغيري ومحمد بنعلال واليعقوبي وغيرهم، محاولا الوقوف على التطورات التي عرفها هذا الاتجاه الذي ارتبط بالمتخيل الشعبي… ليصبح فيما بعد تقليدا بصريا حرفيا وتزيينيا تقليديا ليخلق له عالما قريبا من السريالية، إلى حين ظهور مدرسة تطوان سنة 1945، التي فرضت منهجا تشخيصيا أكاديميا كان من بين المعترضين أو المتمردين عليه الفنان محمد شبعة، وخاصة في أعماله المائية الأولى.
بعدها انتقل محمد الشيكر إلى مرحلة أخرى ارتبطت باسم الغرباوي، كأحد أقطاب الحركة التجريدية بالمغرب منذ بداية الخمسينيات، متحدثا عن تجربته التي كانت تحاول أن تقبض على الضوء من خلال أشكال حداثية انسلخت من هيمنة وانغلاق الشكل الهندسي، ومع ذلك أشار المؤلف على لسان الغرباوي إلى أن «الفن لا يمكن أن يتطور في بلد ما إلا حين تكون البنيات الاجتماعية والاقتصادية سانحة». وبناء على هذا المعطى، فإن الشرط التاريخي يقول الشيكر «لم يكن يشكل محضنا لاستنبات البذرة الحداثية في تلك الفترة».
كما لم ينس المؤلف في الفصل الثاني من الكتاب الموسوم بـ «لغة العلامة وأفق الحداثة» بأن يدرج تجربة أحمد الشرقاوي ضمن نسق الكتابة بالعلامات، كإحدى التجارب الرائدة التي جايلت تجربة الجيلالي الغرباوي، باعتبارها لغة الوشم، وباعتبار الشرقاوي كما قال الخطيبي: «كان يدرك فرادته كفنان تجريدي لا يتساهل أمام الواقعية الوصفية ولا يتنازل أمام الاستشراق التصويري الحسي، بل يدرك أن الرسم الفني هو كتابة بالعلامات». ولهذا السبب، اعتبر محمد الشيكر بأن الرهان الذي كانت تستند إليه تجربة الشرقاوي هو المضي بالحداثة شطر معانقة الموروث الفني التقليدي واستدماجه على نحو إيجابي على حد قوله.
أما في القسم الثاني من الكتاب، الذي خصصه الشيكر للتجربة التشكيلية المغربية ومشروع الحداثة، فإنه جمع فيه بين التجارب الحداثية والفطرية وما آلت إليه الوضعية التشكيلية المغربية على مستوى الصراع المفاهيمي القائم بينهما، في إطار مناهضة السلطة الاستتيقية والمعرفية السائدة المتمثلة في الإرث الاستعماري. واستشهد في ذلك بتجربة مجلة «أنفاس»، كسند إعلامي وثقافي باعتباره عتبة ومدخلا للمشروع الحداثي الذي تبناه كل من محمد المليحي، فريد بلكاهية ومحمد شبعة، ثم الانتقال في الفصل الثاني، إلى المواجهة القائمة بين التقليد والحداثة، مستشهدا بالدور الذي قامت به مجموعة 65 في هذا المضمار.
بينما في القسم الثالث والأخير، فقد تناول في شقه الأول «إشكالية أزمة الحداثة»، بمفارقاتها وعللها، أما الشق الثاني فقد طرح موضوع ما بعد الحداثة بدلالاتها وإشكالاتها، مع الاستشهاد برؤية الناقد جان لوك شاليمو في قوله بأن «ما بعد الحداثة، عالم صقيل راكد، لا تمثل فيه ملامح اليأس سوى اختلالات عابرة، والصراعات فيه لا تنطوي على رهانات شمولية، كما أنه لا أحد يحلم فيه بتقويض كل شيء من أجل إعادة خلقه وإبداعه من جديد. في الوضع ما بعد الحداثي يكتفي الفنان بتكريس ضرب من التعايش السلمي بين الأساليب». ليخلص محمد الشيكر في الفصل الثالث الذي أنهى به كتابه، إلى أن المشروع الحداثي العربي في عموميته يحمل من التناقضات ما يجعل إيديولوجيته الطوباوية سببا في انحساره المبكر.
** أسْفَلُ الظُّلَّةِ، خَلْفَ الحَائِلِ الأرَقِّ
1
آهٍ أيُّها الجَسَدُ البِلا أخْطاءٍ
كَمْ مِنْ أَخْطَاءَ كَثيرَةٍ كَثِيرَةٍ
مَعَ نِصْفِ قَمَرٍ عابِرٍ
فَوْقَ أشْجَارِ الرَّصِيفِ العَارِي
جُنُودٌ فِي إجَازَةٍ يُدَخِّنُونَ
أسْفَلَ الظُّلَّةِ
لَقَدْ كَانَتْ تُمْطِرُ طوال النَّهَارِ
أسْمَعُ المَاءَ يَتَدَفَّقُ لاَنِهائِياً
مِنَ المَزَارِيبِ إلَى الشَّوَارِعِ
رَغْمَ أَنَّنِي أعْرِفُ
أنَّ تَذْكِرَةَ السَّفَرِ هَذِهِ
قَدْ فَاتَ أوَانُها.
الجَسَدُ ــ يَقُولُ ــ
فِي حَالَةِ الجَرِّ : بِالجَسَدِ
والجَسَدِ عموماً
لاَ كلامَ أكْثَرَ إيجازاً لَدَيَّ
آخُذُ الحَقِيبَةَ البلاستيكّيَةَ
وأدْخُلُ مَطَاعِمَ عُمُومِيَةً
أجْمَعَ عِظامَ السَّمَكِ
لِقَطَطِ الحَيِّ البريَّة
وخِلالَ فَترَاتِ الاسْتِراحَةِ
ــ يقول ــ
أُكَلِّمُ المُوسِيقِيِّينَ
فِي جَانِبِ المَسْرَحِ المُعْتِمِ
يَا للمسافَةِ اللاَّنِهائِيَّةِ التي قَطَعْتُها
مِنْ جَسَدِكِ
وإلَيْهِ.
2
جَسَدُكِ عَلَى الرَّمْلِ
الرَّمْلُ يَلْتَصِقُ بِلَحْمِكِ
رَمْلٌ عَلَى يَدَيَّ
وعلى لِسَانِيَ رَمْلٌ
يَسْتَبِينُكِ
خَلْفَ الحَائِلِ الأرَقِّ
الرَّمْلُ يَنْهَمِرُ مِنْ شَعْرِنا
وَيَسْتَقِرُّ فِي أعْمَاقِ الصَّمْتِ
ثّمَّ نَهَضْنا من مِياهِنا
جَمِيلَيْنِ وَقَدْ تَغَسَّلْنا للِتَّوِّ
على ضَوْءِ هذه الأرْضِ
وَجَسَدِها.
– ترجمة تحسين الخطيب
– مقاطع من ديوان «إيروتيكا»
– شاعر ومترجم فلسطيني، مقيم في الأردن
** الشعر والتشكيل داخل نظيمة التلقي الثقافي
تابع المبدع المهدي أخريف غوايته المخصوصة في التفاعل مع حقول العطاء الإبداعي التي يفرزها المشهد الثقافي الوطني الراهن، بإصدار عمل جديد تحت عنوان «الصوت الحتمي»، وذلك سنة 2014، في ما مجموعه 112 من الصفحات ذات الحجم المتوسط، ضمن منشورات اتحاد كتاب المغرب. ويمكن القول إن هذا العمل الجديد يشكل استمرارا لمسار طويل من الجرأة في استنفار ملكة القراءة وفطرة التقاط التفاصيل والاحتفاء بحميميات عطاء الذات المبدعة في علاقتها بمجاوراتها الواحدة / المتعددة، داخل العوالم المخصوصة «لبديع الرماد». لقد استطاع المهدي أخريف الاستجابة لنهمه المستدام بالاحتفاء بالتنقيب وبالتشريح في هذا العمل التجميعي لقراءات عاشقة لأعمال إبداعية، شعرية ونثرية وتشكيلية وفوتوغرافية، تغطي العمر الإبداعي للمهدي أخريف، وهو العمر الذي أثمر تجارب على تجارب ورؤى على رؤى ومسارات على مسارات، ما كان لها لتمر من دون أن تنحت آثارها على صفحات ذاكرة التلقي للشاعر المهدي أخريف. لا يتعلق الأمر بذاكرة مجردة لفاعل مهووس بالكلمة وبلغة الخلق وبترصد التمثلات وبتوظيف الاستعارات، بقدر ما كانت / ولاتزال تجربة منبثقة من صميم متاهات حقول التأصيل لملامح منجز شعري مغربي أصيل، مخصوص في عطائه، ومتميز في تراكماته، ومنفتح في روافده، ومستقل في مبادراته. وعلى أساس ذلك، كان لا بد للمهدي أخريف أن يعود لإنجاز قراءته المتأنية لرصيد منجز الجيل الشعري السبعيني ثم الثمانيني بالمغرب، سواء على مستوى تتبع قيم الجمال الناظمة للهوية الشعرية المحتفية بذاتها أولا، ثم المتفاعلة مع محيطها الإبداعي والثقافي العام ثانيا.
لقد آثر المهدي في هذا التجميع أن ينصت لذاته، بعيدا عن هوس التصنيفات الجاهزة، وكذا تقليعات النقد المتماهي مع يقينياته ومع تنظيراته البراقة الكلاسيكية والمجددة، لكي يحدد أشكال تفاعله مع ما كان يحفل به المغرب الثقافي من عطاء، راصدا عناصر التميز، ومدققا في الخطوات والمبادرات التي ساهمت في التأصيل لشروط التحرر من ضغط الهوس الإيديولوجي السبعيني والثمانيني، في أفق تمهيد المجال أمام بلورة شروط الممارسة الإبداعية الوفية لذاتها ولقيمها الجمالية الرحبة أولا وأخيرا، من خلال استحضار عميق لدروس «الشرط التاريخي» ولرؤاه النقدية المواكبة. ولعل هذا ما انتبه إليه الناقد عز الدين الشنتوف، بالكثير من عناصر الدقة، عندما قال في كلمته التقديمية: «ما يلفت الانتباه في هذا الكتاب قدرته على تقريب المصاحبة والحوار والقراءة من بعضها، فكل عنصر يتضمن الآخرين في اندماجة متحولة وفق خصيصة الموضوع المطروق. وبهذا التقريب يسمح الكاتب لنفسه بتقديم وجهة نظره التي ترتفع إلى مستوى المحاورة، فيما تتهيأ الصياغة للاستنباط بمؤشرات أسلوبية أهمها الالتفات المتضمن للموقف النقدي، دونما تخصيص مفهومي أو اصطلاحي. واستحضار الموقف النقدي هنا، مشروط بزمن الكتابة – بازدواج المكتوب والمكتوب عنه – حيث يتداخل فيه التاريخي بالذاتي، سواء تعلق الأمر بوضعية الشعر، أم بوضعية الفن التشكيلي، أم بغيرهما من الأجناس والفنون … «.
ولتوسيع دوائر هذه الرؤية، سعى المهدي أخريف إلى تحقيق تجاور وظيفي بين حقول إبداعية شتى جمعت بين القصيدة الشعرية واللوحة التشكيلية والصورة الفوتوغرافية، ثم عزز ذلك بحوارات ثقافية موازية، ساهمت في استكناه الكثير من عتمات الكتابة داخل عوالم «بديع الرماد». في هذا الإطار، كان المهدي أخريف دقيقا في ترصد ملامح الطراوة ثم التخصيب الشعري في تجارب بعض من رواد زمانه، ممن أثروا الساحة الثقافية الوطنية المعاصرة، يتعلق الأمر بكل من محمد بنيس ومحمد الأشعري وأحمد هاشم الريسوني وعبد الكريم الطبال ومزوار الإدريسي ولطيفة المسكيني ومحمد الجباري. كما توقف عند جنس القصة القصيرة من خلال ملمح السيرة الذهنية للرائد محمد زفزاف، وانفتح على خبايا تساكن عوالم الشعر والنثر والتشكيل داخل اهتمامات كل من إدمون عمران المليح وسانشيز ألونصو. أما في مجال الترجمة، فقد حرص المهدي أخريف على العودة لاختراق عوالم فرناندو بيسوا المترجم إلى اللغة العربية، من خلال قراءاته الفاحصة لمنجز المترجم حسن وسيني بهذا الخصوص. وبما أن ملمح القصيدة ظل موازيا لصوت التشكيل، فقد انفتح المهدي في قراءاته العاشقة على نماذج تشكيلية أثمرتها انزياحاته المتواصلة نحو الإنصات، وحسن الإنصات، لنبض الممارسة التشكيلية الوطنية المعاصرة، من خلال استحضار أعلام التأسيس أمثال الراحل محمد القاسمي والفنان خليل غريب، ثم – أساسا – من خلال التتبع التشريحي لخصوبة عطاء فناني «المحروسة»، مدينة أصيلا، وخاصة بالنسبة للمبدعين التشكيليين يونس الخراز وسهيل بنعزوز والمختار البقالي، ثم من خلال الاحتفاء الباذخ بتجربة الفنان سعد الحساني وبعوالمه التشكيلية الإبداعية الرحبة.
لقد نزع «بديع الرماد» جبته كشاعر وكمبدع، وانتقل إلى البحث عن معالم التميز التي تكتب للإبداع خلوده داخل المشهد الثقافي الوطني الراهن. هي قراءات تحتفي بذاتها أولا، وتحسن الإنصات لنبض التحول الإبداعي المخصوص في زمانه وفي سياقاته التاريخية، وفق رؤية نقدية تلتحم فيها ذات المبدع مع انزياحات الناقد، ثم مع شغف المتلقي المفتتن بقيم الجمال وبملكة الخلق والإبداع داخل نظيمة الفعل الثقافي العام. هي تعبير عن حالة التفرد التي تعطي لنفسها حق استنطاق الرموز وتفكيك الدلالات واستثمار القراءات. باختصار، هي تعبير عن الولع الفطري لـ»بديع الرماد» المتمرد على أصنام الكتابة وعلى ثوابت الإبداع التجريبي، في مقابل احتفائه الحميمي بمعالم تشظي نسق فردانياته الناظمة لسؤال الإبداع ولقلق الوجود ولأفق التلقي.
** التشظي والوعي بالكتابة
ـ في «قبل أن تستيقظ طنجة» لنسيمة الراوي
ثمة في الكتابة الشعرية النسوية الراهنة بالمغرب رهانات جمالية تجاوزت شعريات المعيار وسلطاتها، مبتكرة بذلك العديد من الأعراف الجمالية الجديدة. وهي بذينك، وضعت مفهوم الكتابة في المهب، وفي مفترق انشقاقاته، أو بتعبير صلاح بوسريف، اختارت «المتاهة، بدل الطرق التي تنتهي بحاجز، أو بسواتر تمنع الاستمرار في المشي، وقطع المسافات الطويلة».
لقد أصبحنا نلاحظ، وسط هذا التدافع الشعري المتكثر، بين الفينة والأخرى، تجارب شعرية نسوية بامتياز. تجارب مائزة بتطلعاتها، إذ لا تني، على حد قول زهور كرام، تثق البتة في المعطى والناجز، بقدر ما تسعى جاهدة لجعل الكتابة تنزاح عن موقعها، وتقترح علينا، بالمقابل.
تفريع الطريق يبدأ من التمرد على عمارة النص، خطية كانت أم رأسية. وهو اختيار جمالي ازدانت به الإضمامة الرائقة والشائقة للشاعرة المغربية الواعدة نسيمة الراوي، والموسومة بـ«قبل أن تستيقظ طنجة». لم يكن في طموح هذه الشاعرة سوى كتابة نص يشبهها. أقصد نصا متشظيا بسمت تيماته البسيطة التي لم تكن، إلى حدود الأمس القريب، تندرج ضمن المدونة التيماتية للقصيدة.
ولعل من ضمن ملامح شعرية التشظي هاته احتفاء الشاعر بالقصيدة الشذرة، وشعرنتها للأشياء البسيطة، وأنسنتها، ثم إيمانها المطلق بجمالية البورتريه، سواء تعلق الأمر بالإنسان أو المكان؛ وهذه ميزة جديدة انمازت بها هذه الأضمومة، حيث إن الشاعرة ما فتئت تصمم بورتريهات لبعض الأشخاص والأمكنة التي أدهشتها وأثرت فيها، فقامت بأنسنتها على نحو يسهل معه توصيفها: طنجة، ريو دي جانيرو، أصيلة.. منير بولعيش، لوركا، الغجرية، شكري…
والحق أن الشاعرة نسيمة الراوي، في اختيارها قصيدة النثر، ليست من أولئك الذين يستنجدون أو بالأحرى يستجدون بركات الهبات الجمالية لهذا المقترح الشعري، تيمنا بحداثة مزعومة، بل اختارت بوعي كبير قصيدة النثر، انطلاقا من إيمانها الراسخ بالإمكانات الإيقاعية التي يمنحها هذا الشكل الشعري الجديد، على اعتبار أن الإيقاع، كدال، هو أكبر من الوزن وباقي الدوال الإيقاعية الأخرى (ميشونيك)، من جهة، ومن جهة أخرى انطلاقا من قناعتها الراسخة بمدى مناسبة هذا المقترح الشعري لبوحها الهامس، ولرغبتها الملحة في كينونة محتملة. كينونة تعفيها من رهق الزمن المعدم، ومن ربقة ذاكرة عصية.
تقول الشاعرة:
يلفظ البحر
كلمته الأخيرة
ويرحل…
خلف نافذتي
فراغات كثيرة
وهذا الأزرق المتبدد في
لا يرحل..
وتقول أيضا:
على أرصفة القلب تكبر
في ذاكرة ترشح ملحا وشعرا
وجراحا تمتد على طول المحيط.
والمتأمل لنصوص هذه الإضمامة الماتعة سيكتشف، بسرعة، أن الكتابة عند صاحبتها تحدث بوعي وهمس نسوي جريح، ما يبرّر التشققات والفجوات الحاصلة في لغة الديوان، وفي الوميض الذي تُحدثه -الكتابة- في دجى المعنى إذا يغشى، فتجعله يتجلى ويتبدى بسرعة فائقة. وهذه سمة من السمات البارزة لتجربة ما يمكن تسميته بـ»ما بعد القصيدة».
الشعر، بهذا المعنى، أقصد معنى الشاعرة نسيمة الراوي، هو تجاوز ذاتي ومستمر للغة، تجاوز ذاتي «للمعنى المدرك، كأنه المعنى نفسه» (جان لوك نانسي). من هذا المنعطف تحديدا، جاء التشظي والتشتت في المعنى بسبب التوتر الحاصل في العلاقة بين الدال والمدلول، بين المعنى ومعنى المعنى (المعنى المضاعف بتعبير ريكور)، في تضاعيف هذه المجموعة الشعرية.
سيقابل هذا الاختيار الجمالي اختيار آخر على المستوى الطباعي للنصوص، حجما وتوزيعا. فالشاعرة تنتصر بشكل كبير للإيجاز والاقتصاد في القول بوعي مكين بهذا الشرط، مع تجنبها ما أمكن للنفس الطويل في الكتابة، باعتباره سمة كتابية ذكورية بامتياز. ولعل المتأمل لهذه النصوص يمكنه أن يلحظ ذلك؛ ولا يمكن بأي حال من الأحوال، أن يكون مرد ذلك هو الضعف أو الفقر الإبداعيان عند الشاعرة، وإنما مرده بالأساس إلى إيمانها بأن التعبير عن اللحظات الهاربة في الحياة، والتي كثيرا ما نغفلها، لا يمكن أن يتحقق إلا بالبوح الهامس:
1- كلما أوجعتني الحياة،
أذبت قرص الشمس
في كوب البحر..
2- الغيمات حمامات مصلوبة
على سقف السماء
المطر نزغها
والبحر لا يتوقف
عن الغناء..
إن جل نصوص الديوان، حتى وإن طال حجم بعضها، تنهض على ما يمكن نعته بشعرية التشذير والوميض، مما يعطي للنص توهجه ولمعانه، حتى لو كان المعنى في ليله. فالشاعرة، وهي تراهن على اللغة في مستواها الهامس، تضع نفسها في مواجهة لغتها، فتتحول النصوص، جراء ذلك، إلى ضرب من اللعب المرآوي للتشظي كمدونة ممزقة ومشتتة، فتصبح الأشياء، وفق هذه الترسيمة، في مواجهة نفسها:
الغياب………..الحضور
المدينة…………….البحر
الذاكرة…………..الواقع
الألم……………….الفرح
ومن الأشياء المحركة لماء الكتابة، عند نسيمة الراوي، بين دفتي هذا الديوان، نلفي شعرية البحر، بحضورها اللافت. فليس من شك أن للبحر ذاكرة، هي أقوى من ذاكرة الإنسان نفسه؛ لذلك فهو لا ينسى أبدا:
على أرصفة القلب تكبر
في ذاكرة ترشح ملحا وشعرا
وجراحا تمتد على طول المحيط.
إن البحر بالنسبة للشاعرة عالم غامض. فهو تارة حلم شاعل، وتارة ثانية موت، وتارة ثالثة عاشق. مفارقة يصعب فهمها أو حتى القبول بها. ومع ذلك للبحر متسع في قلوب العشاق:
1- تحت البحر مقابر جماعية
لمدن اغتالها البحر…
فوق البحر مقابر جماعية
لغجرية واحدة
يغتالها البحر..
2- البحر قصر
يشرع أبوابه
للعشاق..
ولأنهم كثر
خلعها..
ذاكرة البحر، ها هنا، متيمة بالشاعرة، أو بالأحرى بحضورها العيني، مثلما أن حضور الماضي/ الذكرى، بالنسبة لنسيمة لا تتحقق إلا في حضرة البحر، وفي غفلة من السيدة المدينة/ طنجة:
ماء يتسلق الماء
هو الموج ينحدر دفعة واحدة
لأنه يعلم أني على الشاطئ
أنتظر الكابوتشينو.
هي إذن لعبة الحضور والغياب، التذكر والنسيان. حضور المعنى المُفتقد في طنجة أقصد، وغيابه في الوقت نفسه. والحضور هذا لا يتحقق إلا بالتذكر المرتهن بالبحر، وبزمن ما قبل الاستيقاظ تحديدا. وأما النسيان فهو منذور للوقت كله، أي لما بعد الاستيقاظ:
بقدمين بيضاوين يتزلج البحر على الرمل
بلا قدمين يسبح الرمل في البحر
وأنا عند الشرفة، أعبئ ذاكرتي..
نقرأ كذلك:
فراشات صغيرة تعبر،
نهر من الشعر ينحدر من ذاكرة تتثاءب
عند الشرفة في قميص نوم أزرق
الهدير موسيقى داخلية، المد حضور،
الجزر غياب، الزبد بياض بين السطر والسطر.
إن الشاعرة وهي تتأرجح بين أرجوحة الحضور والغياب، بين المد والجزر، تستنجد بالذاكرة لترميم ماض تحول إلى مجرد ذكرى متشظية، من خلال استيلادها، من اللاشيء، كينونة مفترضة، وذلك بمساءلتها لأمكنة أليفة، بتعبير غاستون باشلار، دون أي طمع في أجوبة قد تعصف بحلمها؛ فالجواب قبر السؤال، ومن ثم فإن المساءلة ها هنا، ما هي إلا خطوة نحو ترميم ذاكرة/ حلم مصابة بالوخز الإبري. تقول:
من أي بحر تصب
أيها المتموج
في أغنيات الرمل للريح..؟
من أي أرض منبسطة
تتدفق إلى حلمي..؟
من أي ضوء تأتيني
محترق الفراشات..؟
ليس من شك أن المساءلة في هذا المقام، ما هي إلا مكاشفة إشكالية لأشياء وتفاصيل بسيطة. ولعمري هذا تجل من تجليات فكر ما بعد الحداثة، وإن بشكل مبطن: الحضور والغياب – التذكر والنسيان – المكان الأليف. إن ثنائية الحضور والغياب هي بشكل ما «سيمولاكر» عند فوكو، من حيث «إنه – السيمولاكر- يتجلى ويتوارى في آن. وعالم السيمولاكر هذا ، يحكمه «العود الأبدي» النيتشوي، مما يقوي الخلفية ما بعد الحداثية في الديوان: دريدا، فوكو، نيتشه، هايدغر، باشلار.
قد تكون الشاعرة واعية بهذا المكر المعرفي الخفي، وقد لا تكون؛ إلا أنني أجدها، وهذا هو الأهم، مشبعة جدا بهذه الروح الفلسفية، ما جعل فعل الكتابة، عندها، يرقى إلى ما يسميه بعضهم «الكتابة بالمعرفة».
ولئن كان فعل الكتابة، من بين ما يضطلع به، هو أن يجعلنا نغير النظر إلى الأشياء والعالم، وأن نعيد ترتيب الأمور فيتغير «معنى وجودنا، ونتغير تبعا لتغير المعنى» على حد قول زهور كرام، فإن الشاعرة نسيمة الراوي، من خلال اختياراتها الجمالية، في هذه المجموعة، ما فتئت تشعرن الأشياء والتفاصيل والأمكنة المُفتقدة لمعانيها في العلاقة مع الإنسان، بسبب وحشيته التي جعلت هذه العلاقة تبرد وتتلاشى، حتى أصبحنا نعيش ما سماه بول ريكور ذات مرة «غياب المعنى».
وجماع القول أن الإمكانات الجمالية (البنائية والتيماتية) الكثيرة والمتكثرة، التي فجرتها الشاعرة من خلال هذه التجربة، وازدانت بها نصوص الديوان، قد منحت القائلة والقارئ معا، فرصة الانتباه إلى ما فات أو ضاع منا داخل عالم تستحكم فيه الأفكار الثابتة وأفقية المنظور.
قصتان قصيرتان
عزيز ستراوي
خربشة طفولية
على ورقة بيضاء رسمت رجاء ذات الخمس خريفا شمسا ملتهبة في عز نهارها تسيح من عينيها دمعتان..
نأت رجاء بأناملها قليلا ثم رسمت قمرا شاحبا يسبح في سواد ليله. تحت الشمس كتبت ماما، وتحت القمر بابا.
وبينهما كتبت بحروف بارزة مرتعشة: متى تلتقيان؟.
استراحة بيولوجية
صاحت الترسانة العسكرية : لا..لا.. لا للإبادة… ولكن سنعتقل ما تبقى لدينا من هذه الحثالة الآدمية داخل الأسوار، ونمنحها استراحة بيولوجية لتتكاثر من جديد… فالحديد إذا افتقد إلى دماء تغسله يشيخ، ويصداْ … وراحت كل قطعة من حديد تتهياْ للارتواء… تعبئ نفسها في صمت بالحقد، والذخيرة، وتتربص بنا تحت، وفوق سماء غزة…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جميع طرق الربح مع كيفية الربح من الانترنت